﴿هَذا هُدًى والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ ألِيمٍ﴾

جُمْلَةُ ”هَذا هُدًى“ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ مِن وصْفِ القُرْآنِ في ذاتِهِ بِأنَّهُ مَنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وأنَّهُ مِن آياتِ اللَّهِ إلى وصْفِهِ بِأفْضَلِ صِفاتِهِ بِأنَّهُ هُدًى، فالإشارَةُ بِقَوْلِهِ هَذا إلى القُرْآنِ الَّذِي هو في حالِ النُّزُولِ والتِّلاوَةِ فَهو كالشَّيْءِ المُشاهَدِ، ولِأنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِن أوْصافِهِ مِن قَوْلِهِ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [الجاثية: ٢] وقَوْلِهِ ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ٦] إلى آخِرِهِ ما صَيَّرَهُ مُتَمَيِّزًا شَخْصًا بِحُسْنِ الإشارَةِ إلَيْهِ.

ووَصَفَ القُرْآنَ بِأنَّهُ هُدًى مِنَ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ، أيْ: هادٍ لِلنّاسِ، فَمَن آمَنَ فَقَدِ اهْتَدى ومَن كَفَرَ بِهِ فَلَهُ عَذابٌ لِأنَّهُ حَرَمَ نَفْسَهُ مِنَ الهُدى فَكانَ في الضَّلالِ وارْتَبَقَ في المَفاسِدِ والآثامِ.

صفحة ٣٣٥

فَجُمْلَةُ ”والَّذِينَ كَفَرُوا“ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ”هَذا هُدًى“ والمُناسَبَةُ أنَّ القُرْآنَ مِن جُمْلَةِ آياتِ اللَّهِ وأنَّهُ مُذَكِّرٌ بِها، فالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ كَفَرُوا بِالقُرْآنِ في عُمُومِ الآياتِ، وهَذا واقِعٌ مَوْقِعَ التَّذْيِيلِ لِما تُقَدِّمُهُ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ ﴿ويْلٌ لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ [الجاثية: ٧] .

وجِيءَ بِالمَوْصُولِ وصِلَتِهِ لِما تُشْعِرُ بِهِ الصِّلَةُ مِن أنَّهم حَقِيقُونَ بِالعِقابِ.

واسْتَحْضَرُوا في هَذا المَقامِ بِعُنْوانِ الكُفْرِ دُونَ عُنْوانَيِ الإصْرارِ والِاسْتِكْبارِ اللَّذَيْنِ اسْتُحْضِرُوا بِهِما في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا﴾ [الجاثية: ٨] لِأنَّ الغَرَضَ هُنا النَّعْيُ عَلَيْهِمْ إهْمالَهم الِانْتِفاعَ بِالقُرْآنِ وهو النِّعْمَةُ العُظْمى الَّتِي جاءَتْهم مِنَ اللَّهِ فَقابَلُوها بِالكُفْرانِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، كَما جاءَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢] .

والرِّجْزُ: أشَدُّ العَذابِ، قالَ تَعالى ﴿فَأنْزَلْنا عَلى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: ٥٩] .

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حَرْفُ (مِن) لِلْبَيانِ فالعَذابُ هو الرِّجْزُ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، أيْ عَذابٌ مِمّا يُسَمّى بِالرِّجْزِ وهو أشَدُّهُ.

و”ألِيمٌ“ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ وصْفًا لِـ ”عَذابٌ“ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا وكَذَلِكَ قَرَأهُ الجُمْهُورُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ وصْفًا لِـ (رِجْزٍ) فَيَكُونُ مَجْرُورًا كَما قَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ.