﴿أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾

جِيءَ بِاسْمِ الإشارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ ما ذُكِرَ مِنَ الأوْصافِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ [الجاثية: ٧] إلى قَوْلِهِ ”هُزُؤًا“ عَلى أنَّ المُشارَ إلَيْهِمْ أحْرِياءٌ بِهِ لِأجْلِ ما قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ مِنَ الأوْصافِ.

وجُمْلَةُ ”مِن ورائِهِمْ“ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨] . وفي قَوْلِهِ ”مِن ورائِهِمْ“ تَحْقِيقٌ لِحُصُولِ العَذابِ وكَوْنِهِ قَرِيبًا مِنهم وأنَّهم غافِلُونَ عَنِ اقْتِرابِهِ كَغَفْلَةِ المَرْءِ عَنْ عَدُوٍّ يَتْبَعُهُ مِن ورائِهِ لِيَأْخُذَهُ فَإذا نَظَرَ إلى أمامِهِ حَسِبَ نَفْسَهُ آمِنًا.

فَفِي الوَراءِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلِاقْتِرابِ والغَفْلَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: ٧٩]، وقَوْلُ لَبِيدٍ:

ألَيْسَ ورائِي إنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِي لُزُومُ العَصا تُحْنى عَلَيْها الأصابِعُ

ومَن فَسَّرَ وراءَ بِقُدّامٍ، فَما رَعى حَقَّ الكَلامِ.

وعَطَفَ جُمْلَةَ ﴿ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا﴾ عَلى جُمْلَةِ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ العَذابِ المُهِينِ فَإنَّ فِقْدانَ الفِداءِ وفِقْدانَ الوَلِيِّ مِمّا يَزِيدُ العَذابَ شِدَّةً ويُكْسِبُ المُعاقَبَ إهانَةً.

ومَعْنى الإغْناءِ في قَوْلِهِ ”ولا يُغْنِي عَنْهُمُ“ الكِفايَةُ والنَّفْعُ، أيْ لا يَنْفَعُهم.

وعُدِّيَ بِحَرْفِ (عَنْ) لِتَضْمِينِهِ مَعْنى يَدْفَعُ فَكَأنَّهُ عَبَّرَ بِفِعْلَيْنِ لا يُغْنِيهِمْ وبِالدَّفْعِ

صفحة ٣٣٤

عَنْهم، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

وما كَسَبُوا: أمْوالُهم.

و”شَيْئًا“ مَنصُوبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، أيْ شَيْئًا مِنَ الإغْناءِ لِأنَّ شَيْئًا مِن أسْماءِ الأجْناسِ العالِيَةِ فَهو مُفَسَّرٌ بِما وقَعَ قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ، وتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ، أيْ لا يَدْفَعُ عَنْهم ولَوْ قَلِيلًا مِن جَهَنَّمَ، أيْ عَذابِها.

”ولا ما اتَّخَذُوا“ عُطِفَ عَلى ”ما كَسَبُوا“ وأُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ لِلتَّأْكِيدِ، و”أوْلِياءَ“ مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ ”اتَّخَذُوا“ . وحُذِفَ مَفْعُولُهُ الأوَّلُ وهو ضَمِيرُهم لِوُقُوعِهِ في حَيِّزِ الصِّلَةِ فَإنَّ حَذْفَ مِثْلِهِ في الصِّلَةِ كَثِيرٌ.

وأُرْدِفَ ”عَذابٌ مُهِينٌ“ بِعَطْفِ ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ لِإفادَةِ أنَّ لَهم عَذابًا غَيْرَ ذَلِكَ وهو عَذابُ الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ، فالعَذابُ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ غَيْرُ العَذابِ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ .