﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾

إنْكارٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهم ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]، فَإنَّهم لَمّا نَصَّبُوا أنْفُسَهم مَنصِبَ مَن يَتَخَيَّرُ أصْنافَ النّاسِ لِلرِّسالَةِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلُوا لِأنْفُسِهِمْ ذَلِكَ لا لِلَّهِ، فَكانَ مِن مُقْتَضى قَوْلِهِمْ أنَّ الِاصْطِفاءَ لِلرِّسالَةِ بِيَدِهِمْ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَ ضَمِيرُ (هم) المَجْعُولُ مُسْنَدًا إلَيْهِ، عَلى مُسْنَدٍ فِعْلِيٍّ لِيُفِيدَ مَعْنى الِاخْتِصاصِ فَسَلَّطَ الإنْكارَ. عَلى هَذا الحَصْرِ إبْطالًا لِقَوْلِهِمْ وتَخْطِئَةً لَهم في تَحَكُّمِهِمْ.

صفحة ٢٠١

ولَمّا كانَ الِاصْطِفاءُ لِلرِّسالَةِ رَحْمَةً لِمَن يُصْطَفى لَها، ورَحْمَةً لِلنّاسِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ، جَعَلَ تَحَكُّمَهم في ذَلِكَ قِسْمَةً مِنهم لِرَحْمَةِ اللَّهِ بِاخْتِيارِهِمْ مَن يَخْتارُ لَها وتَعْيِينِ المُتَأهِّلِ لِإبْلاغِها إلى المَرْحُومِينِ.

ووُجِّهَ الخِطابُ إلى النَّبِيءِ ﷺ وأُضِيفَ لِفَظُ (الرَّبِّ) إلى ضَمِيرِهِ إيماءً إلى أنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُ تَأْنِيسًا لَهُ، لِأنَّ قَوْلَهم ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْءانُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] قَصَدُوا مِنهُ الِاسْتِخْفافَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ شَأْنَهُ بِإبْلاغِ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ بِالإقْبالِ عَلَيْهِ بِالخِطابِ وبِإظْهارِ أنَّ اللَّهَ رَبَّهُ، أيْ مُتَوَلِّي أمْرَهُ وتَدْبِيرَهُ.

وجُمْلَةُ ﴿نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهُمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْإنْكارِ والنَّفْيِ المُسْتَفادِ مِنهُ، واسْتِدْلالٌ عَلَيْهِ، أيْ لَمّا قَسَمْنا بَيْنَ النّاسِ مَعِيشَتَهم فَكانُوا مُسَيَّرِينَ في أُمُورِهِمْ عَلى نَحْوِ ما هَيَّأْنا لَهم مِن نِظامِ الحَياةِ وكانَ تَدْبِيرُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعالى بِبالِغِ حِكْمَتِهِ، فَجَعَلَ مِنهم أقْوِياءَ وضُعَفاءَ، وأغْنِياءَ ومَحاوِيجَ، فَسَخَّرَ بَعْضَهم لِبَعْضٍ في أشْغالِهِمْ عَلى حِسابِ دَواعِي حاجَةِ الحَياةِ، ورَفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ، وجَعَلَ بَعْضَهم مُحْتاجًا إلى بَعْضٍ ومُسَخَّرًا لَهُ.

فَإذا كانُوا بِهَذِهِ المَثابَةِ في تَدْبِيرِ المَعِيشَةِ الدُّنْيا، فَكَذَلِكَ الحالُ في إقامَةِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِلتَّبْلِيغِ فَإنَّ ذَلِكَ أعْظَمُ شُئُونِ البَشَرِ. فَهَذا وجْهُ الِاسْتِدْلالِ.

والسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وبِكَسْرِها وهُما لُغَتانِ ولَمْ يُقْرَأْ في القِراءاتِ المَشْهُورَةِ إلّا بِضَمِّ السِّينِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ في الشّاذِّ بِكَسْرِ السِّينِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ المُسَخَّرِ، أيِ المَجْبُورِ عَلى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيارِهِ، واسْمٌ لِمَن يُسْخَرُ بِهِ، أيْ يُسْتَهْزَأُ بِهِ كَما في مُفْرَداتِ الرّاغِبِ والأساسِ والقامُوسِ. وقَدْ فُسِّرَ هُنا بِالمَعْنَيَيْنِ كَما قالَ القُرْطُبِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُما لُغَتانِ في مَعْنى التَّسْخِيرِ ولا تَدَخُّلَ لِمَعْنى الهُزْءِ في هَذِهِ الآيَةِ. ولَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ وكَلامُ الرّاغِبِ مُحْتَمَلٌ. واقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلى مَعْنى التَّسْخِيرِ. فالوَجْهُ في ذَلِكَ أنَّ المَعْنِيَّيْنِ مُعْتَبَرانِ في هَذِهِ الآيَةِ. وإيثارُ لَفْظِ ”سُخْرِيًّا“ في الآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِتَحَمُّلِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وهو اخْتِيارٌ مِن وُجُوهِ الإعْجازِ؛ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى لِيَتَعَمَّلَ بَعْضُهم بَعْضًا في شُئُونِ حَياتِهِمْ فَإنَّ الإنْسانَ مَدَنِيٌّ، أيْ مُحْتاجٌ إلى إعانَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وعَلَيْهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ وقالَهُ السُّدِّيُّ وقَتادَةُ والضَّحاكُ وابْنُ زَيْدٍ،

