﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ ﴿ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾

افْتِتاحُ الكَلامِ بِحَرْفِ (إنَّ) ناشِئٌ عَلى ما أُحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الكَآبَةِ عَلى أنْ أُجِيبَ المُشْرِكُونَ إلى سُؤالِهِمُ الهُدْنَةَ كَما سَيَأْتِي مِن حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وما تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فالتَّأْكِيدُ مَصْرُوفٌ لِلسّامِعِينَ عَلى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، وأمّا النَّبِيءُ ﷺ فَقَدْ كانَ واثِقًا بِذَلِكَ، وسَيَأْتِي تَبْيِينُ هَذا التَّأْكِيدِ قَرِيبًا.

والفَتْحُ: إزالَةُ غَلْقِ البابِ أوِ الخِزانَةِ قالَ - تَعالى - ﴿لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ﴾ [الأعراف: ٤٠] ويُطْلَقُ عَلى النَّصْرِ وعَلى دُخُولِ الغازِي بِلادَ عَدُوِّهِ لِأنَّ أرْضَ كُلِّ قَوْمٍ وبِلادَهم مُواقَعٌ عَنْها فاقْتِحامُ الغازِي إيّاها بَعْدَ الحَرْبِ يُشْبِهُ إزالَةَ الغَلْقِ عَنِ البَيْتِ أوِ الخِزانَةِ، ولِذَلِكَ كَثُرَ إطْلاقُ الفَتْحِ عَلى النَّصْرِ المُقْتَرِنِ بِدُخُولِ أرْضِ المَغْلُوبِ أوْ بَلَدِهِ ولَمْ يُطْلَقْ عَلى انْتِصارٍ كانَتْ نِهايَتَهُ غَنِيمَةٌ وأسْرٌ دُونَ اقْتِحامِ أرْضٍ فَيُقالُ: فَتْحُ خَيْبَرَ وفَتْحُ مَكَّةَ ولا يُقالُ: فَتْحُ بَدْرٍ. وفَتْحُ أُحُدٍ. فَمَن أطْلَقَ الفَتْحَ عَلى مُطْلَقِ النَّصْرِ فَقَدْ تَسامَحَ، وكَيْفَ وقَدْ عُطِفَ النَّصْرُ عَلى الفَتْحِ في قَوْلِهِ ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: ١٣] في سُورَةِ الصَّفِّ.

ولَعَلَّ الَّذِي حَداهم عَلى عَدِّ النَّصْرِ مِن مَعانِي مادَّةِ الفَتْحِ أنَّ فَتْحَ البِلادِ هو أعْظَمُ النَّصْرِ لِأنَّ النَّصْرَ يَتَحَقَّقُ بِالغَلَبَةِ وبِالغَنِيمَةِ فَإذا كانَ مَعَ اقْتِحامِ أرْضِ العَدُوِّ

صفحة ١٤٤

فَذَلِكَ نَصْرٌ عَظِيمٌ لِأنَّهُ لا يَتِمُّ إلّا مَعَ انْهِزامِ العَدُوِّ أشْنَعَ هَزِيمَةٍ وعَجْزِهِ عَنِ الدِّفاعِ عَنْ أرْضِهِ. وأُطْلِقَ الفَتْحُ عَلى الحُكْمِ قالَ تَعالى ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [السجدة: ٢٨] الآيَةَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ.

ولِمُراعاةِ هَذا المَعْنى قالَ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ بِالفَتْحِ هَنا فَتْحُ مَكَّةَ وأنَّ مَحْمَلَهُ عَلى الوَعْدِ بِالفَتْحِ. والمَعْنى: سَنَفْتَحُ. وإنَّما جِيءَ في الأخْبارِ بِلَفْظِ الماضِي لِتَحَقُّقِهِ وتَيَقُّنِهِ، شُبِّهَ الزَّمَنُ المُسْتَقْبَلُ بِالزَّمَنِ الماضِي فاسْتُعْمِلَتْ لَهُ الصِّيغَةُ المَوْضُوعَةُ لِلْمُضِيِّ.

أوْ نَقُولُ اسْتُعْمِلَ ”فَتَحْنا“ بِمَعْنى: قَدَّرْنا لَكَ الفَتْحَ، ويَكُونُ هَذا الِاسْتِعْمالُ مِن مُصْطَلَحاتِ القُرْآنِ لِأنَّهُ كَلامُ مِن لَهُ التَّصَرُّفُ في الأشْياءِ لا يَحْجِزُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيها مانِعٌ. وقَدْ جَرى عَلى عادَةِ إخْبارِ اللَّهِ - تَعالى - لِأنَّهُ لا خِلافَ في إخْبارِهِ، وذَلِكَ أيْضًا كِنايَةٌ عَنْ عُلُوِّ شَأْنِ المُخْبِرِ مَثْلُ ﴿أتى أمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١] .

وما يَنْدَرِجُ في هَذا التَّفْسِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالفَتْحِ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأنَّهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ فَعَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ما كُنّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إلّا يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ أنَّهم أيْقَنُوا بِوُقُوعِ فَتْحِ مَكَّةَ بِهَذا الوَعْدِ، وعَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ تَعُدُّونَ أنْتُمُ الفَتْحَ فَتْحُ مَكَّةَ وقَدْ كانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، ونَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوانِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ أنَّكم تَحْمِلُونَ الفَتْحَ في قَوْلِهِ ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ عَلى فَتْحِ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ وإنْ كانَ فَتْحُ مَكَّةَ هو الغالِبُ عَلَيْهِ اسْمُ الفَتْحِ.

ويُؤَيِّدُ هَذا المَحْمَلَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ «قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الفَتْحِ»، وفي رِوايَةٍ دَخَلَ مَكَّةَ وهو يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ عَلى راحِلَتِهِ.

عَلى أنَّ قَرائِنَ كَثِيرَةً تُرَجِّحُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالفَتْحِ المَذْكُورِ في سُورَةِ الفَتْحِ: أُولاها أنَّهُ جَعَلَهُ مُبِينًا.

الثّانِيَةُ: أنَّهُ جَعَلَ عِلَّتَهُ النَّصْرَ العَزِيزَ ”الثّانِيَةَ“، ولا يَكُونُ الشَّيْءُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ.

صفحة ١٤٥

الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ ﴿وأثابَهم فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١٨] .

الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ ﴿ومَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها﴾ [الفتح: ١٩] .

الخامِسَةُ: قَوْلُهُ ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ٢٧] .

والجُمْهُورُ عَلى أنَّ المُرادَ في سُورَةِ الفَتْحِ هو صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ، وجَعَلُوا إطْلاقَ اسْمِ الفَتْحِ عَلَيْهِ مَجازًا مُرْسَلًا بِاعْتِبارِ أنَّهُ آلَ إلى فَتْحِ خَيْبَرَ وفَتْحِ مَكَّةَ، أوْ كانَ سَبَبًا فِيهِما «فَعَنِ الزُّهْرِيِّ لَقَدْ كانَ يَوْمُ الحُدَيْبِيَةِ أعْظَمَ الفُتُوحِ ذَلِكَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ جاءَ إلَيْها في ألْفٍ وأرْبَعِمِائَةٍ فَلَمّا وقَعَ صُلْحٌ مَشى النّاسُ بَعْضُهم في بَعْضٍ، أيْ تَفَرَّقُوا في البِلادِ فَدَخَلَ بَعْضُهم أرْضَ بَعْضٍ مِن أجْلِ الأمْنِ بَيْنَهم، وعَلِمُوا وسَمِعُوا عَنِ اللَّهِ فَما أرادَ أحَدٌ الإسْلامَ إلّا تَمَكَّنَ مِنهُ، فَما مَضَتْ تِلْكَ السَّنَتانِ إلّا والمُسْلِمُونَ قَدْ جاءُوا إلى مَكَّةَ في عَشَرَةِ آلافٍ» اهـ، وفي رِوايَةٍ فَلَمّا كانَتِ الهُدْنَةُ أمِنَ النّاسُ بَعْضُهم بَعْضًا فالتَقَوْا وتَفاوَضُوا الحَدِيثَ والمُناظَرَةَ فَلَمْ يُكَلَّمْ أحَدٌ يَعْقِلُ بِالإسْلامِ إلّا دَخَلَ فِيهِ. وعَلى هَذا فالمَجازُ في إطْلاقِ مادَّةِ الفَتْحِ عَلى سَبَبِهِ ومَآلِهِ لا في صُورَةِ الفِعْلِ، أيِ التَّعْبِيرِ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي لِأنَّهُ بِهَذا الِاعْتِبارِ المَجازِيِّ قَدْ وقَعَ فِيما مَضى فَيَكُونُ اسْمُ الفَتْحِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمالَ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ، وصِيغَةُ الماضِي اسْتُعْمِلَتْ في مَعْنَيَيْها فَيَظْهَرُ وجْهُ الإعْجازِ في إيثارِ هَذا التَّرْكِيبِ.

وقِيلَ: هو فَتْحُ خَيْبَرَ الواقِعِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ كَما يَجِيءُ في قَوْلِهِ ﴿إذا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها﴾ [الفتح: ١٥] .

وعَلى هَذِهِ المَحامِلِ فَتَأْكِيدُ الكَلامِ بِـ ”إنَّ“ لِما في حُصُولِ ذَلِكَ مِن تَرَدُّدِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ أوْ تَساؤُلِهِمْ، فَـ «عَنْ عُمَرَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ قالَ: أوَفَتْحٌ هو يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: نَعَمْ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ لَفَتْحٌ» . ورَوى البَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: «أقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ راجِعًا فَقالَ رَجُلٌ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: واللَّهُ ما هَذا بِفَتْحٍ صُدِدْنا عَنِ البَيْتِ وصُدَّ هَدْيُنا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقالَ: بِئْسَ الكَلامُ هَذا بَلْ هو أعْظَمُ الفَتْحِ لَقَدْ رَضِيَ المُشْرِكُونَ أنْ يَدْفَعُوكم بِالرّاحِ عَنْ بِلادِهِمْ ويَسْألُوكُمُ القَضِيَّةَ ويُرَغِّبُونَ إلَيْكُمُ الأمانَ وقَدْ كَرِهُوا مِنكم ما كَرِهُوا ولَقَدْ أظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ورَدَّكم سالِمِينَ غانِمِينَ

صفحة ١٤٦

مَأْجُورِينَ، فَهَذا أعْظَمُ الفَتْحِ أنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلى أحَدٍ وأنا أدْعُوكم في أُخْراكم، أنَسِيتُمْ يَوْمَ الأحْزابِ ﴿إذْ جاءُوكم مِن فَوْقِكم ومِن أسْفَلَ مِنكم وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ [الأحزاب: ١٠] . فَقالَ المُسْلِمُونَ: صَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ وهو أعْظَمُ الفُتُوحِ واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ ما فَكَّرْنا فِيما ذَكَرْتَ، ولَأنْتَ أعْلَمُ بِاللَّهِ وبِالأُمُورِ مِنّا» .

وحُذِفَ مَفْعُولُ فَتَحْنا لِأنَّ المَقْصُودَ الإعْلامُ بِجِنْسِ الفَتْحِ لا بِالمَفْتُوحِ الخاصِّ.

واللّامُ في قَوْلِهِ فَتَحْنا لَكَ لامُ العِلَّةِ، أيْ فَتَحْنا لِأجْلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا مِثْلَ الَّتِي في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١] .

وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ قَبْلَ المَفْعُولِ المُطْلَقِ خِلافًا لِلْأصْلِ في تَرْتِيبِ مُتَعَلِّقاتِ الفِعْلِ لِقَصْدِ الِاهْتِمامِ والِاعْتِناءِ بِهَذِهِ العِلَّةِ.

