صفحة ١٨٨

﴿وكَذَلِكَ ما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلّا قالَ مُتْرَفُوها إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾

جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ ﷺ عَلى تَمَسُّكِ المُشْرِكِينَ بِدِينِ آبائِهِمْ، والإشارَةُ إلى المَذْكُورِ مِن قَوْلِهِمْ: إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، أيْ ومِثْلُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قالَ المُتْرَفُونَ مِن أهْلِ القُرى المُرْسَلُ إلَيْهِمُ الرُّسُلُ مِن قَبْلِكَ.

والواوُ لِلْعَطْفِ أوْ لِلِاعْتِراضِ (وما الواوُ الِاعْتِراضِيَّةُ في الحَقِيقَةِ إلّا تَعْطِفُ الجُمْلَةَ المُعْتَرِضَةَ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها عَطْفًا لَفْظِيًّا) .

والمَقْصُودُ أنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أهْلِ الضَّلالِ مِنَ السّابِقِينَ واللّاحِقِينَ، قَدِ اسْتَوَوْا فِيهِ كَما اسْتَوَوْا في مُثارِهِ وهو النَّظَرُ القاصِرُ المُخْطِئُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ [الذاريات: ٥٣]، أيْ بَلْ هُمُ اشْتَرَكُوا في سَبَبِهِ الباعِثِ عَلَيْهِ وهو الطُّغْيانُ.

ويَتَضَمَّنُ هَذا تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ ﷺ عَلى ما لَقِيَهُ مِن قَوْمِهِ، بِأنَّ الرُّسُلَ مِن قَبْلِهِ لَقُوا مِثْلَ ما لَقِيَ.

وكافُ التَّشْبِيهِ مُتَعَلِّقٌ بَقَوْلِهِ: (﴿قالَ مُتْرَفُوها﴾) وقُدِّمَ عَلى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمامِ بِهَذِهِ المُشابَهَةِ والتَّشْوِيقِ لِما يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ.

وجُمْلَةُ: إلّا قالَ مُتْرَفُوها. في مَوْضِعِ الحالِ؛ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ هُنا مِن أحْوالٍ مُقَدَّرَةٍ؛ أيْ ما أرْسَلْنا إلى أهْلِ قَرْيَةٍ في حالٍ مِن أحْوالِهِمْ إلّا في حالِ قَوْلٍ قالَهُ مُتْرَفُوها: إنّا وجَدْنا آباءَنا إلَخْ.

والمُتْرَفُونَ: جَمْعُ المُتْرَفِ وهو الَّذِي أُعْطِيَ التَّرَفَ، أيِ النِّعْمَةَ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وارْجِعُوا إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ [الأنبياء: ١٣] في سُورَةِ الأنْبِياءِ.

والمَعْنى: أنَّهم مِثْلُ قُرَيْشٍ في الِازْدِهاءِ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هم فِيها، أيْ في بَطَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. فالتَّشْبِيهُ يَقْتَضِي أنَّهم مِثْلُ الأُمَمِ السّالِفَةِ في سَبَبِ الِازْدِهاءِ وهو ما هم

صفحة ١٨٩

فِيهِ مِن نِعْمَةٍ حَتّى نَسُوا احْتِياجَهم إلى اللَّهِ تَعالى، قالَ تَعالى: ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهم قَلِيلًا﴾ [المزمل: ١١] .

وقَدْ جاءَ في حِكايَةِ قَوْلِ المُشْرِكِينَ الحاضِرِينَ وصْفُهم أنْفُسَهم بِأنَّهم مُهْتَدُونَ بِآثارِ آبائِهِمْ، وجاءَ في حِكايَةِ أقْوالِ السّابِقَيْنِ وصْفُهم أنْفُسَهم بِأنَّهم بِآبائِهِمْ مُقْتَدُونَ، لِأنَّ أقْوالَ السّابِقَيْنِ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُ مُخْتَلِفَها أنَّها اقْتِداءٌ بِآبائِهِمْ، فَحِكايَةُ أقْوالِهِمْ مِن قَبِيلِ حِكايَةِ القَوْلِ بِالمَعْنى، وحِكايَةُ القَوْلِ بِالمَعْنى طَرِيقَةٌ في حِكايَةِ الأقْوالِ كَثُرَ وُرُودُها في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ.