Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾
أُعِيدَ النِّداءُ خامِسَ مَرَّةٍ لِاخْتِلافِ الغَرَضِ والِاهْتِمامِ بِهِ. وذَلِكَ أنَّ المَنهِيّاتِ المَذْكُورَةَ بَعْدَ هَذا النِّداءِ مِن جِنْسِ المُعامَلاتِ السَّيِّئَةِ الخَفِيَّةِ الَّتِي لا يَتَفَطَّنُ لَها مَن عُومِلَ بِها فَلا يَدْفَعُها، فَما يُزِيلُها مِن نَفْسِ مَن عامَلَهُ بِها.
صفحة ٢٥١
فَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ تَأْدِيبٌ عَظِيمٌ يُبْطِلُ ما كانَ فاشِيًا في الجاهِلِيَّةِ مِنَ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ والتُّهَمِ الباطِلَةِ وأنَّ الظُّنُونَ السَّيِّئَةَ تَنْشَأُ عَنْها الغَيْرَةُ المُفْرِطَةُ والمَكائِدُ، والِاغْتِيالاتُ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والمُبادَأةُ بِالقِتالِ حَذَرًا مِنِ اعْتِداءٍ مَظْنُونٍ ظَنًّا باطِلًا، كَما قالُوا: ”خُذِ اللِّصَّ قَبْلَ أنْ يَأْخُذَكَ“ .وما نَجَمَتِ العَقائِدُ الضّالَّةُ والمَذاهِبُ الباطِلَةُ إلّا مِنَ الظُّنُونِ الكاذِبَةِ قالَ تَعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: ١٥٤] وقالَ ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: ٢٠] وقالَ ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨] ثُمَّ قالَ ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٨] .
وقالَ النَّبِيءُ ﷺ «إيّاكم والظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ» .
ولَمّا جاءَ الأمْرُ في هَذِهِ الآيَةِ بِاجْتِنابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ عَلِمْنا أنَّ الظُّنُونَ الآثِمَةَ غَيْرُ قَلِيلَةٍ، فَوَجَبَ التَّمْحِيصُ والفَحْصُ لِتَمْيِيزِ الظَّنِّ الباطِلِ مِنَ الظَّنِّ الصّادِقِ.
والمُرادُ بِـ ”الظَّنِّ“ هُنا: الظَّنُّ المُتَعَلِّقُ بِأحْوالِ النّاسِ، وحُذِفَ المُتَعَلِّقُ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السّامِعِ إلى كُلِّ ظَنٍّ مُمْكِنٍ هو إثْمٌ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ يَسْتَوْقِفُ السّامِعَ لِيَتَطَلَّبَ البَيانَ فاعْلَمُوا أنَّ بَعْضَ الظَّنِّ جُرْمٌ، وهَذا كِنايَةٌ عَنْ وُجُوبِ التَّأمُّلِ في آثارِ الظُّنُونِ لِيَعْرِضُوا ما تُفْضِي إلَيْهِ الظُّنُونُ عَلى ما يَعْلَمُونَهُ مِن أحْكامِ الشَّرِيعَةِ، أوْ لِيَسْألُوا أهْلَ العِلْمِ عَلى أنَّ هَذا البَيانَ الِاسْتِئْنافِيَّ يَقْتَصِرُ عَلى التَّخْوِيفِ مِنَ الوُقُوعِ في الإثْمِ. ولَيْسَ هَذا البَيانُ تَوْضِيحًا لِأنْواعِ الكَثِيرِ مِنَ الظَّنِّ المَأْمُورِ بِاجْتِنابِهِ، لِأنَّها أنْواعٌ كَثِيرَةٌ فَنَبَّهَ عَلى عاقِبَتِها وتَرَكَ التَّفْصِيلَ لِأنَّ في إبْهامِهِ بَعْثًا عَلى مَزِيدِ الِاحْتِياطِ.
ومَعْنى كَوْنِهِ إثْمًا أنَّهُ: إمّا أنْ يَنْشَأ عَلى ذَلِكَ الظَّنِّ عَمَلٌ أوْ مُجَرَّدُ اعْتِقادٍ، فَإنْ كانَ قَدْ يَنْشَأُ عَلَيْهِ عَمَلٌ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ كالِاغْتِيابِ والتَّجَسُّسِ وغَيْرِ ذَلِكَ فَلْيُقَدِّرِ الظّانُّ أنَّ ظَنَّهُ كاذِبٌ ثُمَّ لْيَنْظُرْ بَعْدُ في عَمَلِهِ الَّذِي بَناهُ عَلَيْهِ فَيَجِدُهُ قَدْ عامَلَ بِهِ مَن لا يَسْتَحِقُّ تِلْكَ المُعامَلَةَ مِنِ اتِّهامِهِ بِالباطِلِ فَيَأْثَمُ مِمّا طَوى عَلَيْهِ قَلْبَهُ لِأخِيهِ
صفحة ٢٥٢
المُسْلِمِ، وقَدْ قالَ العُلَماءُ: إنَّ الظَّنَّ القَبِيحَ بِمَن ظاهِرُهُ الخَيْرُ لا يَجُوزُ.وإنْ لَمْ يَنْشَأْ عَلَيْهِ إلّا مُجَرَّدُ اعْتِقادٍ دُونَ عَمَلٍ فَلْيُقَدِّرْ أنَّ ظَنَّهُ كانَ مُخْطِئًا يَجِدُ نَفْسَهُ قَدِ اعْتَقَدَ في أحَدٍ ما لَيْسَ بِهِ، فَإنْ كانَ اعْتِقادًا في صِفاتِ اللَّهِ فَقَدِ افْتَرى عَلى اللَّهِ وإنْ كانَ اعْتِقادًا في أحْوالِ النّاسِ فَقَدْ خَسِرَ الِانْتِفاعَ بِمَن ظَنَّهُ ضارًّا، أوِ الِاهْتِداءَ بِمَن ظَنَّهُ ضالًّا، أوْ تَحْصِيلَ العِلْمِ مِمَّنْ ظَنَّهُ جاهِلًا ونَحْوَ ذَلِكَ.
