﴿فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ ورَبِّ الأرْضِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿ولَهُ الكِبْرِياءُ في السَّماواتِ والأرْضِ وهْوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾

الفاءُ لِتَفْرِيعِ التَّحْمِيدِ والثَّناءِ عَلى اللَّهِ تَفْرِيعًا عَلى ما احْتَوَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِن ألْطافِ اللَّهِ فِيما خَلَقَ وأرْشَدَ وسَخَّرَ وأقامَ مِن نُظُمِ العَدالَةِ، والإنْعامِ عَلى المُسْلِمِينَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومِن وعِيدٍ لِلْمُعْرِضِينَ واحْتِجاجٍ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ كانَ دالًّا عَلى اتِّصافِهِ بِصِفاتِ العَظَمَةِ والجَلالِ وعَلى إفْضالِهِ عَلى النّاسِ بِدِينِ الإسْلامِ كانَ حَقِيقًا بِإنْشاءِ قَصْرِ الحَمْدِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا الكَلامُ مُرادًا مِنهُ ظاهِرَ الإخْبارِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا في مَعْناهُ الكِنائِيِّ وهو أمْرُ النّاسِ بِأنْ يَقْصِرُوا الحَمْدَ عَلَيْهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إنْشاءَ حَمَدٍ لِلَّهِ تَعالى وثَناءٍ عَلَيْهِ. وكُلُّ ما سَبَقَهُ مِن آياتِ هَذِهِ السُّورَةِ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوهِ الثَّلاثَةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥] في سُورَةِ الأنْعامِ.

وتَقْدِيمُ ”لِلَّهِ“ لِإفادَةِ الِاخْتِصاصِ، أيِ الحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِهِ اللَّهُ تَعالى يَعْنِي: الحَمْدُ الحَقُّ الكامِلُ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعالى كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الفاتِحَةِ.

وإجْراءُ وصْفِ ”رَبِّ السَّماواتِ“ عَلى اسْمِهِ تَعالى إيماءٌ إلى عِلَّةِ قَصْرِ الحَمْدِ عَلى اللَّهِ إخْبارًا وإنْشاءً تَأْكِيدًا لِما اقْتَضَتْهُ الفاءُ في قَوْلِهِ فَلِلَّهِ الحَمْدُ. وعُطِفَ ”ورَبِّ الأرْضِ“ بِتَكْرِيرِ لَفْظِ ”رَبِّ“ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ لِأنَّ رَبَّ السَّماواتِ والأرْضِ يَحِقُّ حَمْدُهُ عَلى أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ، فَأمّا أهْلُ السَّماءِ فَقَدْ حَمِدُوهُ كَما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم بِقَوْلِهِ ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: ٥] . وأمّا أهْلُ الأرْضِ فَمَن حَمِدَهُ مِنهم فَقَدْ أدّى حَقَّ الرُّبُوبِيَّةِ ومَن حَمِدَ غَيْرَهُ وأعْرَضَ عَنْهُ فَقَدْ سَجَّلَ عَلى نَفْسِهِ سِمَةَ الإباقِ، وكانَ بِمَأْوى النّارِ مَحَلَّ اسْتِحْقاقٍ.

صفحة ٣٧٨

ثُمَّ أُتْبِعَ بِوَصْفِ ”رَبِّ العالَمِينَ“ وهم سُكّانُ السَّماواتِ والأرْضِ تَأْكِيدًا لِكَوْنِهِمْ مَحْقُوقِينَ بِأنْ يَحْمَدُوهُ لِأنَّهُ خالِقُ العَوالِمِ الَّتِي هم مُنْتَفِعُونَ بِها وخالِقُ ذَواتِهِمْ فِيها كَذَلِكَ.

وعَقَّبَ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ ﴿ولَهُ الكِبْرِياءُ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ اسْتِدْعاءَهُ خَلْقَهُ لِحَمْدِهِ إنَّما هو لِنَفْعِهِمْ وتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ فَإنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهم كَما قالَ ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] ﴿ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٧] .

وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في ”ولَهُ الكِبْرِياءُ“ مِثْلُهُ في ”فَلِلَّهِ الحَمْدُ“ . والكِبْرِياءُ: الكِبْرُ الحَقُّ الَّذِي هو كَمالُ الصِّفاتِ وكَمالُ الوُجُودِ.

ثُمَّ أُتْبِعَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ العَزِيزِ الحَكِيمِ لِأنَّ العِزَّةَ تَشْمَلُ مَعانِيَ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ، والحِكْمَةُ تَجْمَعُ مَعانِيَ تَمامِ العِلْمِ وعُمُومِهِ.

وبِهَذِهِ الخاتِمَةِ آذَنَ الكَلامُ بِانْتِهاءِ السُّورَةِ فَهو مِن بَراعَةِ خَواتِمِ السُّوَرِ.

* * *

صفحة ٥

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الأحْقافِ

سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ (سُورَةَ الأحْقافِ) في جَمِيعِ المَصاحِفِ وكُتُبِ السُّنَّةِ، ووَرَدَتْ تَسْمِيَتُها بِهَذا الِاسْمِ في كَلامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ. رَوى أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أقْرَأنِي رَسُولُ اللَّهِ سُورَةً مِن آل حم وهي الأحْقافُ، وكانَتِ السُّورَةُ إذا كانَتْ أكْثَرَ مِن ثَلاثِينَ آيَةً سُمِّيَتْ ثَلاثِينَ.

وكَذَلِكَ ورَدَتْ تَسْمِيَتُها في كَلامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أخْرَجَ الحاكِمُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: أقْرَأنِي رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ الأحْقافِ الحَدِيثَ.

وحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ السّابِقُ يَقْتَضِي أنَّها تُسَمّى ثَلاثِينَ إلّا أنَّ ذَلِكَ لا يَخْتَصُّ بِها فَلا يُعَدُّ مِن أسْمائِها. ولَمْ يَذْكُرْها في الإتْقانِ في عِدادِ السُّورِ ذاتِ أكْثَرَ مِنِ اسْمٍ.

ووَجْهُ تَسْمِيَتِها (الأحْقافَ) وُرُودُ لِفْظِ الأحْقافِ فِيها ولَمْ يَرِدْ في غَيْرِها مِن سُوَرِ القُرْآنِ.

وهِيَ مَكِّيَّةٌ قالَ القُرْطُبِيُّ: بِاتِّفاقِ جَمِيعِهِمْ، وفي إطْلاقِ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وبَعْضُ المُفَسِّرِينَ نَسَبُوا اسْتِثْناءَ آياتٍ مِنها إلى بَعْضِ القائِلِينَ، فَحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْناءَ آيَتَيْنِ هُما قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] إلى الظّالِمِينَ فَإنَّها أشارَتْ إلى إسْلامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وهو إنَّما أسْلَمَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وقَوْلُهُ ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٣٥] . وفي الإتْقانِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ بِاسْتِثْناءِ آياتٍ ثَلاثٍ مِنها الِاثْنَتانِ اللَّتانِ ذَكَرَهُما ابْنُ عَطِيَّةَ، والثّالِثَةُ ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١٥] إلى قَوْلِهِ خاسِرِينَ. وسَيَأْتِي ما يَقْتَضِي أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ مُضِيِّ عامَيْنِ

صفحة ٦

مِنَ البَعْثَةِ وأسانِيدُ جَمِيعِها مُتَفاوِتَةٌ. وأقْواها ما رُوِيَ في الآيَةِ الأُولى مِنها، وسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلَيْها في مَواضِعِها.

وهَذِهِ السُّورَةُ مَعْدُودَةٌ الخامِسَةَ والسِتِّينَ في عِدادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ الجاثِيَةِ وقَبْلَ الذّارِياتِ.

وعُدَّتْ آيُها عِنْدَ جُمْهُورِ أهْلِ الأمْصارِ أرْبَعًا وثَلاثِينَ، وعَدَّها أهْلُ الكُوفَةِ خَمْسًا وثَلاثِينَ والِاخْتِلافُ في ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ حم تُعْتَبَرُ آيَةً مُسْتَقِلَّةً أوْ لا.

* * *

أغْراضُها

مِنَ الأغْراضِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْها أنَّها افْتُتِحَتْ مِثْلَ سُورَةِ الجاثِيَةِ بِما يُشِيرُ إلى إعْجازِ القُرْآنِ لِلِاسْتِدْلالِ عَلى أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ.

والِاسْتِدْلالُ بِإتْقانِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ عَلى التَّفَرُّدِ بِالإلَهِيَّةِ، وعَلى إثْباتِ جَزاءِ الأعْمالِ.

والإشارَةُ إلى وُقُوعِ الجَزاءِ بَعْدَ البَعْثِ وأنَّ هَذا العالَمَ صائِرٌ إلى فَناءٍ.

وإبْطالُ الشُّرَكاءِ في الإلَهِيَّةِ. والتَّدْلِيلُ عَلى ‌‌خُلُّوِهِمْ عَنْ صِفاتِ الإلَهِيَّةِ.

وإبْطالُ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مِن صُنْعِ غَيْرِ اللَّهِ.

وإثْباتُ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ واسْتِشْهادُ اللَّهِ - تَعالى - عَلى صِدْقِ رِسالَتِهِ واسْتِشْهادُ شاهِدِ بَنِي إسْرائِيلَ وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ.

والثَّناءُ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا بِالقُرْآنِ وذِكْرُ بَعْضَ خِصالِهِمُ الحَمِيدَةِ وما يُضادُّها مِن خِصالِ أهْلِ الكُفْرِ وحَسَدِهِمُ الَّذِي بَعَثَهم عَلى تَكْذِيبِهِ.

وذَكَرَتْ مُعْجِزَةَ إيمانِ الجِنِّ بِالقُرْآنِ.

وخُتِمَتِ السُّورَةُ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ ﷺ .

وأُقْحِمَ في ذَلِكَ مُعامَلَةُ الوالِدَيْنِ والذُّرِّيَّةِ مِمّا هو مِن خُلُقِ المُؤْمِنِينَ، وما هو مِن خُلُقِ أهْلِ الضَّلالَةِ.

صفحة ٧

والعِبْرَةُ بِضَلالِهِمْ مَعَ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ القُوَّةِ، وأنَّ اللَّهَ أخَذَهم بِكُفْرِهِمْ، وأهْلَكَ أُمَمًا أُخْرى فَجَعَلَهم عِظَةً لِلْمُكَذِّبِينَ، وأنَّ جَمِيعَهم لَمْ تُغْنِ عَنْهم أرْبابُهُمُ المَكْذُوبَةُ.

وقَدْ أشْبَهَتْ كَثِيرًا مِن أغْراضِ سُورَةِ الجاثِيَةِ مَعَ تَفَنُّنٍ.