Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضِ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ .
إعادَةُ النِّداءِ ثانِيًا لِلِاهْتِمامِ بِهَذا الغَرَضِ والإشْعارِ بِأنَّهُ غَرَضٌ جَدِيرٌ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ حَتّى لا يَنْغَمِرَ في الغَرَضِ الأوَّلِ فَإنَّ هَذا مِن آدابِ سُلُوكِ المُؤْمِنِينَ في مُعامَلَةِ النَّبِيءِ ﷺ ومُقْتَضى التَّأدُّبِ بِما هو آكَدُ مِنَ المُعامَلاتِ بِدَلالَةِ الفَحْوى.
وهَذا أيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: ٤] وإلْقاءٌ لِتَرْبِيَةٍ أُلْقِيَتْ إلَيْهِمْ لِمُناسَبَةِ طَرَفٍ مِن أطْرافِ خَبَرِ وفْدِ بَنِي تَمِيمٍ.
والرَّفْعُ: مُسْتَعارٌ لِجَهْرِ الصَّوْتِ جَهْرًا مُتَجاوِزًا لِمُعْتادِ الكَلامِ، شَبَّهَ جَهْرَ الصَّوْتِ بِإعْلاءِ الجِسْمِ في أنَّهُ أشَدُّ بُلُوغًا إلى الأسْماعِ كَما أنَّ إعْلاءَ الجِسْمِ أوْضَحُ لَهُ في الإبْصارِ، عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ، أوْ شَبَّهَ إلْقاءَ الكَلامِ بِجَهْرٍ قَوِيٍّ بِإلْقائِهِ مِن مَكانٍ مُرْتَفِعٍ كالمِئْذَنَةِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ.
صفحة ٢٢٠
و(فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ) تَرْشِيحٌ لِاسْتِعارَةِ لا تَرْفَعُوا وهو فَوْقٌ مَجازِيٌّ أيْضًا.ومَوْقِعُ قَوْلِهِ: (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ) مَوْقِعُ الحالِ مِن أصْواتِكم، أيْ مُتَجاوِزَةً صَوْتَ النَّبِيءِ ﷺ، أيْ مُتَجاوِزَةَ المُعْتادِ في جَهْرِ الأصْواتِ، فَإنَّ النَّبِيءَ ﷺ يَتَكَلَّمُ بِجَهْرٍ مُعْتادٍ.
ولا مَفْهُومَ لِهَذا الظَّرْفِ لِأنَّهُ خارِجٌ مَخْرَجَ الغالِبِ، إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ إذا رَفَعَ النَّبِيءُ ﷺ صَوْتَهُ فارْفَعُوا أصْواتَكم بِمِقْدارِ رَفْعِهِ.
والمَعْنى: لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم في مَجْلِسِهِ وبِحَضْرَتِهِ إذا كَلَّمَ بَعْضُكم بَعْضًا كَما وقَعَ في صُورَةِ سَبَبِ النُّزُولِ.
ولَقَدْ تَحَصَّلَ مِن هَذا النَّهْيِ مَعْنى الأمْرِ بِتَخْفِيضِ الأصْواتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ لَيْسَ المُرادُ أنْ يَكُونُوا سُكُوتًا عِنْدَهُ.
وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ: قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ «فَما كانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ حَتّى يَسْتَفْهِمَهُ» . ولَمْ يَذْكُرْ (أيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ) ذَلِكَ عَنْ أبِيهِ يَعْنِي أبا بَكْرٍ، ولَكِنْ أخْرَجَ الحاكِمُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: «أنَّ أبا بَكْرٍ قالَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: ”والَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ يا رَسُولَ اللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ إلّا كَأخِي السِّرارِ حَتّى ألْقى اللَّهَ“» .
وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ «قالَ ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ كادَ الخَيِّرانِ أنْ يَهْلِكا أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رَفَعا أصْواتَهُما عِنْدَ النَّبِيءِ» ﷺ .
وهَذا النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ المَواضِعِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالجَهْرِ فِيها كالأذانِ وتَكْبِيرِ يَوْمِ العِيدِ، وبِغَيْرِ ما أذِنَ فِيهِ النَّبِيءُ ﷺ إذْنًا خاصًّا كَقَوْلِهِ لِلْعَبّاسِ حِينَ انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «نادِ يا أصْحابَ السَّمُرَةِ» وكانَ العَبّاسُ جَهِيرَ الصَّوْتِ.
وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ﴾ نُهِيَ عَنْ جَهْرٍ آخَرَ، وهو الجَهْرُ بِالصَّوْتِ عِنْدَ خِطابِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ لِوُجُوبِ التَّغايُرِ بَيْنَ مُقْتَضى قَوْلِهِ: ﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ﴾ ومُقْتَضى ﴿ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ﴾ .
صفحة ٢٢١
واللّامُ في ”لَهُ“ لِتَعْدِيَةِ ”تَجْهَرُوا“ لِأنَّ ”تَجْهَرُوا“ في مَعْنى: تَقُولُوا، فَدَلَّتِ اللّامُ عَلى أنَّ هَذا الجَهْرَ يَتَعَلَّقُ بِمُخاطَبَتِهِ، وزادَهُ وُضُوحًا التَّشْبِيهُ في قَوْلِهِ: ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكم لِبَعْضٍ﴾ .وفِي هَذا النَّهْيِ ما يَشْمَلُ صَنِيعَ الَّذِينَ نادَوُا النَّبِيءَ ﷺ مِن وراءِ الحُجُراتِ فَيَكُونُ تَخَلُّصًا مِنَ المُقَدِّمَةِ إلى الغَرَضِ المَقْصُودِ، ويَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: ٤] .
و﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ﴾ في مَحَلِّ نَصَبٍ عَلى نَزْعِ الخافِضِ وهو لامُ التَّعْلِيلِ وهَذا تَعْلِيلٌ لِلْمَنهِيِّ عَنْهُ لا لِلنَّهْيِ، أيْ أنَّ الجَهْرَ لَهُ بِالقَوْلِ يُفْضِي بِكم - إنْ لَمْ تَكُفُّوا عَنْهُ - أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم، فَحَبْطُ الأعْمالِ بِذَلِكَ مِمّا يُحْذَرُ مِنهُ فَجَعَلَهُ مَدْخُولًا لِلامِ التَّعْلِيلِ مَصْرُوفًا عَنْ ظاهِرٍ. فالتَّقْدِيرُ: خَشْيَةَ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم، كَذا يُقَدِّرُ نُحاةُ البَصْرَةِ في هَذا وأمْثالِهِ. والكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَهُ بِتَقْدِيرِ (لا) النّافِيَةِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أنْ لا تَحْبَطَ أعْمالُكم فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ عَلى حَسَبِ الظّاهِرِ.
والحَبْطُ: تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ الِانْتِفاعِ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ بِسَبَبِ ما يَطْرَأُ عَلَيْها مِنَ الكُفْرِ مَأْخُوذٌ مِن حَبِطَتِ الإبِلُ إذا أكَلَتِ الخُضْرَ فَنَفَخَ بُطُونَها وتَعْتَلُّ ورُبَّما هَلَكَتْ، وفي الحَدِيثِ: «وإنَّ مِمّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَما يَقْتُلُ حَبْطًا أوْ يُلِمُّ» . وتَقَدَّمَ في سُورَةِ المائِدَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: ٥] .
وظاهِرُ الآيَةِ التَّحْذِيرُ مِن حَبْطِ جَمِيعِ الأعْمالِ لِأنَّ الجَمْعَ المُضافَ مِن صِيغِ العُمُومِ ولا يَكُونُ حَبْطُ جَمِيعِ الأعْمالِ إلّا في حالَةِ الكُفْرِ لِأنَّ مِنَ الأعْمالِ الإيمانَ فَمَعْنى الآيَةِ: أنَّ عَدَمَ الِاحْتِرازِ مِن سُوءِ الأدَبِ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ بَعْدَ هَذا النَّهْيِ قَدْ يُفْضِي بِفاعِلِهِ إلى إثْمٍ عَظِيمٍ يَأْتِي عَلى عَظِيمٍ مِن صالِحاتِهِ أوْ يُفْضِي بِهِ إلى الكُفْرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلى الوَحْشَةِ في نُفُوسِكم فَلا تَزالُ مُعْتَقَداتُكم تَتَدَرَّجُ القَهْقَرى حَتّى يَئُولَ ذَلِكَ إلى الكُفْرِ فَحَبْطِ الأعْمالِ. وأقُولُ: لِأنَّ عَدَمَ الِانْتِهاءِ عَنْ سُوءِ الأدَبِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ يُعَوِّدُ النَّفْسَ بِالِاسْتِرْسالِ فِيهِ فَلا تَزالُ تَزْدادُ مِنهُ ويَنْقُصُ تَوْقِيرُ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ النَّفْسِ وتَتَوَلّى مِن سَيِّئٍ إلى أشَدَّ مِنهُ حَتّى يَئُولَ إلى عَدَمِ الِاكْتِراثِ بِالتَّأدُّبِ مَعَهُ وذَلِكَ كُفْرٌ. وهَذا مَعْنى ﴿وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾
صفحة ٢٢٢
لِأنَّ المُنْتَقِلَ مِن سَيِّئٍ إلى أسْوَأ لا يَشْعُرُ بِأنَّهُ آخِذٌ في التَّمَلِّي مِنَ السُّوءِ بِحُكْمِ التَّعَوُّدِ بِالشَّيْءِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتّى تَغْمُرَهُ المَعاصِي ورُبَّما كانَ آخِرُها الكُفْرَ حِينَ تَضْرى النَّفْسُ بِالإقْدامِ عَلى ذَلِكَ.ويَجُوزُ أنْ يُرادَ حَبْطُ بَعْضِ الأعْمالِ عَلى أنَّهُ عامٌّ مُرادٌ بِهِ الخُصُوصُ فَيَكُونُ المَعْنى حُصُولَ حَطِيطَةٍ في أعْمالِهِمْ بِغَلَبَةِ عِظَمِ ذَنْبِ جَهْرِهِمْ لَهُ بِالقَوْلِ، وهَذا مُجْمَلٌ لا يَعْلَمُ مِقْدارَ الحَبْطِ إلّا اللَّهُ تَعالى.
فَفِي قَوْلِهِ: ﴿وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ تَنْبِيهٌ إلى مَزِيدِ الحَذَرِ مِن هَذِهِ المُهْلِكاتِ حَتّى يَصِيرَ ذَلِكَ دُرْبَةً حَتّى يَصِلَ إلى ما يُحْبِطُ الأعْمالَ، ولَيْسَ عَدَمُ الشُّعُورِ كائِنًا في إتْيانِ الفِعْلِ المَنهِيِّ عَنْهُ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ صاحِبُهُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ لِامْتِناعِ تَكْلِيفِ الغافِلِ ونَحْوِهِ.