﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾

الفاءُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ﴾ [محمد: ٢٥] الآيَةَ وما بَيْنَهُما مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ﴿الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٥] بِناءً عَلى المَحْمَلِ الأوَّلِ لِلِارْتِدادِ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ لِبَيانِ ما سَيَلْحَقُهم مِنَ العَذابِ عِنْدَ المَوْتِ وهو اسْتِهْلالٌ لِما يَتَواصَلُ مِن عَذابِهِمْ عَنْ مَبْدَأِ المَوْتِ إلى اسْتِقْرارِهِمْ في العَذابِ الخالِدِ.

صفحة ١١٨

ويَجُوزُ عَلى المَحْمَلِ الثّانِي وهو أنَّ المُرادَ الِارْتِدادُ عَنِ القِتالِ وتَكُونُ الفاءُ فَصِيحَةً فَيُفِيدُ: إذا كانُوا فَرَّوا مِنَ القِتالِ هَلَعًا وخَوْفًا فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ، أيْ كَيْفَ هَلَعُهم ووَجَلُهُمُ الَّذِي ارْتَدُّوا بِهِما عَنِ القِتالِ. وهَذا يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: أوَّلُهُما أنَّهم مَيِّتُونَ لا مَحالَةَ، وثانِيهُما أنَّ مَوْتَتَهم يَصْحَبُها تَعْذِيبٌ.

فالأوَّلُ مَأْخُوذٌ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ وهو في مَعْنى قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿الَّذِينَ قالُوا لِإخْوانِهِمْ وقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فادْرَءُوا عَنْ أنْفُسِكُمُ المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [آل عمران: ١٦٨] وقَوْلِهِ ﴿وقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: ٨١] .

والثّانِي هو صَرِيحُ الكَلامِ وهو وعِيدٌ لِتَعْذِيبٍ في الدُّنْيا عِنْدَ المَوْتِ.

والمَقْصُودُ: وعِيدُهم بِأنَّهم سَيُعَجَّلُ لَهُمُ العَذابُ مِن أوَّلِ مَنازِلَ الآخِرَةِ وهو حالَةُ المَوْتِ.

ولَمّا جُعِلَ هَذا العَذابُ مُحَقَّقًا وُقُوعُهُ رُتِّبَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ عَنْ حالِهِمُ اسْتِفْهامًا مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى تَعْجِيبِ المُخاطَبِ مِن حالِهِمْ عِنْدَ الوَفاةِ، وهَذا التَّعْجِيبُ مُؤْذِنٌ بِأنَّها حالَةٌ فَظِيعَةٌ غَيْرُ مُعْتادَةٍ إذْ لا يُتَعَجَّبُ إلّا مِن أمْرٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، والسِّياقُ يَدُلُّ عَلى الفَظاعَةِ.

و(إذا) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الِاسْتِفْهامِ، تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ حالُهم أوْ عَمَلُهم حِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ.

وكَثُرَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ (كَيْفَ) في أمْثالِ هَذا مُقَدَّرًا مُؤَخَّرًا عَنْ (كَيْفَ) وعَنْ (إذا) كَقَوْلِهِ - تَعالى - ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] . والتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ ويَحْتالُونَ.

وجَعَلَ سِيبَوَيْهِ كَيْفَ في مِثْلِهِ ظَرْفًا وتَبِعَهُ ابْنُ الحاجِبِ في الكافِيَةِ. ولَعَلَّهُ أرادَ الفِرارَ مِنَ الحَذْفِ.

وجُمْلَةُ ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ حالٌ مِنَ المَلائِكَةِ. والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الحالِ: وعِيدُهم بِهَذِهِ المِيتَةِ الفَظِيعَةِ الَّتِي قَدَّرَها اللَّهُ لَهم وجَعَلَ المَلائِكَةَ تَضْرِبُ وُجُوهَهم وأدْبارَهم، أيْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمُ الَّتِي وقَوْها مِن ضَرْبِ السَّيْفِ

صفحة ١١٩

حِينَ فَرُّوا مِنَ الجِهادِ فَإنَّ الوُجُوهَ مِمّا يُقْصَدُ بِالضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ عِنْدَ القِتالِ قالَ الحَرِيشُ القُرَيْعِيُّ، أوِ العَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ:

نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إذا التَقَيْنا وُجُوهًا لا تُعَرَّضُ لِلنِّظامِ

ويَضْرِبُونَ أدْبارَهُمُ الَّتِي كانَتْ مَحَلَّ الضَّرْبِ لَوْ قاتَلُوا، وهَذا تَعْرِيضٌ بِأنَّهم لَوْ قاتَلُوا لَفَرُّوا فَلا يَقَعُ الضَّرْبُ إلّا في أدْبارِهِمْ.