﴿ولَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهم قَوْمَ فِرْعَوْنَ وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ إنِّيَ آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾

جَعَلَ اللَّهُ قِصَّةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وبَنِي إسْرائِيلَ مَثَلًا لِحالِ المُشْرِكِينَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ بِهِ، وجَعَلَ ما حَلَّ بِهِمْ إنْذارًا بِما سَيَحِلُّ بِالمُشْرِكِينَ مِنَ القَحْطِ والبَطْشَةِ مَعَ تَقْرِيبِ حُصُولِ ذَلِكَ وإمْكانِهِ ويُسْرِهِ وإنْ كانُوا في حالَةِ قُوَّةٍ فَإنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلَيْهِمْ، كَما قالَ تَعالى فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا فَذِكْرُها هُنا تَأْيِيدٌ لِلنَّبِيءِ ووَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ وحُسْنِ العاقِبَةِ، وتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.

وهَذا المَثَلُ وإنْ كانَ تَشْبِيهًا لِمَجْمُوعِ الحالَةِ بِالحالَةِ فَهو قابِلٌ لِلتَّوْزِيعِ بِأنْ يُشَبَّهَ أبُو جَهْلٍ بِفِرْعَوْنَ، ويُشَبَّهَ أتْباعُهُ بِمَلَأِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ أوْ يُشَبَّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ويُشَبَّهُ المُسْلِمُونَ بِبَنِي إسْرائِيلَ. وقَبُولُ المَثَلِ لِتَوْزِيعِ التَّشْبِيهِ مِن مَحاسِنِهِ.

ومَوْقِعُ جُمْلَةِ ولَقَدْ فَتَنّا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْقِعَ الحالِ فَتَكُونُ الواوُ لِلْحالِ وهي حالٌ مِن ضَمِيرِ إنّا مُنْتَقِمُونَ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ إنّا مُنْتَقِمُونَ، أيْ مُنْتَقِمُونَ مِنهم في المُسْتَقْبَلِ وانْتَقَمْنا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِيما مَضى.

وأشْعَرَ قَوْلُهُ قَبْلَهم أنَّ أهْلَ مَكَّةَ سَيُفْتَنُونَ كَما فُتِنَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، فَكانَ هَذا الظَّرْفُ مُؤْذِنًا بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ عَلى طَرِيقَةِ الإيجازِ، والتَّقْدِيرُ: إنّا مُنْتَقِمُونَ فَفاتِنُوهم فَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهم قَوْمَ فِرْعَوْنَ، ومُؤْذِنًا بِأنَّ المَذْكُورَ كالدَّلِيلِ عَلى تَوَقُّعِ ذَلِكَ وإمْكانِهِ وهو إيجازٌ آخَرُ.

صفحة ٢٩٥

والمَقْصُودُ تَشْبِيهُ الحالَةِ بِالحالَةِ ولَكِنْ عُدِلَ عَنْ صَوْغِ الكَلامِ بِصِيغَةِ التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ إلى صَوْغِهِ بِصِيغَةِ الإخْبارِ اهْتِمامًا بِالقِصَّةِ وإظْهارًا بِأنَّها في ذاتِها مِمّا يَهِمُّ العِلْمُ بِهِ، وأنَّها تَذْكِيرٌ مُسْتَقِلٌّ وأنَّها غَيْرُ تابِعَةٍ غَيْرَها.

ولِأنَّ جُمْلَةَ وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ عُطِفَتْ عَلى جُمْلَةِ فَتَنّا أيْ ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ، عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلى مُجْمَلٍ، وإنَّما جاءَ مَعْطُوفًا إذِ المَذْكُورُ فِيهِ أكْثَرُ مِن مَعْنى الفِتْنَةِ، فَلا تَكُونُ جُمْلَةً وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ بَيانًا لِجُمْلَةِ ”فَتَنّا“ بَلْ هي تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ بَعْثَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ.

والفَتْنُ: الإيقاعُ في اخْتِلالِ الأحْوالِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والرَّسُولُ الكَرِيمُ: مُوسى، والكِرِيمُ: النَّفِيسُ الفائِقُ في صِنْفِهِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] في سُورَةِ النَّمْلِ، أيْ رَسُولٌ مِن خِيرَةِ الرُّسُلِ أوْ مِن خِيرَةِ النّاسِ.

وأنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ تَفْسِيرٌ لِما تَضَمَّنَهُ وصْفُ ”رَسُولٌ“ وفِعْلُ جاءَهم مِن مَعْنى الرِّسالَةِ والتَّبْلِيغِ فَفِيهِما مَعْنى القَوْلِ.

ومَعْنى أدُّوا إلَيَّ أرْجِعُوا إلَيَّ وأعْطُوا قالَ تَعالى ومِنهم مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ، يُقالُ: أدّى الشَّيْءَ أوْصَلَهُ وأبْلَغَهُ. وهَمْزَةُ الفِعْلِ أصْلِيَّةٌ وهو مُضاعَفُ العَيْنِ ولَمْ يُسْمَعْ مِنهُ فِعْلٌ سالِمٌ غَيْرُ مُضاعَفٍ، جَعَلَ بَنِي إسْرائِيلَ كالأمانَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ.

وخِطابُ الجَمْعِ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ. والمُرادُ: فِرْعَوْنُ ومَن حَضَرَ مِن مَلَئِهِ لَعَلَّهم يُشِيرُونَ عَلى فِرْعَوْنَ بِالحَقِّ، ولَعَلَّهُ إنَّما خاطَبَ مَجْمُوعَ المَلَأِ لَمّا رَأى مِن فِرْعَوْنَ صَلَفًا وتَكَبُّرًا مِنَ الِامْتِثالِ، فَخاطَبَ أهْلَ مَشُورَتِهِ لَعَلَّ فِيهِمْ مَن يَتَبَصَّرُ الحَقَّ.

و”عِبادَ اللَّهِ“ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولَ ”أدُّوا“ مُرادًا بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ، أُجْرِيَ وصْفُهم عِبادَ اللَّهِ تَذْكِيرًا لِفِرْعَوْنَ بِمُوجَبِ رَفْعِ الِاسْتِعْبادِ عَنْهم، وجاءَ في سُورَةِ الشُّعَراءِ أنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ فَحَصَلَ أنَّهُ وصَفَهم بِالوَصْفَتَيْنِ، فَوَصْفُ

صفحة ٢٩٦

عِبادَ اللَّهِ مُبْطِلٌ لِحُسْبانِ القِبْطِ إيّاهم عَبِيدًا كَما قالَ وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ وإنَّما هم عِبادُ اللَّهِ، أيْ أحْرارٌ فَعِبادُ اللَّهِ كِنايَةٌ عَنِ الحُرِّيَّةِ كَقَوْلِ بِشارٍ يُخاطِبُ نَفْسَهُ:

أصْبَحْتَ مَوْلى ذِي الجَلالِ وبَعْضُهم مَوْلى العَبِيدِ فَلُذْ بِفَضْلِكَ وافْخَرِ

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولُ فِعْلِ أدُّوا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ المَقامُ، أيْ أدَّوْا إلَيَّ الطّاعَةَ ويَكُونُ عِبادَ اللَّهِ مُنادى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّداءِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظّاهِرُ مِن شَرْعِ مُوسى أنَّهُ بُعِثَ إلى دُعاءِ فِرْعَوْنَ لِلْإيمانِ وأنْ يُرْسِلَ بَنِي إسْرائِيلَ، فَلَمّا أبى فِرْعَوْنُ أنْ يُؤْمِنَ ثَبَتَتِ المُكافَحَةُ في أنْ يُرْسِلَ بَنِي إسْرائِيلَ، قالَ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾ .

وقَوْلُهُ ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ عِلَّةٌ لِلْأمْرِ بِتَسْلِيمِ بَنِي إسْرائِيلَ إلَيْهِ، أيْ لِأنِّي مُرْسِلٌ إلَيْكم بِهَذا، وأنا أمِينٌ، أيْ مُؤْتَمَنٌ عَلى أنِّي رَسُولٌ لَكم.

وتَقْدِيمُ لَكم عَلى رَسُولٍ لِلِاهْتِمامِ بِتَعَلُّقِ الإرْسالِ بِأنَّهُ لَهُمُ ابْتِداءً بِأنْ يُعْطُوهُ بَنِي إسْرائِيلَ لِأنَّ ذَلِكَ وسِيلَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِن إرْسالِهِ لِتَحْرِيرِ أُمَّةِ إسْرائِيلَ والتَّشْرِيعِ لَها، ولَيْسَ قَوْلُهُ لَكم خِطابًا لِبَنِي إسْرائِيلَ فَإنَّ مُوسى قَدْ أبْلَغَ إلى بَنِي إسْرائِيلَ رِسالَتَهُ مَعَ التَّبْلِيغِ إلى فِرْعَوْنَ قالَ تَعالى ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: ٨٣]، ولِيَكُونَ امْتِناعُ فِرْعَوْنَ مِن تَسْرِيحِ بَنِي إسْرائِيلَ مُبَرِّرًا لِانْسِلاخِ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْ طاعَةِ فِرْعَوْنَ وفِرارِهِمْ مِن بِلادِهِ.

