﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهم تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُّجُودِ﴾

لَمّا بَيَّنَ صِدْقَ الرَّسُولِ ﷺ في رُؤْياهُ واطْمَأنَّتْ نُفُوسُ المُؤْمِنِينَ أعْقَبَ ذَلِكَ بِتَنْوِيهِ شَأْنِ الرَّسُولِ ﷺ والثَّناءِ عَلى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ.

ومُحَمَّدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هو مُحَمَّدٌ يَعُودُ هَذا الضَّمِيرُ المَحْذُوفُ عَلى قَوْلِهِ رَسُولَهُ في الآيَةِ قَبْلَها. وهَذا مِن حَذْفِ المُسْنَدِ الَّذِي وصَفَهُ السَّكّاكِيُّ بِالحَذْفِ الَّذِي الِاسْتِعْمالُ وارِدٌ عَلى تَرْكِ المُسْنَدِ إلَيْهِ وتَرْكِ نَظائِرِهِ. قالَ التَّفْتَزانِيُّ في المُطَوَّلِ ومِنهُ قَوْلُهم بَعْدَ أنْ يَذْكُرُوا رَجُلًا: فَتًى مِن شَأْنِهِ كَذا وكَذا، وهو أنْ يَذْكُرُوا الدِّيارَ أوِ المَنازِلَ رَبْعَ كَذا وكَذا. ومِن أمْثِلَةِ المِفْتاحِ لِذاكَ قَوْلُهُ: فَراجِعْهُما أيِ العَقْلَ السَّلِيمَ والطَّبْعَ المُسْتَقِيمَ في مِثْلِ قَوْلِهِ:

سَأشْكُرُ عَمْرًا إنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِي أيادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وإنْ هي جَلَّتِ

صفحة ٢٠٣

٢٠٦

فَتًى غَيْرَ مَحْجُوبِ الغِنى عَنْ صَدِيقِهِ ∗∗∗ ولا مُظْهِرَ الشَّكْوى إذا النَّعْلُ زَلَّتِ

إذْ لَمْ يَقُلْ: هو فَتًى.

وهَذا المَعْنى هو الأظْهَرُ هُنا إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ إفادَةَ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وإنَّما المَقْصُودُ بَيانُ رَسُولِ اللَّهِ مَن هو بَعْدَ أنْ أجْرى عَلَيْهِ مِنَ الأخْبارِ مِن قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالحَقِّ إلى قَوْلِهِ: لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ فَيُعْتَبَرُ السّامِعُ كالمُشْتاقِ إلى بَيانِ: مَن هَذا المُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِهَذِهِ الأخْبارِ ؟ فَيُقالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أيْ هو مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وهَذا مِنَ العِنايَةِ والِاهْتِمامِ بِذِكْرِ مَناقِبِهِ ﷺ .

فَتُعْتَبَرُ الجُمْلَةُ المَحْذُوفُ مُبْتَدَؤُها مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا.

وفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ لا تَخْفى، والأحْسَنُ مِنها هَذا.

وفِي هَذا نِداءٌ عَلى إبْطالِ جَحُودِ المُشْرِكِينَ رِسالَتَهُ حِينَ «امْتَنَعُوا مِن أنْ يُكْتَبَ في صَحِيفَةِ الصُّلْحِ ”هَذا ما قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وقالُوا: لَوْ كُنّا نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ما صَدَدْناكَ عَنِ البَيْتِ“» .

وقَوْلُهُ ”والَّذِينَ مَعَهُ“ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً و”أشِدّاءُ“ خَبَرًا عَنْهُ وما بَعْدَهُ إخْبارٌ، والمَقْصُودُ الثَّناءُ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .

ومَعْنى ”مَعَهُ“: المُصاحَبَةُ الكامِلَةُ بِالطّاعَةِ والتَّأْيِيدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: وقالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكم. والمُرادُ: أصْحابُهُ كُلُّهم لا خُصُوصُ أهْلِ الحُدَيْبِيَةِ.

وإنْ كانُوا هُمُ المَقْصُودَ ابْتِداءً فَقَدْ عُرِفُوا بِصِدْقِ ما عاهَدُوا عَلَيْهِ اللَّهَ، ولِذَلِكَ «لَمّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المَطْلَبِ: نادِ يا أصْلَ السَّمُرَةِ» .

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ والَّذِينَ مَعَهُ عَطْفًا عَلى رَسُولِهِ مِن قَوْلِهِ: هو الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ. والتَّقْدِيرُ: وأرْسَلَ الَّذِينَ مَعَهُ، أيْ أصْحابَهُ عَلى أنَّ المُرادَ بِالإرْسالِ ما يَشْمَلُ الإذْنَ لَهم بِواسِطَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَقَوْلِهِ تَعالى

صفحة ٢٠٤

﴿إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ [يس: ١٤] الآيَةَ فَإنَّ المُرْسَلِينَ إلى أهْلِ أنْطاكِيَةَ كانُوا مِنَ الحَوارِيِّينَ، أمَرَهم عِيسى بِنَشْرِ الهُدى والتَّوْحِيدِ. فَيَكُونُ الإرْسالُ البَعْثَ لَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا﴾ [الإسراء: ٥] وعَلى هَذا يَكُونُ ”أرْسَلْنا“ في هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَعْمَلًا في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ.

و”أشِدّاءُ“: جَمْعُ شَدِيدٍ، وهو المَوْصُوفُ بِالشِّدَّةِ المَعْنَوِيَّةِ وهي صَلابَةُ المُعامَلَةِ وقَساوَتُها، قالَ تَعالى في وصْفِ النّارِ ﴿عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ﴾ [التحريم: ٦] .

والشِّدَّةُ عَلى الكُفّارِ: هي الشِّدَّةُ في قِتالِهِمْ وإظْهارُ العَداوَةِ لَهم، وهَذا وصْفُ مَدْحٍ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ كانُوا هم فِئَةَ الحَقِّ ونَشْرِ الإسْلامِ فَلا يَلِيقُ بِهِمْ إلّا إظْهارُ الغَضَبِ لِلَّهِ والحُبِّ في اللَّهِ والبُغْضِ في اللَّهِ مِنَ الإيمانِ، وأصْحابُ النَّبِيءِ ﷺ أقْوى المُؤْمِنِينَ إيمانًا مِن أجْلِ إشْراقِ أنْوارِ النُّبُوَّةِ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونُوا أشَدَّ عَلى الكُفّارِ فَإنَّ بَيْنَ نُفُوسِ الفَرِيقَيْنِ تَمامَ المُضادَّةِ وما كانَتْ كَراهِيَتُهم لِلصُّلْحِ مَعَ الكُفّارِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ورَغْبَتُهم في قَتْلِ أسْراهُمُ الَّذِينَ ثَقِفُوهم يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ وعَفا عَنْهُمُ النَّبِيءُ ﷺ إلّا مِن آثارِ شِدَّتِهِمْ عَلى الكُفّارِ ولَمْ تَكُنْ لاحَتْ لَهُمُ المَصْلَحَةُ الرّاجِحَةُ عَلى القِتالِ وعَلى القَتْلِ الَّتِي آثَرَها النَّبِيءُ ﷺ .

ولِذَلِكَ كانَ أكْثَرُهم مُحاوَرَةً في إباءِ الصُّلْحِ يَوْمَئِذٍ أشَدَّ أشِدّائِهِمْ عَلى الكُفّارِ، وهو عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وكانَ أفْهَمَهم لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَوَخّاها النَّبِيءُ ﷺ في إبْرامِ الصُّلْحِ أبُو بَكْرٍ. وقَدْ قالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ: أيُّها النّاسُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأيْتُنا يَوْمَ أبِي جَنْدَلٍ، ولَوْ نَسْتَطِيعُ أنْ نَرُدَّ عَلى رَسُولِ اللَّهِ فِعْلَهُ لَرَدَدْناهُ، واللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ.

ثُمَّ تَكُونُ أحْكامُ الشِّدَّةِ عَلى الكُفّارِ مِن وُجُوبٍ ونَدْبٍ وإباحَةٍ وأحْكامِ صُحْبَتِهِمْ ومُعامَلَتِهِمْ جارِيَةً عَلى مُخْتَلِفِ الأحْوالِ ولِعُلَماءِ الإسْلامِ فِيها مَقالٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِن ذَلِكَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ وفي سُورَةِ بَراءَةٌ.

والشِّدَّةُ عَلى الكُفّارِ اقْتَبَسُوها مِن شِدَّةِ النَّبِيءِ ﷺ في إقامَةِ الدِّينِ قالَ تَعالى: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] .

وأمّا كَوْنُهم رُحَماءَ بَيْنَهم فَذَلِكَ مِن رُسُوخِ أُخُوَّةِ الإيمانِ بَيْنَهم في نُفُوسِهِمْ.

صفحة ٢٠٥

وقَدْ ورَدَتْ أخْبارُ أُخُوَّتِهِمْ وتَراحُمِهِمْ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ وكَلامِ الرَّسُولِ ﷺ .

