Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ولَمّا جاءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكم بِالحِكْمَةِ ولِأُبَيِّنَ لَكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ هو رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾
قَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أنَّ هَذا هو المَقْصُودُ مِن ذِكْرِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَهو عَطْفٌ عَلى قِصَّةِ إرْسالِ مُوسى.
ولَمْ يُذْكَرْ جَوابُ (لَمّا) فَهو مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ بَقِيَّةِ الكَلامِ عَلَيْهِ.
ومَوْقِعُ حَرْفِ (لَمّا) هُنا أنَّ مَجِيءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ صارَ مَعْلُومًا لِلسّامِعِ مِمّا تَقَدَّمَ
صفحة ٢٤٦
فِي قَوْلِهِ ﴿إنْ هو إلّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ وجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الزخرف: ٥٩] الآيَةَ، أيْ لَمّا جاءَهم عِيسى اخْتَلَفَ الأحْزابُ فِيما جاءَ بِهِ، فَحُذِفَ جَوابُ (لَمّا) لِأنَّ المَقْصُودَ هو قَوْلُهُ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِن عَذابِ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ [الزخرف: ٦٥] لِأنَّهُ يُفِيدُ أنَّ سَنَنَ الأُمَمِ المَبْعُوثِ إلَيْهِمُ الرُّسُلُ لَمْ يَخْتَلِفْ فَإنَّهُ لَمْ يَخْلُ رَسُولٌ عَنْ قَوْمٍ آمَنُوا بِهِ وقَوْمٍ كَذَّبُوهُ ثُمَّ كانُوا سَواءً في نِسْبَةِ الشُّرَكاءِ في الإلَهِيَّةِ بِمَزاعِمِ النَّصارى أنَّ عِيسى ابْنٌ لِلَّهِ تَعالى كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ فَوَيْلٌ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أيْ أشْرَكُوا كَما هو اصْطِلاحُ القُرْآنِ غالِبًا. فَتَمَّ التَّشابُهُ بَيْنَ الرُّسُلِ السّابِقِينَ وبَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، فَحَصَلَ في الكَلامِ إيجازٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ فاءُ التَّفْرِيعِ.وفِي قِصَّةِ عِيسى مَعَ قَوْمِهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الإشْراكَ مِن عَوارِضِ أهْلِ الضَّلالَةِ لا يَلْبَثُ أنْ يُخامِرَ نُفُوسَهم وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِقًا بِها مِن قَبْلُ، فَإنَّ عِيسى بُعِثَ إلى قَوْمٍ لَمْ يَكُونُوا يَدِينُونَ بِالشِّرْكِ إذْ هو قَدْ بُعِثَ لِبَنِي إسْرائِيلَ وكُلُّهم مُوَحِّدُونَ فَلَمّا اخْتَلَفَ أتْباعُهُ بَيْنَهم وكَذَّبَتْ بِهِ فِرَقٌ وصَدَّقَهُ فَرِيقٌ ثُمَّ لَمْ يَتَّبِعُوا ما أمَرَهم بِهِ لَمْ يَلْبَثُوا أنْ حَدَثَتْ فِيهِمْ نِحْلَةُ الإشْراكِ.
وجُمْلَةُ ﴿قالَ قَدْ جِئْتُكم بِالحِكْمَةِ﴾ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ ﴿جاءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ﴾ ولَيْسَتْ جَوابًا لِشَرْطِ ”لَمّا“ الَّذِي جُعِلَ التَّفْرِيعُ في قَوْلِهِ ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾ [الزخرف: ٦٥] دَلِيلًا عَلَيْهِ.
وفِي إيقاعِ جُمْلَةِ ﴿قَدْ جِئْتُكم بِالحِكْمَةِ﴾ بَيانًا لِجُمْلَةِ ﴿جاءَ عِيسى بِالبَيِّناتِ﴾ إيماءً إلى أنَّهُ بادَأهم بِهَذا القَوْلِ، لِأنَّ شَأْنَ أهْلِ الضَّلالَةِ أنْ يُسْرِعُوا إلى غاياتِها، ولَوْ كانَتْ مَبادِئُ الدَّعْوَةِ تُنافِي عَقائِدَهم، أيْ لَمْ يَدْعُهم عِيسى إلى أكْثَرَ مِنِ اتِّباعِ الحِكْمَةِ وبَيانِ المُخْتَلَفِ فِيهِ ولَمْ يَدْعُهم إلى ما يُنافِي أُصُولَ شَرِيعَةِ التَّوْراةِ ومَعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حالُهُ مِن صُدُودٍ مُرِيعٍ عَنْهُ وتَكْذِيبٍ.