وعَطَفَ عَلى طَلَبِ تَسْلِيمِ بَنِي إسْرائِيلَ نَهْيًا عَنِ الِاسْتِكْبارِ عَنْ إجابَةِ أمْرِ اللَّهِ أنَفَةً مِنَ الحَطِّ مِن عَظَمَتِهِ في أنْظارِ قَوْمِهِمْ فَقالَ ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ﴾ أيْ لا تَعْلُوا عَلى أمْرِهِ أوْ عَلى رَسُولِهِ فَلَمّا كانَ الِاعْتِلاءُ عَلى أمْرِ اللَّهِ وأمْرِ رَسُولِهِ تَرْفِيعًا لِأنْفُسِهِمْ عَلى واجِبِ امْتِثالِ رَبِّهِمْ جَعَلُوا في ذَلِكَ كَأنَّهم يَتَعالَوْنَ عَلى اللَّهِ.

و﴿وأنْ لا تَعْلُوا﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ﴾ . وأُعِيدَ حَرْفُ (أنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ لِزِيادَةِ تَأْكِيدِ التَّفْسِيرِ لِمَدْلُولِ الرِّسالَةِ. و(لا) ناهِيَةٌ، وفِعْلُ ”تَعْلُوا“ مَجْزُومٌ بِـ (لا) النّاهِيَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ عِلَّةٌ جَدِيرَةٌ بِالعَوْدِ إلى الجُمَلِ الثَّلاثَةِ

صفحة ٢٩٧

المُتَقَدِّمَةِ وهي ﴿أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ﴾، ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾، ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ﴾ لِأنَّ المُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلى تَحَقُّقِ مَضامِينِ تِلْكَ الجُمَلِ مَعْلُولِها وعِلَّتِها.

والسُّلْطانُ مِن أسْماءِ الحُجَّةِ قالَ تَعالى ﴿إنْ عِنْدَكم مِن سُلْطانٍ بِهَذا﴾ [يونس: ٦٨] فالحُجَّةٌ تُلْجِئُ المَحْجُوجَ عَلى الإقْرارِ لِمَن يُحاجُّهُ فَهي كالمُتَسَلِّطِ عَلى نَفْسِهِ.

والمُعْجِزَةُ: حُجَّةٌ عَظِيمَةٌ ولِذَلِكَ وصِفَ السُّلْطانُ بِـ ”مُبِينٍ“، أيْ واضِحِ الدَّلالَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وهَذِهِ المُعْجِزَةُ هي انْقِلابُ عَصاهُ ثُعْبانًا مُبِينًا.

و”آتِيكم“ مُضارِعٌ أوِ اسْمُ فاعِلِ (أتى) . وعَلى الِاحْتِمالَيْنِ فَهو مُقْتَضٍ لِلْإتْيانِ بِالحُجَّةِ في الحالِ.

وجُمْلَةُ ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي﴾ عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ ﴿أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ﴾ فَإنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِمّا شَمِلَهُ كَلامُهُ حِينَ تَبْلِيغِ رِسالَتِهِ فَكانَ داخِلًا في مُجْمَلِ مَعْنى ﴿وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ المُفَسَّرِ بِما بَعْدَ (أنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ.

ومَعْناهُ: تَحْذِيرُهم مِن أنْ يَرْجُمُوهُ لِأنَّ مَعْنى ﴿عُذْتُ بِرَبِّي﴾ جَعَلْتُ رَبِّي عَوْذًا، أيْ مَلْجَأً. والكَلامُ عَلى الِاسْتِعارَةِ بِتَشْبِيهِ التَّذْكِيرِ بِخَوْفِ اللَّهِ الَّذِي يَمْنَعُهم مِنَ الِاعْتِداءِ عَلَيْهِ بِالِالتِجاءِ إلى حِصْنٍ أوْ مَعْقِلٍ بِجامِعِ السَّلامَةِ مِنَ الِاعْتِداءِ. ومِثْلُ هَذا التَّرْكِيبِ مِمّا جَرى مَجْرى المَثَلِ، ومِنهُ قَوْلُهُ في سُورَةِ مَرْيَمَ ﴿قالَتْ إنِّي أعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ١٨]، وقالَ أحَدُ رُجّازِ العَرَبِ:

قالَتْ وفِيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ ∗∗∗ عَوْذٌ بِرَبِّي مِنكُمُ وحِجْرُ

والتَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِوَصْفِ رَبِّي ورَبِّكم لِأنَّهُ أُدْخِلَ في ارْعِوائِهِمْ مِن رَجْمِهِ حِينَ يَتَذَكَّرُونَ أنَّهُ اسْتَعْصَمَ بِاللَّهِ الَّذِي يَشْتَرِكُونَ في مَرْبُوبِيَّتِهِ، وأنَّهم لا يَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِهِ.