وفِي الجَمْعِ لَهم بَيْنَ هاتَيْنِ الخَلَّتَيْنِ المُتَضادَّتَيْنِ الشِّدَّةِ والرَّحْمَةِ إيماءٌ إلى أصالَةِ آرائِهِمْ وحِكْمَةِ عُقُولِهِمْ، وأنَّهم يَتَصَرَّفُونَ في أخْلاقِهِمْ وأعْمالِهِمْ تَصَرُّفَ الحِكْمَةِ والرُّشْدِ فَلا تَغْلِبُ عَلى نُفُوسِهِمْ مَحْمَدَةٌ دُونَ أُخْرى ولا يَنْدَفِعُونَ إلى العَمَلِ بِالجِبِلَّةِ وعَدَمِ الرُّؤْيَةِ.

وفِي مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤] في سُورَةِ العُقُودِ.

وفِي تَعْلِيقِ ”رُحَماءُ“ مَعَ ظَرْفِ (بَيْنَ) المُفِيدِ لِلْمَكانِ الدّاخِلِ وسَطَ ما يُضافُ هو إلَيْهِ تَنْبِيهٌ عَلى انْبِثاثِ التَّراحُمِ فِيهِمْ جَمِيعًا قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «تَجِدُ المُسْلِمِينَ في تَوادِّهِمْ وتَراحُمِهِمْ كالجَسَدِ الواحِدِ إذا اشْتَكى مِنهُ عُضْوٌ اشْتَكى لَهُ جَمِيعُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمّى» .

والخِطابُ في تَراهم لِغَيْرٍ مُعَيَّنٍ بَلْ لِكُلِّ مَن تَتَأتّى رُؤْيَتُهُ إيّاهم، أيْ يَراهُمُ الرّائِي.

وإيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، أيْ تَراهم كُلَّما شِئْتَ أنْ تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا. وهَذا ثَناءٌ عَلَيْهِمْ بِشِدَّةِ إقْبالِهِمْ عَلى أفْضَلِ الأعْمالِ المُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، وهي الصَّلَواتُ مَفْرُوضُها ونافِلَتُها وأنَّهم يَتَطَلَّبُونَ بِذَلِكَ رِضا اللَّهِ ورِضْوانِهُ. وفي سَوْقِ هَذا في مَساقِ الثَّناءِ إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ حَقَّقَ لَهم ما يَبْتَغُونَهُ.

والسِّيما: العَلّامَةُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣] في البَقَرَةِ، وهَذِهِ سِيما خاصَّةٌ هي مِن أثَرِ السُّجُودِ.

واخْتُلِفَ في المُرادِ مِنَ السِّيما الَّتِي وُصِفَتْ بِأنَّها مِن أثَرِ السُّجُودِ عَلى ثَلاثَةِ أنْحاءٍ، الأوَّلِ: أنَّها أثَرٌ مَحْسُوسٌ لِلسُّجُودِ، الثّانِي: أنَّها مِنَ الأثَرِ النَّفْسِيِّ لِلسُّجُودِ، الثّالِثِ: أنَّها أثَرٌ يَظْهَرُ في وُجُوهِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ.

فَبِالأوَّلِ فَسَّرَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ وعِكْرِمَةُ وأبُو العالِيَةِ قالَ مالِكٌ: السِّيما هي ما

صفحة ٢٠٦

يَتَعَلَّقُ بِجِباهِهِمْ مِنَ الأرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ مِثْلَ ما تَعَلَّقَ بِجَبْهَةِ النَّبِيءِ ﷺ مِن أثَرِ الطِّينِ والماءِ لَمّا وكَفَ المَسْجِدَ صَبِيحَةَ إحْدى وعِشْرِينَ مِن رَمَضانَ. وقالَ السَّعِيدُ وعِكْرِمَةُ: الأثَرُ كالغُدَّةِ يَكُونُ في جَبْهَةِ الرَّجُلِ.

ولَيْسَ المُرادُ أنَّهم يَتَكَلَّفُونَ حُدُوثَ ذَلِكَ في وُجُوهِهِمْ ولَكِنَّهُ يَحْصُلُ مِن غَيْرِ قَصْدٍ بِسَبَبِ تَكَرُّرِ مُباشَرَةِ الجَبْهَةِ لِلْأرْضِ وبَشَراتُ النّاسِ مُخْتَلِفَةٌ في التَّأثُّرِ بِذَلِكَ فَلا حَرَجَ عَلى مَن حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ إذا لَمْ يَتَكَلَّفُهُ ولَمْ يَقْصِدْ بِهِ رِياءً.

وقالَ أبُو العالِيَةِ: يَسْجُدُونَ عَلى التُّرابِ لا عَلى الأثْوابِ.