صفحة ٢٠٢

فَلامَ ”لِيَتَّخِذَ“ لامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِفِعْلِ قَسَمْنا، أيْ ”قَسَمْنا“ بَيْنَهم مَعِيشَتَهم، أيْ أسْبابَ مَعِيشَتِهِمْ لِيَسْتَعِينَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ فَيَتَعارَفُوا ويَتَجَمَّعُوا لِأجْلِ حاجَةِ بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ فَتَتَكَوَّنَ مِن ذَلِكَ القَبائِلُ والمُدُنُ.

وعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ بَعْضُهم بَعْضًا عامًّا في كُلِّ بَعْضٍ مِنَ النّاسِ إذْ ما مِن أحَدٍ إلّا وهو مُسْتَعْمِلٌ لِغَيْرِهِ وهو مُسْتَعْمَلٌ لِغَيْرٍ آخَرَ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْمًا مِنَ السُّخْرِيَةِ وهي الِاسْتِهْزاءُ. وحَكاهُ القُرْطُبِيُّ ولَمْ يُعَيِّنْ قائِلَهُ وبِذَلِكَ تَكُونُ اللّامُ لِلْعاقِبَةِ مِثْلُ ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] وهو عَلى هَذا تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اسْتُهْزَءُوا بِالمُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ تَعالى ”فاتَّخَذْتُمُوهم سُخْرِيًّا“ في سُورَةِ قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ. وقَدْ جاءَ لَفْظُ السُّخْرِيِّ بِمَعْنى الِاسْتِهْزاءِ في آياتٍ أُخْرى كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فاتَّخَذْتُمُوهم سِخْرِيًّا حَتّى أنْسَوْكم ذِكْرِي وكُنْتُمْ مِنهم تَضْحَكُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٠] وقَوْلُهُ ”﴿أتَّخَذْناهم سُخْرِيًّا أمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصارُ﴾ [ص: ٦٣]“ . ولَعَلَّ الَّذِي عَدَلَ بِبَعْضِ المُفَسِّرِينَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ بِهَذا المَعْنى اسْتِنْكارُهم أنْ يَكُونَ اتِّخاذُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَسْخَرَةً عِلَّةً لِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى في رَفْعِهِ بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، ولَكِنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ واسِعٌ في نَظائِرِهِ وأشْباهِهِ. وتَأْوِيلُ مَعْنى اللّامِ ظاهِرٌ.

وجُمْلَةُ ﴿ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ تَذْيِيلٌ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وفي هَذا التَّذْيِيلِ رَدٌّ ثانٍ عَلَيْهِمْ بِأنَّ المالَ الَّذِي جَعَلُوهُ عِمادَ الِاصْطِفاءِ لِلرِّسالَةِ هو أقَلُّ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ فَهي خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ مِنَ المالِ الَّذِي جَعَلُوهُ سَبَبَ التَّفْضِيلِ حِينَ قالُوا ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] فَإنَّ المالَ شَيْءٌ جَمَعَهُ صاحِبُهُ لِنَفْسِهِ فَلا يَكُونُ مِثْلَ اصْطِفاءِ اللَّهِ العَبْدَ لِيُرْسِلَهُ إلى النّاسِ.

ورَحْمَةُ اللَّهِ: هي اصْطِفاؤُهُ عَبْدَهُ لِلرِّسالَةِ عَنْهُ إلى النّاسِ، وهي الَّتِي في قَوْلِهِ ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾، والمَعْنى: إذا كانُوا غَيْرَ قاسِمِينَ أقَلَّ أحْوالِهِمْ؛ فَكَيْفَ يَقْسِمُونَ ما هو خَيْرٌ مِن أهَمِّ أُمُورِهِمْ.