﴿رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ﴾

هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿هَذا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الدخان: ١١] وجُمْلَةُ ﴿أنّى لَهُمُ الذِّكْرى﴾ [الدخان: ١٣] فَهي مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ.

وحَمَلَها جَمِيعُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّها حِكايَةُ قَوْلِ الَّذِينَ يَغْشاهُمُ العَذابُ بِتَقْدِيرِ يَقُولُونَ: رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ، أيْ هو وعْدٌ صادِرٌ مِنَ النّاسِ الَّذِينَ يَغْشاهُمُ العَذابُ بِأنَّهم يُؤْمِنُونَ أنْ كُشِفَ عَنْهُمُ العَذابُ (أيْ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الزُّخْرُفِ ﴿وقالُوا يا أيُّها السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٩]، أيْ إنْ دَعَوْتَ رَبَّكَ اتَّبَعْناكَ) ويَكُونُ بِمَعْنى قَوْلِهِ في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿ولَمّا وقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ [الأعراف: ١٣٤] إلى قَوْلِهِ ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ﴾ [الأعراف: ١٣٤] .

ومِمّا تَسْمَحُ بِهِ تَراكِيبُ الآيَةِ وسِياقُها أنْ يَكُونَ القَوْلُ المَحْذُوفُ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ أمْرٍ أيْ قُولُوا لِتَلْقِينِ المُسْلِمِينَ أنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِن أنْ يُصِيبَهم ذَلِكَ العَذابُ إذْ كانُوا

صفحة ٢٩٠

والمُشْرِكِينَ في بَلَدٍ واحِدٍ كَما اسْتَعاذَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ ﴿أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا﴾ [الأعراف: ١٥٥] . وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ المُؤْمِنِينَ مِن مَكَّةَ قَبْلَ أنْ يَحُلَّ بِأهْلِها هَذا العَذابُ، فَهَذا التَّلْقِينُ كالَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] الآياتِ.

وعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ ﴿إنّا مُؤْمِنُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ دَفْعِ العَذابِ عَنْهم، أيْ إنّا مُتَلَبِّسُونَ بِما يَدْفَعُ عَنّا عَذابَ الكافِرِينَ، وفي تَلْقِينِهِمْ بِذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَرَفِ الإيمانِ، وأُسْلُوبُ الكَلامِ جارٍ عَلى أنَّ جُمْلَةَ إنّا مُؤْمِنُونَ تَعْلِيلٌ لِطَلَبِ كَشْفِ العَذابِ عَنْهم لِما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اسْتِعْمالِ حَرْفِ (إنَّ) مِن مَعْنى الإخْبارِ دُونَ الوَعْدِ، ومِنَ التَّعْلِيلِ دُونَ التَّأْكِيدِ، ولِما يَقْتَضِيهِ اسْمُ الفاعِلِ مِن زَمَنِ الحالِ دُونَ الِاسْتِقْبالِ، ولِأنَّ سِياقَهُ خِطابٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِتَرَقُّبِ إعانَةِ اللَّهِ إيّاهُ عَلى المُشْرِكِينَ، كَما كانَ يَدْعُو أعْنِي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسِنِي يُوسُفَ فَمُقْتَضى المَقامِ تَأْمِينُهُ مِن أنْ يُصِيبَ العَذابُ المُسْلِمِينَ وفِيهِمُ النَّبِيءُ ﷺ، وظاهِرُ مادَّةِ الكَشْفِ تَقْتَضِي إزالَةَ شَيْءٍ كانَ حاصِلًا في شَيْءٍ إلّا أنَّ الكَشْفَ هُنا لَمّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا في مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ كانَ مَجازُهُ مُحْتَمِلًا أنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا في مَنعِ حُصُولٍ يُخْشى حُصُولُهُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [يونس: ٩٨] فَإنَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمْ يَحُلَّ بِهِمْ عَذابٌ فَزالَ عَنْهم ولَكِنَّهم تُوُعِّدُوا بِهِ فَبادَرُوا بِالإيمانِ فَنَجّاهُمُ اللَّهُ مِنهُ، وقَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الحارِثِيِّ:

لا يَكْشِفُ الغَماءَ إلّا ابْنُ حُرَّةٍ يَرى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها

أرادَ أنَّهُ يَمْنَعُ العَدُوَّ مِن أنْ يَنالَهم بِسُوءٍ، ومُحْتَمِلًا لِلِاسْتِعْمالِ في زَوالِ شَيْءٍ كانَ حَصَلَ.

ولَمْ يَذْكُرْ أحَدٌ مِن رُواةِ السِّيَرِ والآثارِ أنَّ المُشْرِكِينَ وعَدُوا النَّبِيءَ ﷺ بِأنَّهم يُسْلِمُونَ إنْ أزالَ اللَّهُ عَنْهُمُ القَحْطَ.