والرَّجْمُ: الرَّمْيُ بِالحِجارَةِ تِباعًا حَتّى يَمُوتَ المَرْمِيُّ أوْ يُثْخِنَهُ الجِراحُ. والقَصْدُ مِنهُ تَحْقِيرُ المَقْتُولِ لِأنَّهم كانُوا يَرْمُونَ بِالحِجارَةِ مَن يَطْرُدُونَهُ، قالَ ﴿فاخْرُجْ مِنها فَإنَّكَ رَجِيمٌ﴾ [الحجر: ٣٤] .

صفحة ٢٩٨

وإنَّما اسْتَعاذَ مُوسى مِنهُ لِأنَّهُ عَلِمَ أنَّ عادَتَهم عِقابُ مَن يُخالِفُ دِينَهم بِالقَتْلِ رَمْيًا بِالحِجارَةِ. وجاءَ في سُورَةِ القَصَصِ ﴿فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ﴾ [الشعراء: ١٤] . ومَعْنى ذَلِكَ إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِما جِئْتُ بِهِ فَلا تَقْتُلُونِي، كَما دَلَّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي﴾ .

والمَعْنى: إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِالمُعْجِزَةِ الَّتِي آتِيكم بِها فَلا تَرْجُمُونِي فَإنِّي أعُوذُ بِاللَّهِ مِن أنْ تَرْجُمُونِي ولَكِنِ اعْتَزِلُونِي فَكُونُوا غَيْرَ مُوالِينَ لِي وأكُونُ مَعَ قَوْمِي بَنِي إسْرائِيلَ، فالتَّقْدِيرُ: فاعْتَزِلُونِي وأعْتَزِلُكم لِأنَّ الِاعْتِزالَ لا يَتَحَقَّقُ إلّا مِن جانِبَيْنِ.

وجِيءَ في شَرْطِ ﴿إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي﴾ بِحَرْفِ (إنَّ) الَّتِي شَأْنُها أنْ تُسْتَعْمَلَ في الشَّرْطِ غَيْرِ المُتَيَقَّنِ لِأنَّ عَدَمَ الإيمانِ بِهِ بَعْدَ دِلالَةِ المُعْجِزَةِ عَلى صِدْقِهِ مِن شَأْنِهِ أنْ يَكُونَ غَيْرَ واقِعٍ فَيُفْرَضَ عَدَمُهُ كَما يُفْرَضُ المُحالُ. ولَعَلَّهُ قالَ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ بِإخْراجِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ، أوْ أرادَ: فاعْتَزِلُونِي زَمَنًا، يَعْنِي إلى أنْ يُعَيِّنَ لَهُ اللَّهُ زَمَنَ الخُرُوجِ.

وعُدِّيَ تُؤْمِنُوا بِاللّامِ لِأنَّهُ يُقالُ: آمَنَ بِهِ وآمَنَ لَهُ، قالَ تَعالى ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: ٢٦]، وأصْلُ هَذِهِ اللّامِ لامُ العِلَّةِ عَلى تَضْمِينِ فِعْلِ الإيمانِ مَعْنى الرُّكُونِ.

وقَدْ جاءَ تَرْتِيبُ فَواصِلِ هَذا الخِطابِ عَلى مُراعاةِ ما يَبْدُو مِن فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ عِنْدَ إلْقاءِ مُوسى دَعْوَتَهُ عَلَيْهِمْ إذِ ابْتَدَأ بِإبْلاغِ ما أُرْسِلَ بِهِ إلَيْهِمْ فَآنَسَ مِنهُمُ التَّعَجُّبَ والتَّرَدُّدَ فَقالَ ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ فَرَأى مِنهُمُ الصَّلَفَ والأنَفَةَ فَقالَ ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ﴾ فَلَمْ يَرْعَوْا فَقالَ ﴿إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾، فَلاحَتْ عَلَيْهِمْ عَلاماتُ إضْمارِ السُّوءِ لَهُ فَقالَ ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾، فَكانَ هَذا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الجُمَلِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ ما أجابُوا بِهِ عَلى أبْدَعِ إيجازٍ.