وقَوْلُهُ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن ضَمِيرِ لَكَ. والتَّقْدِيرُ: إنّا فَتَحْنا فَتْحًا مُبِينًا لِأجْلِكَ لِغُفْرانِ اللَّهِ لَكَ وإتْمامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وهِدايَتِكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا ونَصْرِكَ نَصْرًا عَزِيزًا. وجُعِلَتْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لِلنَّبِيءِ ﷺ عِلَّةً لِلْفَتْحِ لِأنَّها مِن جُمْلَةِ ما أرادَ اللَّهُ حُصُولَهُ بِسَبَبِ الفَتْحِ، ولَيْسَتْ لامُ التَّعْلِيلِ مُقْتَضِيَةً حَصْرَ الغَرَضِ مِنَ الفِعْلِ المُعَلَّلِ في تِلْكَ العِلَّةِ، فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ الأشْياءِ تَكُونُ لَها أسْبابٌ كَثِيرَةٌ فَيُذْكَرُ بَعْضُها مِمّا يَقْتَضِيهِ المَقامُ وإذْ قَدْ كانَ الفَتْحُ لِكَرامَةِ النَّبِيءِ ﷺ عَلى رَبِّهِ - تَعالى - كانَ مِن عِلَّتِهِ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ مَغْفِرَةً عامَّةً إتْمامًا لِلْكَرامَةِ فَهَذِهِ مَغْفِرَةٌ خاصَّةٌ بِالنَّبِيءِ ﷺ هي غَيْرُ المَغْفِرَةِ الحاصِلَةِ لِلْمُجاهِدِينَ بِسَبَبِ الجِهادِ والفَتْحِ.

فالمَعْنى: أنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِنْدَ حُصُولِ هَذا الفَتْحِ غُفْرانَ جَمِيعِ ما قَدْ يُؤاخِذُ اللَّهُ عَلى مَثْلِهِ رُسُلَهُ حَتّى لا يَبْقى لِرَسُولِهِ ﷺ ما يَقْصُرُ بِهِ عَنْ بُلُوغِ نِهايَةِ الفَضْلِ بَيْنَ المَخْلُوقاتِ. فَجَعَلَ هَذِهِ المَغْفِرَةَ جَزاءً لَهُ عَلى إتْمامِ أعْمالِهِ الَّتِي أُرْسِلَ لِأجْلِها مِنَ التَّبْلِيغِ والجِهادِ والنَصَبِ والرَّغْبَةِ إلى اللَّهِ.

فَلَمّا كانَ الفَتْحُ حاصِلًا بِسَعْيِهِ وتَسَبُّبِهِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ جَزاءَهُ غُفْرانَ ذُنُوبِهِ بِعِظَمِ أثَرِ ذَلِكَ الفَتْحِ بِإزاحَةِ الشِّرْكِ وعُلُوِّ كَلِمَةِ اللَّهِ - تَعالى - وتَكْمِيلِ

صفحة ١٤٧

النُّفُوسِ وتَزْكِيَتِها بِالإيمانِ وصالِحِ الأعْمالِ حَتّى يَنْتَشِرَ الخَيْرُ بِانْتِشارِ الدِّينِ ويَصِيرُ الصَّلاحُ خُلُقًا لِلنّاسِ يَقْتَدِي فِيهِ بَعْضُهم بِبَعْضٍ، وكُلُّ هَذا إنَّما يُناسِبُ فَتْحَ مَكَّةَ. وهَذا هو ما تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر: ١] مِن قَوْلِهِ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ ورَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: ١] أيْ إنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ غُفِرَ لَكَ أعْظَمَ مَغْفِرَةٍ وهي المَغْفِرَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِأعْظَمِ مَن تابَ عَلى تائِبٍ، ولَيْسَتْ إلّا مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سابِقِها وما عَسى أنْ يَأْتِيَ مِنها مِمّا يَعُدُّهُ النَّبِيءُ ﷺ ذَنْبًا لِشِدَّةِ الخَشْيَةِ مِن أقَلِّ التَّقْصِيرِ كَما يُقالُ: حَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، وإنْ كانَ النَّبِيءُ ﷺ مَعْصُومًا مِن أنْ يَأْتِيَ بَعْدَها بِما يُؤاخَذُ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإنَّما المَعْنى التَّشْرِيفُ بِهَذا الحُكْمِ ولَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ، ولِهَذا المَعْنى اللَّطِيفِ الجَلِيلِ كانَتْ سُورَةُ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر: ١] مُؤْذِنَةً بِاقْتِرابِ أجَلِ النَّبِيءِ ﷺ فِيما فَهِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وابْنُ عَبّاسٍ، وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ .

والتَّقَدُّمُ والتَّأخُّرُ مِنَ الأحْوالِ النِّسْبِيَّةِ لِلْمَوْجُوداتِ الحَقِيقِيَّةِ أوِ الِاعْتِبارِيَّةِ يُقالُ: تَقَدَّمَ السّائِرُ في سَيْرِهِ عَلى الرَّكْبِ، ويُقالُ: نُزُولُ سُورَةِ كَذا عَلى سُورَةِ كَذا ولِذَلِكَ يَكْثُرُ الِاحْتِياجُ إلى بَيانِ ما كانَ بَيْنَهُما تَقَدَّمَ وتَأخَّرَ بِذَكَرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ تَقَدَّمَ وتَأخَّرَ. وقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ اعْتِمادًا عَلى القَرِينَةِ، وقَدْ يُقْطَعُ النَّظَرُ عَلى اعْتِبارِ مُتَعَلِّقٍ فَيَنْزِلُ الفِعْلُ مَنزِلَةَ الأفْعالِ غَيْرِ النِّسْبِيَّةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ في المُتَعَلِّقاتِ وأكْثَرُ ذَلِكَ إذا جُمِعَ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ كَقَوْلِهِ هُنا ﴿ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ .

والمُرادُ بِـ ”ما تَقَدَّمَ“: تَعْمِيمُ المَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ كَقَوْلِهِ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، فَلا يَقْتَضِي ذَلِكَ أنَّهُ فَرَطَ مِنهُ ذَنْبٌ أوْ أنَّهُ سَيَقَعُ مِنهُ ذَنْبٌ وإنَّما المَقْصُودُ أنَّهُ - تَعالى - رَفَعَ قَدْرَهُ رَفْعَةَ عَدَمِ المُؤاخَذَةِ بِذَنْبٍ لَوْ قُدِّرَ صُدُورُهُ مِنهُ وقَدْ مَضى شَيْءٌ مِن بَيانِ مَعْنى الذَّنْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩] في سُورَةِ القِتالِ.

وإنَّما أُسْنِدَ فِعْلُ ”لِيَغْفِرَ“ إلى اسْمِ الجَلالَةِ العَلَمِ وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُسْنَدَ إلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ قَصْدًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ المَغْفِرَةِ لِأنَّ الِاسْمَ الظّاهِرَ أنْفُذُ في السَّمْعِ وأجْلَبُ لِلتَّنْبِيهِ وذَلِكَ لِلِاهْتِمامِ بِالمُسْنَدِ وبِمُتَعَلِّقِهِ لِأنَّ هَذا الخَبَرَ أُنُفٌ لَمْ يَكُنْ

صفحة ١٤٨

لِلرَّسُولِ ﷺ عِلْمٌ بِهِ ولِذَلِكَ لَمْ يَبْرُزِ الفاعِلُ في ﴿ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ﴾ لِأنَّ إنْعامَ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وهِدايَتَهُ مَعْلُومَةٌ وإنَّما أخْبَرَ بِازْدِيادِهِما.

وإتْمامُ النِّعْمَةِ: إعْطاءُ ما لَمْ يَكُنْ أعْطاهُ إيّاهُ مِن أنْواعِ النِّعْمَةِ مِثْلَ إسْلامِ قُرَيْشٍ وخَلاصِ بِلادِ الحِجازِ كُلِّها لِلدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ، وخُضُوعِ مَن عانَدَهُ وحارَبَهُ، وهَذا يَنْظُرُ إلى قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] فَذَلِكَ ما وعَدَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ في هَذِهِ الآيَةِ وحَصَلَ بَعْدَ سِنِينَ.

ومَعْنى ﴿ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾: يَزِيدَكَ هَدْيًا لَمْ يُسْبَقْ وذَلِكَ بِالتَّوْسِيعِ في بَيانِ الشَّرِيعَةِ والتَّعْرِيفِ بِما لَمْ يَسْبِقْ تَعْرِيفُهُ بِهِ مِنها، فالهِدايَةُ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ ثابِتَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ مِن وقْتِ بِعْثَتِهِ ولَكِنَّها تَزْدادُ بِزِيادَةِ بَيانِ الشَّرِيعَةِ وبِسِعَةِ بِلادِ الإسْلامِ وكَثْرَةِ المُسْلِمِينَ مِمّا يَدْعُو إلى سُلُوكِ طَرائِقَ كَثِيرَةٍ في إرْشادِهِمْ وسِياسَتِهِمْ وحِمايَةِ أوْطانِهِمْ ودَفْعِ أعْدائِهِمْ، فَهَذِهِ الهِدايَةُ مُتَجَمِّعَةٌ مِنَ الثَّباتِ عَلى ما سَبَقَ هَدْيَهُ إلَيْهِ، ومِنَ الهِدايَةِ إلى ما لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ وكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الهِدايَةِ.

والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: مُسْتَعارٌ لِلدِّينِ الحَقِّ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الفاتِحَةِ.

وتَنْوِينُ صِراطٍ لِلتَّعْظِيمِ. وانْتَصَبَ ”صِراطًا“ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ ”يَهْدِي“ بِتَضْمِينِ مَعْنى الإعْطاءِ، أوْ بِنَزْعِ الخافِضِ كَما تَقَدَّمَ في الفاتِحَةِ.

والنَّصْرُ العَزِيزُ: غَيْرُ نَصْرِ الفَتْحِ المَذْكُورِ لِأنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ الفَتْحِ فَهو ما كانَ مِن فَتْحِ مَكَّةَ وما عَقِبَهُ مِن دُخُولِ قَبائِلِ العَرَبِ في الإسْلامِ بِدُونِ قِتالٍ، وبَعْثِهِمُ الوُفُودَ إلى النَّبِيءِ ﷺ لِيَتَلَقَّوْا أحْكامَ الإسْلامِ ويَعْلَمُوا أقْوامَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ.

ووُصْفُ النَّصْرِ بِالعَزِيزِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ وإنَّما العَزِيزُ هو النَّبِيءُ ﷺ المَنصُورُ، أوْ أُرِيدَ بِالعَزِيزِ المُعِزِّ كالسَّمِيعِ في قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:

أمِن رَيْحانَةِ الدّاعِي السَّمِيعِ

أيِ المُسْمِعِ، وكالحَكِيمِ عَلى أحَدِ تَأْوِيلَيْنِ.

والعِزَّةُ: المَنَعَةُ.

وإنَّما أُظْهِرَ اسْمُ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ ﴿ويَنْصُرَكَ اللَّهُ﴾ ولَمْ يَكْتَفِ بِالضَّمِيرِ اهْتِمامًا

صفحة ١٤٩

بِهَذا النَّصْرِ وتَشْرِيعًا لَهُ بِإسْنادِهِ إلى الِاسْمِ الظّاهِرِ لِصَراحَةِ الظّاهِرِ، والصَّراحَةُ أدْعى إلى السَّمْعِ، والكَلامُ مَعَ الإظْهارِ أعْلَقُ بِالذِّهْنِ كَما تَقَدَّمَ في ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ .