Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأوْلى لَهُمْ﴾ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢١]
قَدْ ذَكَرْنا أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ بِالمَدِينَةِ وقَدْ بَدَتْ قُرُونُ نِفاقِ المُنافِقِينَ، فَلَمّا جَرى في هَذِهِ السُّورَةِ وصْفُ حالِ المُنافِقِينَ أُعْقِبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ أجْلى مَظاهِرِ نِفاقِهِمْ، وذَلِكَ حِينَ يُدْعى المُسْلِمُونَ إلى الجِهادِ فَقَدْ يَضِيقُ الأمْرُ بِالمُنافِقِينَ إذْ كانَ تَظاهُرُهم بِالإسْلامِ سَيُلْجِئُهم إلى الخُرُوجِ لِلْقِتالِ مَعَ المُسْلِمِينَ، وذَلِكَ أمْرٌ لَيْسَ بِالهَيِّنِ لِأنَّهُ تَعَرُّضٌ لِإتْلافِهِمُ النُّفُوسِ دُونَ أنْ يَرْجُوا مِنهُ نَفْعًا في الحَياةِ الأبَدِيَّةِ إذْ هم لا يُصَدِّقُونَ بِها فَيُصْبِحُوا في حَيْرَةٍ. وكانَ حالُهم هَذا مُخالِفًا لِحالِ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِي تَمَنَّوْا أنْ يَنْزِلَ القُرْآنُ بِالدَّعْوَةِ إلى القِتالِ لِيُلاقُوا المُشْرِكِينَ فَيَشْفُوا مِنهم غَلِيلَهم، فَبِهَذِهِ المُناسَبَةِ حُكِيَ تَمَنِّي المُؤْمِنِينَ نُزُولَ حُكْمِ القِتالِ لِأنَّهُ يَلُوحُ بِهِ تَمْيِيزُ حالِ المُنافِقِينَ، ويَبْدُو مِنهُ الفَرْقُ بَيْنَ حالِ الفَرِيقَيْنِ وقَدْ بَيَّنَ كُرْهَ القِتالِ لَدَيْهِمْ في سُورَةِ بَراءَةَ.
فالمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ هو قَوْلُهُ ﴿فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ الآيَةَ، وما قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ بِذِكْرِ سَبَّبِهِ، وأفادَ تَقْدِيمُهُ
صفحة ١٠٧
أيْضًا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وأفادَ ذِكْرُهُ مُقابَلَةً بَيْنَ حالَيِ الفَرِيقَيْنِ جَرْيًا عَلى سُنَنِ هَذِهِ السُّورَةِ. ومَقالُ الَّذِينَ آمَنُوا هَذا كانَ سَبَبًا في نُزُولِ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾ [محمد: ٤]، ولِذَلِكَ فالمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيها القِتالُ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها.ومَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ هَذا واقِعٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ فالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالفِعْلِ المُضارِعِ: إمّا لِقَصْدِ اسْتِحْضارِ الحالَةِ مِثْلَ ﴿ويَصْنَعُ الفُلْكَ﴾ [هود: ٣٨]، وإمّا لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى هَذا القَوْلِ.
وتَبَعًا لِذَلِكَ تَكُونُ (إذا) في قَوْلِهِ ﴿فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ ظَرْفًا مُسْتَعْمَلًا في الزَّمَنِ الماضِي لِأنَّ نُزُولَ السُّورَةِ قَدْ وقَعَ، ونَظَرُ المُنافِقِينَ إلى الرَّسُولِ ﷺ هَذا النَّظَرَ قَدْ وقَعَ إذْ لا يَكُونُ ذَمُّهم وزَجْرُهم قَبْلَ حُصُولِ ما يُوجِبُهُ فالمَقامُ دالٌّ والقَرِينَةُ واضِحَةٌ.
و(لَوْلا) حَرْفٌ مُسْتَعْمَلٌ هُنا في التَّمَنِّي، وأصْلُ مَعْناهُ التَّخْصِيصُ فَأُطْلِقَ وأُرِيدَ بِهِ التَّمَنِّي لِأنَّ التَّمَنِّيَ يَسْتَلْزِمُ الحِرْصَ والحِرْصُ يَدْعُو إلى التَّحْضِيضِ.