وإلى النَّحْوِ الثّانِي فَسَّرَ الأعْمَشُ والحَسَنُ وعَطاءٌ والرَّبِيعُ ومُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ جَزْءٍ والضَّحّاكُ. فَقالَ الأعْمَشُ: مَن كَثُرَتْ صَلاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وجْهُهُ بِالنَّهارِ. وقَرِيبٌ مِنهُ عَنْ عَطاءٍ والرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمانَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو حُسْنُ السَّمْتِ.

وقالَ مُجاهِدٌ: هو نُورٌ مِنَ الخُشُوعِ والتَّواضُعِ. وقالَ الحَسَنُ والضَّحّاكُ: بَياضٌ وصُفْرَةٌ وتَهَيُّجٌ يَعْتَرِي الوُجُوهَ مِنَ السَّهَرِ.

وإلى النَّحْوِ الثّالِثِ فَسَّرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أيْضًا والزُّهْرِيُّ وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ العَوْفِيِّ والحَسَنُ أيْضًا وخالِدٌ الحَنَفِيُّ وعَطِيَّةُ وشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: أنَّها سِيما تَكُونُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ، وقالُوا: هي بَياضٌ يَكُونُ في الوَجْهِ يَوْمَ القِيامَةِ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ كَرامَةً لَهم.

وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُّجُودِ﴾: النُّورُ يَوْمَ القِيامَةِ»، قِيلَ: وسَنَدُهُ حَسَنٌ. وهو لا يَقْتَضِي تَعْطِيلَ بَقِيَّةِ الِاحْتِمالاتِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ السِّيما المَحْمُودَةِ ولَكِنَّ النَّبِيءَ ﷺ ذَكَرَ أعْلاها.

وضَمائِرُ الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ ”تَراهم، ويَبْتَغُونَ، و﴿سِيماهم في وُجُوهِهِمْ﴾ عائِدَةٌ إلى“ الَّذِينَ مَعَهُ ”عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، وإلى كُلٍّ مِن ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ﴾ عَلى الوَجْهِ الثّانِي.

* * *

صفحة ٢٠٧

﴿ذَلِكَ مَثَلُهم في التَّوْراةِ﴾

الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى المَذْكُورِ مِن صِفاتِ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ لِأنَّ السّابِقَ في الذِّكْرِ بِمَنزِلَةِ الحاضِرِ فَيُشارُ إلَيْهِ بِهَذا الِاعْتِبارِ فاسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ ومَثَلُهم خَبَرُهُ.

والمَثَلُ يُطْلَقُ عَلى الحالَةِ العَجِيبَةِ، ويُطْلَقُ عَلى النَّظِيرِ، أيِ المُشابِهِ فَإنْ كانَ هُنا مَحْمُولًا عَلى الحالَةِ العَجِيبَةِ فالمَعْنى: أنَّ الصِّفاتِ المَذْكُورَةَ هي حالُهُمُ المَوْصُوفُ في التَّوْراةِ. وقَوْلُهُ:“ في التَّوْراةِ ”مُتَعَلِّقٌ بِـ“ مَثَلُهم ”أوْ حالٌ مِنهُ. فَيُحْتَمَلُ أنَّ في التَّوْراةِ وصْفَ قَوْمٍ سَيَأْتُونَ ووُصِفُوا بِهَذِهِ الصِّفاتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ هُمُ المَقْصُودُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ العَجِيبَةِ الَّتِي في التَّوْراةِ، أيْ أنَّ التَّوْراةَ قَدْ جاءَتْ فِيها بِشارَةٌ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ ووَصْفِ أصْحابِ النَّبِيءِ ﷺ . والَّذِي وقَفْنا عَلَيْهِ في التَّوْراةِ مِمّا يَصْلُحُ لِتَطْبِيقِ هَذِهِ الآيَةِ هو البِشارَةُ الرَّمْزِيَّةُ الَّتِي في الإصْحاحِ الثّالِثِ والثَلاثِينَ مِن سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِن قَوْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: (جاءَ الرَّبُّ مِن سِينا وأشْرَقَ لَهم مِن سَعِيرٍ وتَلَأْلَأ مِن جَبَلِ فارانَ، وأتى مِن رَبَواتِ القُدُسِ وعَنْ يَمِينِهِ نارٌ شَرِيعَةٌ لَهم فَأحَبَّ الشَّعْبُ جَمِيعَ قِدِّيسِيهِ وهم جالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ يَتَقَبَّلُونَ مِن أقْوالِكَ) فَإنَّ جَبَلَ فارانَ هو حِيالُ الحِجازِ.

وقَوْلُهُ:“ فَأحَبَّ الشَّعْبُ جَمِيعَ قِدِّيسِيهِ ”يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ رُحَماءُ بَيْنَهم، وقَدْ تَقَدَّمَ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ما يَنْطَبِقُ عَلى هَذا مِن سُورَةِ الفَتْحِ. وقَوْلُهُ: قِدِّيسِيهِ يُفِيدُ مَعْنى تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا ومَعْنى ﴿سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُّجُودِ﴾ . وقَوْلُهُ في التَّوْراةِ: جالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ يُفِيدُ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا.

ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى:“ ذَلِكَ ”إشارَةً إلى ما ذُكِرَ مِنَ الوَصْفِ.

* * *

﴿ومَثَلَهم في الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ﴾

ابْتِداءُ كَلامٍ مُبْتَدَأٍ. ويَكُونُ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ:“ في التَّوْراةِ ”والتَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ:

صفحة ٢٠٨

“ كَزَرْعٍ ”خَبَرُهُ، وهو المَثَلُ. وهَذا هو الظّاهِرُ مِن سِياقِ الآيَةِ فَيَكُونُ مُشِيرًا إلى نَحْوِ قَوْلِهِ في إنْجِيلِ مَتّى (الإصْحاحِ ١٣ فِقْرَةِ ٣): (هو ذا الزّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ [ يَعْنِي عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ] وفِيما هو يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلى الطَّرِيقِ فَجاءَتِ الطُّيُورُ وأكَلَتْهُ) إلى أنْ قالَ: (وسَقَطَ الآخَرُ عَلى الأرْضِ الجَيِّدَةِ فَأعْطى ثَمَرُهُ بَعْضَ مِائَةٍ وآخَرُ سِتِّينَ وآخَرُ ثَلاثِينَ) . قالَ فِقْرَةً: (ثُمَّ قالَ وأما المَزْرُوعُ عَلى الأرْضِ الجَيِّدَةِ فَهو الَّذِي يَسْمَعُ الكَلِمَةَ ويَفْهَمُ، وهو الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِائَةً وبَعْضٌ سِتِّينَ وآخَرُ ثَلاثِينَ) .

وهَذا يَتَضَمَّنُ نَماءَ الإيمانِ في قُلُوبِهِمْ وبِأنَّهم يَدْعُونَ النّاسَ إلى الدِّينِ حَتّى يَكْثُرَ المُؤْمِنُونَ كَما تُنْبِتُ الحَبَّةُ مِائَةَ سُنْبُلَةٍ وكَما تَنْبُتُ مِنَ النَّواةِ الشَّجَرَةُ العَظِيمَةُ.

وفِي قَوْلِهِ:“ أخْرَجَ شَطْأهُ ”اسْتِعارَةُ الإخْراجِ إلى تَفَرُّعِ الفِراخِ مِنَ الحَبَّةِ لِمُشابَهَةِ التَّفَرُّعِ بِالخُرُوجِ ومُشابَهَةِ الأصْلِ المُتَفَرَّعِ عَنْهُ بِالَّذِي يُخْرِجُ شَيْئًا مِن مَكانٍ.

والشَّطْءُ بِهَمْزَةٍ في آخِرِهِ وسُكُونِ الطّاءِ: فِراخُ الزَّرْعِ وفُرُوعُ الحَبَّةِ. ويُقالُ: أشْطَأ الزَّرْعُ، إذا أخْرَجَ فُرُوعًا.

وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِسُكُونِ الطّاءِ وبِالهَمْزِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ (شَطَأهُ) بِفَتْحِ الطّاءِ بَعْدَها ألِفٌ عَلى تَخْفِيفِ الهَمْزَةِ ألِفًا.

و“ آزَرَهُ ”قَوّاهُ، وهو مِنَ المُؤازَرَةِ بِالهَمْزِ وهي المُعاوَنَةُ وهو مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الإزارِ لِأنَّهُ يَشُدُّ ظَهْرَ المُتَّزِرِ بِهِ ويُعِينُهُ شَدُّهُ عَلى العَمَلِ والحَمْلِ كَذا قِيلَ. والأظْهَرُ عِنْدِي عَكْسُ ذَلِكَ وهو أنْ يَكُونَ الإزارُ مُشْتَقًّا اسْمُهُ مِن: آزَرَ، لِأنَّ الِاشْتِقاقَ مِنَ الأسْماءِ الجامِدَةِ نادِرٌ لا يُصارُ إلى دُعائِهِ إلّا إذا تَعَيَّنَ. وصِيغَةُ المُفاعَلَةِ في“ آزَرَهُ ”مُسْتَعارَةٌ لِقُوَّةِ الفِعْلِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: عافاكَ اللَّهُ، وقَوْلِهِ تَعالى وبارَكَ فِيها.

والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في“ آزَرَهُ ”لِلشَّطْءِ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ لِلزَّرْعِ، أيْ قَوّى الشَّطْءُ أصْلَهُ.

صفحة ٢٠٩

وقَرَأ الجُمْهُورُ:“ فَآزَرَهُ ”. وقَرَأهُ ابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ“ فَأزَّرَهُ ”بِدُونِ ألِفٍ بَعْدِ الهَمْزَةِ، والمَعْنى واحِدٌ.

ومَعْنى“ اسْتَغْلَظَ ”غَلُظَ غِلْظًا شَدِيدًا في نَوْعِهِ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلُ: اسْتَجابَ.

والضَّمِيرانِ المَرْفُوعانِ في“ اسْتَغْلَظَ ”و“ اسْتَوى ”عائِدانِ إلى الزَّرْعِ.

والسَّوَقُ: جَمْعُ ساقٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ لِأنَّ ساقًا لَيْسَ بِوَصْفٍ وهو اسْمٌ عَلى زِنَةِ فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ.

وقِراءَةُ الجَمِيعِ:“ عَلى سُوقِهِ ”بِالواوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: (سُؤْقِهِ) بِالهَمْزَةِ أيْ هَمْزَةٍ ساكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ المَضْمُومَةِ وهي لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ يَهْمِزُونَ الواوَ الَّتِي قَبْلَها ضَمَّةٌ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:

لَحَبُّ المُؤْقِدانِ إلَيَّ مُؤْسى

وتُنْسَبُ لِقُنْبُلٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ ولَمْ يَذْكُرْها المُفَسِّرُونَ ولَمْ يَذْكُرْها في حِرْزِ الأمانِي وذَكَرَها النَوْرِيُّ في كِتابِ غَيْثِ النَّفْعِ وكَلامُهُ غَيْرُ واضِحٍ في صِحَّةِ نِسْبَةِ هَذِهِ القِراءَةِ إلى قُنْبُلٍ.

وساقُ الزَّرْعِ والشَّجَرَةِ: الأصْلُ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ السُّنْبُلُ والأغْصانُ.

ومَعْنى هَذا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهُ حالِ بَدْءِ المُسْلِمِينَ ونَمائِهِمْ حَتّى كَثُرُوا وذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ بَدْءِ دِينِ الإسْلامِ ضَعِيفًا وتَقَوِّيهِ يَوْمًا فَيَوْمًا حَتّى اسْتَحْكَمَ أمْرُهُ وتَغَلَّبَ عَلى أعْدائِهِ.

وهَذا التَّمْثِيلُ قابِلٌ لِاعْتِبارِ تَجْزِئَةِ التَّشْبِيهِ في أجْزائِهِ بِأنْ يُشَبَّهَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِالزّارِعِ

صفحة ٢١٠

كَما مَثَّلَ عِيسى غَلَبَ الإسْلامَ في الإنْجِيلِ، ويُشَبَّهُ المُؤْمِنُونَ بِحَبّاتِ الزَّرْعِ الَّتِي يَبْذُرُها في الأرْضِ مِثْلِ: أبِي بَكْرٍ وخَدِيجَةَ وعَلِيٍّ وبِلالٍ وعَمّارٍ، والشَّطْءُ: مَن أيَّدُوا المُسْلِمِينَ فَإنَّ النَّبِيءَ ﷺ دَعا إلى اللَّهِ وحْدَهُ وانْضَمَّ إلَيْهِ نَفَرٌ قَلِيلٌ ثُمَّ قَوّاهُ اللَّهُ بِمَن ضامَنَ مَعَهُ كَما يُقَوِّي الطّاقَةَ الأوْلى مِنَ الزَّرْعِ ما يَحْتَفُّ بِها مِمّا يَتَوَلَّدُ مِنها حَتّى يُعْجِبَ الزُّرّاعَ.

وقَوْلُهُ ﴿يُعْجِبُ الزُّرّاعَ﴾ تَحْسِينٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ لِيُفِيدَ تَحْسِينَ المُشَبَّهِ.

* * *

﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ﴾ تَعْلِيلٌ لِما تَضَمَّنَهُ تَمْثِيلُهم بِالزَّرْعِ المَوْصُوفِ مِن نَمائِهِمْ وتَرَقِّيهِمْ في الزِّيادَةِ والقُوَّةِ لِأنَّ كَوْنَهم بِتِلْكَ الحالَةِ مِن تَقْدِيرِ اللَّهِ لَهم أنْ يَكُونُوا عَلَيْها فَمَثَّلْ بِأنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ.

قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ أبُو عُرْوَةَ الزُّبَيْرِيُّ: كُنّا عِنْدَ مالِكِ بْنِ أنَسٍ فَذَكَرُوا عِنْدَهُ رَجُلًا يَنْتَقِصُ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَرَأ مالِكٌ هَذِهِ الآيَةَ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ إلى أنْ بَلَغَ قَوْلَهُ ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ﴾ فَقالَ مالِكٌ: مَن أصْبَحَ مِنَ النّاسِ في قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلى أحَدٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَدْ أصابَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ. وقُلْتُ: رَحِمَ اللَّهُ مالِكَ بْنَ أنَسٍ ورَضِيَ عَنْهُ ما أدَقَّ اسْتِنْباطَهُ.

* * *

﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾

أعْقَبَ تَنْوِيهَ شَأْنِهِمْ والثَّناءِ عَلَيْهِمْ بِوَعْدِهِمْ بِالجَزاءِ عَلى ما اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي لَها الأثَرُ المَتِينُ في نَشْرِ ونَصْرِ هَذا الدِّينِ.

وقَوْلُهُ:“ مِنهم ”يَجُوزُ أنْ تَكُونَ (مِن) لِلْبَيانِ كَقَوْلِهِ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠]

صفحة ٢١١

وهُوَ اسْتِعْمالٌ كَثِيرٌ، ويَجُوزُ إبْقاؤُهُ عَلى ظاهِرِ المَعْنى مِنَ التَّبْعِيضِ لِأنَّهُ وعْدٌ لِكُلِّ مَن يَكُونُ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ في الحاضِرِ والمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ ذِكْرُ (مِن) تَحْذِيرًا وهو لا يُنافِي المَغْفِرَةَ لِجَمِيعِهِمْ لِأنَّ جَمِيعَهم آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وأصْحابُ الرَّسُولِ ﷺ هم خِيرَةُ المُؤْمِنِينَ. انْتَهَتْ سُورَةُ الفَتْحِ.

* * *

صفحة ٢١٢

صفحة ٢١٣

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الحُجُراتِ

سُمِّيَتْ في جَمِيعِ المَصاحِفِ وكُتُبِ السُّنَّةِ والتَّفْسِيرِ“ سُورَةَ الحُجُراتِ ”ولَيْسَ لَها اسْمٌ غَيْرُهُ، ووَجْهُ تَسْمِيَتِها أنَّها ذُكِرَ فِيها لَفْظُ“ الحُجُراتِ " . ونَزَلَتْ في قِصَّةِ نِداءِ بَنِي تَمِيمٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِن وراءِ حُجُراتِهِ، فَعُرِفَتْ بِهَذِهِ الإضافَةِ.

وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفاقِ أهْلِ التَّأْوِيلِ، أيْ مِمّا نَزَلَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وحَكى السُّيُوطِيُّ في الإتْقانِ قَوْلًا شاذًّا أنَّها مَكِّيَّةٌ ولا يُعْرَفُ قائِلُ هَذا القَوْلِ.

وفِي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾ [الحجرات: ١٣] الآيَةَ، نَزَلَتْ بِمَكَّةَ في يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ كَما سَيَأْتِي، ولَمْ يُثْبِتْ أنَّ تِلْكَ الآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ كَما سَيَأْتِي. ولَمْ يَعُدَّها في الإتْقانِ في عِدادِ السُّورِ المُسْتَثْنى بَعْضُ آياتِها.

وهِيَ السُّورَةُ الثّامِنَةُ بَعْدَ المِائَةِ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ المُجادِلَةِ وقَبْلَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وكانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، وأوَّلُ آيِها في شَأْنِ وفْدِ بَنِي تَمِيمٍ كَما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١] وقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: ٤] .

وعَدَّ جَمِيعُ العادِّينَ آيَها ثَمانَ عَشْرَةَ آيَةً.

* * *

أغْراضُ هاتِهِ السُّورَةِ

تَتَعَلَّقُ أغْراضُها بِحَوادِثَ جَدَّتْ مُتَقارِبَةً كانَتْ سَبَبًا لِنُزُولِ ما فِيها مِن أحْكامٍ وآدابٍ.

وأوَّلُها تَعْلِيمُ المُسْلِمِينَ بَعْضَ ما يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الأدَبِ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ في

صفحة ٢١٤

مُعامَلَتِهِ وخِطابِهِ ونِدائِهِ، دَعا إلى تَعْلِيمِهِمْ إيّاها ما ارْتَكَبَهُ وفْدُ بَنِي تَمِيمٍ مِن جَفاءِ الأعْرابِ لَمّا نادَوُا الرَّسُولَ ﷺ مِن بُيُوتِهِ كَما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: ٤] .

ووُجُوبِ صِدْقِ المُسْلِمِينَ فِيما يُخْبِرُونَ بِهِ، والتَّثَبُّتِ في نَقْلِ الخَبَرِ مُطْلَقًا وأنَّ ذَلِكَ مِن خُلُقِ المُؤْمِنِينَ، ومُجانَبَةِ أخْلاقِ الكافِرِينَ والفاسِقِينَ، وتَطَرَّقَ إلى ما يَحْدُثُ مِنَ التَّقاتُلِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، والإصْلاحِ بَيْنَهم لِأنَّهم إخْوَةٌ، وما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن آدابِ حُسْنِ المُعامَلَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أحْوالِهِمْ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، وتَخَلَّصَ مِن ذَلِكَ إلى التَّحْذِيرِ مِن بَقايا خُلُقِ الكُفْرِ في بَعْضِ جُفاةِ الأعْرابِ تَقْوِيمًا لِأوَدِ نُفُوسِهِمْ.

وقالَ فَخْرُ الدِّينِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: ٦]: هَذِهِ السُّورَةُ فِيها إرْشادُ المُؤْمِنِينَ إلى مَكارِمِ الأخْلاقِ، وهي إمّا مَعَ اللَّهِ أوْ مَعَ رَسُولِهِ ﷺ أوْ مَعَ غَيْرِهِما مِن أبْناءِ الجِنْسِ، وهم عَلى صِنْفَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونُوا عَلى طَرِيقَةِ المُؤْمِنِينَ وداخِلِينَ في رُتْبَةِ الطّاعَةِ أوْ خارِجِينَ عَنْها وهو الفُسُوقُ، والدّاخِلُ في طائِفَتِهِمْ: إمّا أنْ يَكُونَ حاضِرًا عِنْدَهم أوْ غائِبًا عَنْهم فَهَذِهِ خَمْسَةُ أقْسامٍ، قالَ: فَذَكَرَ اللَّهُ في هَذِهِ السُّورَةِ خَمْسَ مَرّاتٍ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحجرات: ٦] وأرْشَدَ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ إلى مَكْرُمَةٍ مِن قِسْمٍ مِنَ الأقْسامِ الخَمْسَةِ، وسَنَأْتِي عَلى بَقِيَّةِ كَلامِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ الآيَةِ الأُولى مِن هَذِهِ السُّورَةِ.

وهَذِهِ السُّورَةُ هي أوَّلُ سُوَرِ المُفَصَّلِ بِتَشْدِيدِ الصّادِ ويُسَمّى المُحْكَمُ عَلى أحَدِ أقْوالٍ في المَذْهَبِ، وهو الَّذِي ارْتَضاهُ المُتَأخِّرُونَ مِنَ الفُقَهاءِ وفي مَبْدَأِ المُفَصَّلِ عِنْدَنا أقْوالٌ عَشَرَةٌ أشْهَرُها قَوْلانِ: قِيلَ: إنَّ مَبْدَأهُ سُورَةُ ق وقِيلَ: سُورَةُ الحُجُراتِ، وفي مَبْدَأِ وسَطِ المُفَصَّلِ قَوْلانِ أصَحُّهُما أنَّهُ سُورَةُ عَبَسَ، وفي قِصارِهِ قَوْلانِ أصَحُّهُما أنَّها مِن سُورَةِ والضُّحى.

واخْتَلَفَ الحَنَفِيَّةُ في مَبْدَأِ المُفَصَّلِ عَلى أقْوالٍ اثْنَيْ عَشَرَ، والمُصَحَّحُ أنَّ أوَّلَهُ مِنَ

صفحة ٢١٥

الحُجُراتِ، وأوَّلَ وسَطِ المُفَصَّلِ سُورَةُ الطّارِقِ، وأوَّلَ القِصارِ سُورَةُ إذا زُلْزِلَتِ الأرْضُ.

وعِنْدَ الشّافِعِيَّةِ قِيلَ: أوَّلُ المُفَصَّلِ سُورَةُ الحُجُراتِ، وقِيلَ سُورَةُ ق، ورَجَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ في التَّفْسِيرِ كَما سَيَأْتِي.

وعِنْدَ الحَنابِلَةِ: أوَّلُ المُفَصَّلِ سُورَةُ ق.

والمُفَصَّلُ هو السُّورُ الَّتِي تُسْتَحَبُّ القِراءَةُ بِبَعْضِها في بَعْضِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ عَلى ما هو مُبَيَّنٌ في كُتُبِ الفِقْهِ.