﴿هو الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ زِيادَةُ تَحْقِيقٍ لِصِدْقِ الرُّؤْيا بِأنَّ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ ﷺ بِهَذا الدِّينِ ما كانَ لِيُرِيَهُ رُؤْيا صادِقَةً. فَهَذِهِ الجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ المُسْتَفادِ مِن حِرَفِ (قَدْ) ولامِ القَسَمِ في قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ. وبِهَذا يَظْهَرُ لَكَ حُسْنُ مَوْقِعِ الضَّمِيرِ والمَوْصُولِ في قَوْلِهِ: هو الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ لِأنَّ المَوْصُولَ يُفِيدُ العِلْمَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ غالِبًا.

والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا﴾ [الفتح: ٢٧]، وهم يَعْلَمُونَ أنَّ رُؤْيا الرَّسُولِ ﷺ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ فَهو يُذَكِّرُهم بِهاتَيْنِ الحَقِيقَتَيْنِ المَعْلُومَتَيْنِ عِنْدَهم حِينَ لَمْ يَجْرُوا عَلى مُوجَبِ العِلْمِ بِهِما فَخامَرَتْهم ظُنُونٌ لا تَلِيقُ بِمَن يَعْلَمُ أنَّ رُؤْيا الرَّسُولِ وحَيٌ وأنَّ المُوحِيَ لَهُ هو الَّذِي أرْسَلَهُ فَكَيْفَ يُرِيهِ رُؤْيا غَيْرَ صادِقَةٍ. وفي هَذا تَذْكِيرٌ ولَوْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذا وتَعْرِيضٌ بِالمُنافِقِينَ الَّذِينَ أدْخَلُوا التَّرَدُّدَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ.

والباءُ في بِالهُدى لِلْمُصاحَبَةِ وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ ”أرْسَلَ“ . والهُدى أُطْلِقَ عَلى ما بِهِ الهُدى، أيْ كَقَوْلِهِ تَعالى: ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥] .

وعَطَفَ ”دِينِ الحَقِّ“ عَلى الهُدى لِيَشْمَلَ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الأحْكامِ أُصُولِها وفُرُوعِها مِمّا أُوحِيَ بِهِ إلى الرَّسُولِ ﷺ سِوى القُرْآنِ مِن كُلِّ وحْيٍ بِكَلامٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الإعْجازُ أوْ كانَ مِن سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ .

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالهُدى أُصُولَ الدِّينِ مِنِ اعْتِقادِ الإيمانِ وفَضائِلِ الأخْلاقِ الَّتِي بِها تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، و”بِدِينِ الحَقِّ“: شَرائِعُ الإسْلامِ وفُرُوعُهُ.

صفحة ٢٠٢

واللّامُ في ”لِيُظْهِرَهُ“ لِتَعْلِيلِ فِعْلِ ”أرْسَلَ“ ومُتَعَلِّقاتِهِ، أيْ أرْسَلَهُ بِذَلِكَ لِيُظْهِرَ هَذا الدِّينَ عَلى جَمِيعِ الأدْيانِ الإلَهِيَّةِ السّالِفَةِ ولِذَلِكَ أُكِّدَ بِـ كُلِّهِ لِأنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ.

ومَعْنى ”يُظْهِرَهُ“ يُعْلِيهِ. والإظْهارُ: أصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِن ظَهَرَ بِمَعْنى بَدا، فاسْتُعْمِلَ كِنايَةً عَنِ الِارْتِفاعِ الحَقِيقِيِّ ثُمَّ أُطْلِقَ مَجازًا عَنِ الشَّرَفِ فَصارَ أظْهَرَهُ بِمَعْنى أعْلاهُ، أيْ لِيُشَرِّفَهُ عَلى الأدْيانِ كُلِّها، وهَذا كَقَوْلِهِ في حَقِّ القُرْآنِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.

ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى﴾ إلَخِ الشَّهادَةَ بِأنَّ الرُّؤْيا صِدْقٌ ذَيَّلَ الجُمْلَةَ بِقَوْلِهِ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا أيْ أجْزَأتْكم شَهادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِ الرُّؤْيا إلى أنْ تَرَوْا ما صْدَقَها في الإبّانِ.

وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا في آخِرِ سُورَةِ النِّساءِ.