وحُذِفَ وُصْفُ ”سُورَةٌ“ في حِكايَةِ قَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ﴾ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِن قَوْلِهِ ﴿وذُكِرَ فِيها القِتالُ﴾ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾، أيْ كَما تَمَنَّوُا اقْتَضى أنَّ المَسْئُولَ سُورَةٌ يُشَرَّعُ فِيها قِتالُ المُشْرِكِينَ. فالمَعْنى: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ يُذْكَرُ فِيها القِتالُ وفَرْضُهُ، فَحُذِفَ الوَصْفُ إيجازًا.
ووَصْفُ السُّورَةِ بِـ ”مَحْكَمَةٌ“ بِاعْتِبارِ وصْفِ آياتِها بِالإحْكامِ، أيْ عَدَمِ التَّشابُهِ وانْتِفاءِ الِاحْتِمالِ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقابَلَةُ المُحْكَماتِ بِالمُتَشابِهاتِ في قَوْلِهِ ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، أيْ لا تَحْتَمِلُ آياتُ تِلْكَ السُّورَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقِتالِ إلّا وُجُوبَ القِتالِ وعَدَمَ الهَوادَةِ فِيهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾ [محمد: ٤] الآياتَ، فَلا جَرَمَ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هي الَّتِي نَزَلَتْ إجابَةً عَنْ تَمَنِّي الَّذِينَ آمَنُوا.
وإنَّما قالَ ﴿وذُكِرَ فِيها القِتالُ﴾ لِأنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ كُلُّها مُتَمَحِّضَةٌ لِذِكْرِ القِتالِ فَإنَّ سُوَرَ القُرْآنِ ذَواتُ أغْراضٍ شَتّى.
صفحة ١٠٨
والخِطابُ في ”رَأيْتَ“ لِلنَّبِيءِ ﷺ لِأنَّهُ لاحِقٌ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ [محمد: ١٦] .و﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هم المُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ فَجَعَلَ الكُفْرَ الخَفِيَّ كالمَرَضِ الَّذِي مَقَرُّهُ القَلْبُ لا يَبْدُو مِنهُ شَيْءٌ عَلى ظاهِرِ الجَسَدِ، أيْ رَأيْتَ المُنافِقِينَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ. وقَدْ غَلَبَ إطْلاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلى المُنافِقِينَ، وأنَّ النِّفاقَ مَرَضٌ نَفْسانِيٌّ مُعْضِلٌ لِأنَّهُ تَتَفَرَّعُ مِنهُ فُرُوعٌ بَيَّنّاها في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وانْتَصَبَ ﴿نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِبَيانِ صِفَةِ النَّظَرِ مِن قَوْلِهِ ﴿يَنْظُرُونَ إلَيْكَ﴾ فَهو عَلى مَعْنى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ.
ووَجْهُ الشَّبَهِ ثَباتُ الحَدَقَةِ وعَدَمُ التَّحْرِيكِ، أيْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المُتَحَيِّرِ بِحَيْثُ يَتَّجِهُ إلى صَوْبٍ واحِدٍ ولا يَشْتَغِلُ بِالمَرْئِيّاتِ لِأنَّهُ في شاغِلٍ عَنِ النَّظَرِ، وإنَّما يُوَجِّهُونَ أنْظارَهم إلى النَّبِيءِ ﷺ إذْ كانُوا بِمَجْلِسِهِ حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ، وكانُوا يَتَظاهَرُونَ بِالإقْبالِ عَلى تَلَقِّي ما يَنْطِقُ بِهِ مِنَ الوَحْيِ فَلَمّا سَمِعُوا ذِكْرَ القِتالِ بُهِتُوا، فالمَقْصُودُ المُشابِهَةُ في هَذِهِ الصُّورَةِ. وفي مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ - تَعالى - ﴿فَإذا جاءَ الخَوْفُ رَأيْتَهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهم كالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [الأحزاب: ١٩] في سُورَةِ الأحْزابِ.