وابْتِداؤُهُ بِإعْلامِهِمْ أنَّهُ جاءَهم بِالحِكْمَةِ والبَيانِ وهو إجْمالُ حالِ رِسالَتِهِ تَرْغِيبٌ لَهم في وعْيِ ما سَيُلْقِيهِ إلَيْهِمْ مِن تَفاصِيلِ الدَّعْوَةِ المُفَرَّعِ بَعْضُها عَلى هَذِهِ المُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ هو رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ﴾ .
والحِكْمَةُ هي مَعْرِفَةُ ما يُؤَدِّي إلى الحَسَنِ ويَكُفُّ عَنِ القَبِيحِ وهي هُنا النُّبُوَّةُ،
صفحة ٢٤٧
وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ.وقَدْ جاءَ عِيسى بِتَعْلِيمِهِمْ حَقائِقَ مِنَ الأخْلاقِ الفاضِلَةِ والمَواعِظِ.
وقَوْلُهُ: ”﴿ولِأُبَيِّنَ لَكُمْ﴾، عُطِفَ عَلى بِالحِكْمَةِ لِأنَّ كِلَيْهِما مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ“ جِئْتُكم ”. واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ. والتَّبْيِينُ: تَجْلِيَةُ المَعانِي الخَفِيَّةِ لِغُمُوضٍ أوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ، والمُرادُ ما بَيَّنَهُ عِيسى في الإنْجِيلِ وغَيْرِهِ مِمّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أفْهامُ اليَهُودِ مِنَ الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ التَّوْراةِ أوْ بِتَعْيِينِ الأحْكامِ لِلْحَوادِثِ الطّارِئَةِ.
ولَمْ يَذْكُرْ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَهُ المَحْكِيَّ في آيَةِ سُورَةِ النِّساءِ ﴿ولِأُحِلَّ لَكم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ٥٠] لِأنَّ ذَلِكَ قَدْ قالَهُ في مَقامٍ آخَرَ.
والمَقْصُودُ حِكايَةُ ما قالَهُ لَهم مِمّا لَيْسَ شَأْنُهُ أنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ قَوْمَهُ بِالتَّكْذِيبِ فَهم كَذَّبُوهُ في وقْتٍ لَمْ يَذْكُرْ لَهم فِيهِ أنَّهُ جاءَ بِنَسْخِ بَعْضِ الأحْكامِ مِنَ التَّوْراةِ، أيْ كَذَّبُوهُ في حالِ ظُهُورِ آياتِ صِدْقِهِ بِالمُعْجِزاتِ وفي حالِ انْتِفاءِ ما مِن شَأْنِهِ أنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ شَكًّا.
وإنَّما قالَ ﴿بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾، إمّا لِأنَّ اللَّهَ أعْلَمَهُ بِأنَّ المَصْلَحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِبَيانِ كُلِّ ما اخْتَلَفُوا فِيهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلى البَعْضِ ثُمَّ يَكْمُلُ بَيانُ الباقِي عَلى لِسانِ رَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِهِ يُبَيِّنُ جَمِيعَ ما يَحْتاجُ إلى البَيانِ.
وإمّا لِأنَّ ما أُوحِيَ إلَيْهِ مِنَ البَيانِ غَيْرُ شامِلٍ لِجَمِيعِ ما هم مُخْتَلِفُونَ في حُكْمِهِ وهو يَنْتَظِرُ بَيانَهُ مِن بَعْدُ تَدْرِيجًا في التَّشْرِيعِ كَما وقَعَ في تَدْرِيجِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ في الإسْلامِ.
وقِيلَ: المُرادُ بِـ ﴿بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ ما كانَ الِاخْتِلافُ فِيهِ راجِعًا إلى أحْكامِ الدِّينِ دُونَ ما كانَ مِنَ الِاخْتِلافِ في أُمُورِ الدُّنْيا.
وفِي قَوْلِهِ ﴿بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ تَهْيِئَةٌ لَهم لِقَبُولِ ما سَيُبَيَّنُ لَهم حِينَئِذٍ أوْ مِن بَعْدُ.
صفحة ٢٤٨
وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى جَوازِ تَأْخِيرِ البَيانِ فِيما لَهُ ظاهِرٌ وفي ما يَرْجِعُ إلى البَيانِ بِالنَّسْخِ، والمَسْألَةُ مِن أُصُولِ الفِقْهِ.وفَرَّعَ عَلى إجْمالِ فاتِحَةِ كَلامِهِ قَوْلَهُ“ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ”. وهَذا كَلامٌ جامِعٌ لِتَفاصِيلِ الحِكْمَةِ وبَيانِ ما يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَإنَّ التَّقْوى مَخافَةَ اللَّهِ. وقَدْ جاءَ في الأثَرِ“ «رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخافَةُ اللَّهِ» ”، وطاعَةُ الرَّسُولِ تَشْمَلُ مَعْنى ﴿ولِأُبَيِّنَ لَكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ فَإذا أطاعُوهُ عَمِلُوا بِما يُبَيِّنُ لَهم فَيَحْصُلُ المَقْصُودُ مِنَ البَيانِ وهو العَمَلُ. وأجْمَعُ مِنهُ «قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ لِسُفْيانَ الثَّقَفِيِّ وقَدْ سَألَهُ أنْ يَقُولَ لَهُ في الإسْلامِ قَوْلًا لا يَسْألُ عَنْهُ أحَدًا غَيْرَهُ قُلْ آمَنتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، لِأنَّهُ ألْيَقُ بِكَلِمَةٍ جامِعَةٍ في شَرِيعَةٍ لا يُتَرَقَّبُ بَعْدَها مَجِيءُ شَرِيعَةٍ أُخْرى، بِخِلافِ قَوْلِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ“ وأطِيعُونِ ”فَإنَّهُ مَحْدُودٌ بِمُدَّةِ وُجُودِهِ بَيْنَهم.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ هو رَبِّي ورَبُّكُمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ لِأنَّهُ إذا ثَبَتَ تَفَرُّدُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ تَوَجَّهَ الأمْرُ بِعِبادَتِهِ إذْ لا يَخافُ اللَّهَ إلّا مَنِ اعْتَرَفَ بِرُبُوبِيَّتِهِ وانْفِرادِهِ بِها.
وضَمِيرُ الفَصْلِ أفادَ القَصْرَ، أيِ اللَّهُ رَبِّي لا غَيْرُهُ. وهَذا إعْلانٌ بِالوَحْدانِيَّةِ وإنْ كانَ القَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ عِيسى مُوَحِّدِينَ، لَكِنْ قَدْ ظَهَرَتْ بِدْعَةٌ في بَعْضِ فِرَقِهِمُ الَّذِينَ قالُوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] .
وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِـ (إنَّ) لِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ فَإنَّ المُخاطَبِينَ غَيْرُ مُنْكِرِينَ ذَلِكَ.
وتَقْدِيمُ نَفْسِهِ عَلى قَوْمِهِ في قَوْلِهِ“ ﴿رَبِّي ورَبُّكُمْ﴾ ”لِقَصْدِ سَدِّ ذَرائِعِ الغُلُوِّ في تَقْدِيسِ عِيسى، وذَلِكَ مِن مُعْجِزاتِهِ لِأنَّ اللَّهَ عَلِمَ أنَّهُ سَتَغْلُو فِيهِ فِرَقٌ مِن أتْباعِهِ فَيَزْعُمُونَ بُنُوَّتَهَ مِنَ اللَّهِ عَلى الحَقِيقَةِ، ويَضِلُّونَ بِكَلِماتِ الإنْجِيلِ الَّتِي يَقُولُ فِيها عِيسى: أبِي، مُرِيدًا بِهِ اللَّهَ تَعالى.
وفُرِّعَ عَلى إثْباتِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ الأمْرُ بِعِبادَتِهِ بِقَوْلِهِ“ فاعْبُدُوهُ " فَإنَّ المُنْفَرِدَ بِالإلَهِيَّةِ حَقِيقٌ بِأنْ يُعْبَدَ.
صفحة ٢٤٩
والإشارَةُ بِـ ﴿هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: ٦١] إلى مَضْمُونِ قَوْلِهِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ، أيْ هَذا طَرِيقُ الوُصُولِ إلى الفَوْزِ عَنْ بَصِيرَةٍ ودُونَ تَرَدُّدٍ، كَما أنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ لا يَنْبَهِمُ السَّيْرُ فِيهِ عَلى السّائِرِ.