﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾

عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ﴾ [الدخان: ٣٤] ﴿إنْ هي إلّا مَوْتَتُنا الأُولى﴾ [الدخان: ٣٥] رَدًّا عَلَيْهِمْ كَما عَلِمْتَهُ آنِفًا. والمَعْنى: أنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْثٌ وجَزاءٌ لَكانَ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما عَبَثًا، ونَحْنُ خَلَقْنا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالحَقِّ، أيْ بِالحِكْمَةِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ إتْقانُ نِظامِ المَوْجُوداتِ، فَلا جَرَمَ اقْتَضى خَلْقَ ذَلِكَ أنْ يُجازى كُلُّ فاعِلٍ عَلى فِعْلِهِ وأنْ لا يُضاعُ ذَلِكَ، ولَمّا كانَ المُشاهَدُ أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَقْضِي حَياتَهُ ولا يَرى لِنَفْسِهِ جَزاءً عَلى أعْمالِهِ تَعَيَّنَ أنَّ اللَّهَ أخَّرَ جَزاءَهم إلى حَياةٍ أُخْرى وإلّا لَكانَ خَلْقُهم في بَعْضِ أحْوالِهِ مِن قَبِيلِ اللَّعِبِ.

وذِكْرُ اللَّعِبِ تَوْبِيخٌ لِلَّذِينِ أحالُوا البَعْثَ والجَزاءَ بِأنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ما يُفْضِي بِهِمْ إلى جَعْلِ أفْعالِ الحَكِيمِ لَعِبًا، وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ المُلازَمَةِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] في سُورَةِ المُؤْمِنُونَ وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: ٢٧] في سُورَةِ ص.

و”لاعِبِينَ“ حالٌ مِن ضَمِيرِ ”خَلَقْنا“، والنَّفْيُ مُتَوَجِّهٌ إلى هَذا الحالِ فاقْتَضى نَفْيَ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِن خَلْقِ ذَلِكَ في حالَةِ عَبَثٍ فَمِن ذَلِكَ حالَةُ إهْمالِ الجَزاءِ.

وجُمْلَةُ ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ .

والباءُ في بِالحَقِّ لِلْمُلابَسَةِ، أيْ خَلَقْنا ذَلِكَ مُلابِسًا ومُقارِنًا لِلْحَقِّ، أوِ الباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أيْ بِسَبَبِ الحَقِّ، أيْ لِإيجادِ الحَقِّ مِن خَلْقِهِما.

والحَقُّ: ما يَحِقُّ وُقُوعُهُ مِن عَمَلٍ أوْ قَوْلٍ، أيْ يَجِبُ ويَتَعَيَّنُ لِسَبَبِيَّةٍ أوْ تَفَرُّعٍ أوْ

صفحة ٣١١

مُجازاةٍ، فَمِنَ الحَقِّ الَّذِي خُلِقَتِ السَّماواتُ والأرْضُ وما بَيْنَهُما لِأجْلِهِ مُكافَأةُ كُلِّ عامِلٍ بِما يُناسِبُ عَمَلَهُ ويُجازِيهِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الروم: ٨] في سُورَةِ الرُّومِ.

والِاسْتِدْراكُ في قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ناشِئٌ عَمّا أفادَهُ نَفْيُ أنْ يَكُونَ خَلْقُ المَخْلُوقاتِ لَعِبًا وإثْباتُ أنَّهُ لِلْحَقِّ لا غَيْرَ مِن كَوْنِ شَأْنِ ذَلِكَ أنْ لا يَخْفى ولَكِنَّ جَهْلَ المُشْرِكِينَ هو الَّذِي سَوَّلَ لَهم أنْ يَقُولُوا " ما نَحْنُ بِمَنشَرِينَ.

وجُمْلَةُ الِاسْتِدْراكِ تَذْيِيلٌ، وقَرِيبٌ مِن مَعْنى الآيَةِ قَوْلُهُ ﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وإنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾ [الحجر: ٨٥] في آخِرِ سُورَةِ الحِجْرِ.