و(مِن) هُنا تَعْلِيلِيَّةٌ، أيِ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ لِأجْلِ المَوْتِ، أيْ حُضُورِ المَوْتِ.
وفُرِّعَ عَلى هَذا قَوْلُهُ ﴿فَأوْلى لَهُمْ﴾ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢١] .
وهَذا التَّفْرِيعُ اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَإذا عَزَمَ الأمْرُ﴾ [محمد: ٢١] .
ولَفْظُ (أوْلى) هُنا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا في ظاهِرِهِ اسْتِعْمالَ التَّفْضِيلِ عَلى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، أيْ أوْلى لَهم مِن ذَلِكَ الخَوْفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ نَظَرُهم كالمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ، أنْ يُطِيعُوا أمْرَ اللَّهِ ويَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وهو قَوْلُ سَمِعْنا وأطَعْنا، فَذَلِكَ القَوْلُ المَعْرُوفُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا أوْ أُمِرُوا كَما قالَ - تَعالى -
صفحة ١٠٩
﴿إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [النور: ٥١] في سُورَةِ النُّورِ.وعَلى هَذا الوَجْهِ فَتَعْدِيَةُ (أوْلى) بِاللّامِ دُونَ الباءِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ذَلِكَ أوْلى وأنْفَعُ، فَكانَ اجْتِلابُ اللّامِ لِلدَّلالَةِ عَلى مَعْنى النَّفْعِ. فَهو مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ذَلِكَ أزْكى لَكُمْ﴾ [النور: ٣٠] وقَوْلِهِ ﴿هُنَّ أطْهَرُ لَكُمْ﴾ [هود: ٧٨] .
وهُوَ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [محمد: ٢١] .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿فَأوْلى لَهُمْ﴾ مُسْتَعْمَلًا في التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ كَما في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٤] ﴿ثُمَّ أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القيامة: ٣٥] في سُورَةِ القِيامَةِ، وهو الَّذِي اقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ. ومَعْناهُ: أنَّ اللَّهَ أخْبَرَ عَنْ تَوَعُّدِهِ إيّاهم.
ثُمَّ قِيلَ عَلى هَذا الوَجْهِ إنَّ ”أوْلى“ مَرْتَبَةٌ حُرُوفُهُ عَلى حالِها مِنَ الوَلْيِ وهو القُرْبُ، وأنَّ وزْنَهُ أفْعَلُ. وقالَ الجُرْجانِيُّ: هو في هَذا الِاسْتِعْمالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الوَيْلِ. فَأصْلُ أوْلى: أوْيَلُ، أيْ أشَدُّ ويْلًا، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ، ووَزْنُهُ أفْلَعُ. وفي الصِّحاحِ عَنِ الأصْمَعِيِّ ما يَقْتَضِي: أنَّهُ يَجْعَلُ (أوْلى لَهُ) مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ. والتَّقْدِيرُ: أقْرَبُ ما يُهْلِكُهُ، قالَ ثَعْلَبٌ: ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ في (أوْلى لَهُ) أحْسَنَ مِمّا قالَ الأصْمَعِيُّ.
واللّامُ عَلى هَذا الوَجْهِ إمّا مَزِيدَةٌ، أيْ أوْلاهُمُ اللَّهُ ما يَكْرَهُونَ فَيَكُونُ مِثْلَ اللّامِ في قَوْلِ النّابِغَةِ:
سَقْيًا ورَعْيًا لِذاكَ العاتِبِ الزّارِي
وإمّا مُتَعَلِّقَةً بِـ (أوْلى) عَلى أنَّهُ فَعْلُ مُضِيٍّ، وعَلى هَذا الِاسْتِعْمالِ يَكُونُ قَوْلُهُ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢١] كَلامًا مُسْتَأْنَفًا وهو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خَيْرٌ لَهم، أوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: الأمْرُ طاعَةٌ، وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أيْ أمَرَ اللَّهُ أنْ يُطِيعُوا.