ووَراءَ ذَلِكَ فالظَّنُّ الباطِلُ إذا تَكَرَّرَتْ مُلاحَظَتُهُ ومُعاوَدَةُ جَوَلانِهِ في النَّفْسِ قَدْ يَصِيرُ عِلْمًا راسِخًا في النَّفْسِ فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآثارُ بِسُهُولَةٍ فَتُصادِفُ مَن هو حَقِيقٌ بِضِدِّها كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ [الحجرات: ٦] .
والِاجْتِنابُ: افْتِعالٌ مِن جَنَّبَهُ وأجْنَبَهُ، إذا أبْعَدَهُ، أيْ جَعَلَهُ جانِبًا آخَرَ، وفِعْلُهُ يُعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، يُقالُ: جَنَّبَهُ الشَّرَّ، قالَ تَعالى: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥] . ومُطاوِعُهُ أجْتَنِبُ، أيْ أبْتَعِدُ، ولَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلُ أمْرٍ إلّا بِصِيغَةِ الِافْتِعالِ.
ومَعْنى الأمْرِ بِاجْتِنابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ الأمْرُ بِتَعاطِي وسائِلِ اجْتِنابِهِ فَإنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ في خاطِرِ الإنْسانِ اضْطِرارًا عَنْ غَيْرِ اخْتِيارٍ، فَلا يُعْقَلُ التَّكْلِيفُ بِاجْتِنابِهِ وإنَّما يُرادُ الأمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فِيهِ وتَمْحِيصِهِ والتَّشَكُّكِ في صِدْقِهِ إلى أنْ يَتَبَيَّنَ مُوجِبُهُ بِدُونِ تَرَدُّدٍ أوْ بِرُجْحانٍ أوْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ فَتُكَذِّبُ نَفْسَكَ فِيما حَدَّثَتْكَ.
وهَذا التَّحْذِيرُ يُرادُ مِنهُ مُقاوَمَةُ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ بِما هو مِعْيارُها مِنَ الأماراتِ الصَّحِيحَةِ. وفي الحَدِيثِ: «إذا ظَنَنْتُمْ فَلا تُحَقِّقُوا» .
عَلى أنَّ الظَّنَّ الحَسَنَ الَّذِي لا مُسْتَنَدَ لَهُ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِأنَّهُ قَدْ يُوقِعُ فِيما لا يُحَدُّ ضُرُّهُ مِنِ اغْتِرارٍ في مَحَلِّ الحَذَرِ ومِنِ اقْتِداءٍ بِمَن لَيْسَ أهْلًا لِلتَّأسِّي. وقَدْ «قالَ النَّبِيءُ ﷺ لِأُمِّ عَطِيَّةَ حِينَ ماتَ في بَيْتِها عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ وقالَتْ: ”رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبا السّايِبِ فَشَهادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ“ ”وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أكْرَمَهُ ؟“ . فَقالَتْ: ”يا رَسُولَ اللَّهِ ومَن يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟“ فَقالَ: ”أمّا هو فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ وإنِّي صفحة ٢٥٣
وقَدْ عُلِمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ وتَبْيِينِهِ بِأنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ أنَّ بَعْضًا مِنَ الظَّنِّ لَيْسَ إثْمًا وأنّا لَمْ نُؤْمَرْ بِاجْتِنابِ الظَّنِّ الَّذِي لَيْسَ بِإثْمٍ لِأنَّ كَثِيرًا وصْفٌ، فَمَفْهُومُ المُخالَفَةِ مِنهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ لَمْ نُؤَمَرْ بِاجْتِنابِهِ وهو الَّذِي يُبَيِّنُهُ ﴿إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾ أيْ أنَّ بَعْضَ الظَّنِّ لَيْسَ إثْمًا، فَعَلى المُسْلِمِ أنْ يَكُونَ مِعْيارُهُ في تَمْيِيزِ أحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنَ الآخَرِ أنْ يَعْرِضَهُ عَلى ما بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ في تَضاعِيفِ أحْكامِها مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وما أجْمَعَتْ عَلَيْهِ عُلَماءُ الأُمَّةِ وما أفادَهُ الِاجْتِهادُ الصَّحِيحُ وتَتَبُّعُ مَقاصِدِ الشَّرِيعَةِ، فَمِنهُ ظَنٌّ يَجِبُ اتِّباعُهُ كالحَذَرِ مِن مَكائِدِ العَدُوِّ في الحَرْبِ، وكالظَّنِّ المُسْتَنِدِ إلى الدَّلِيلِ الحاصِلِ مِن دَلالَةِ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإنَّ أكْثَرَ التَّفْرِيعاتِ الشَّرْعِيَّةِ حاصِلَةٌ مِنَ الظَّنِّ المُسْتَنِدِ إلى الأدِلَّةِ. وقَدْ فَتَحَ مَفْهُومُ هَذِهِ الآيَةِ بابَ العَمَلِ بِالظَّنِّ غَيْرِ الإثْمِ إلّا أنَّها لا تَقُومُ حُجَّةً إلّا عَلى الَّذِينَ يَرَوْنَ العَمَلَ بِمَفْهُومِ المُخالَفَةِ وهو أرْجَحُ الأقْوالِ، فَإنَّ مُعْظَمَ دَلالاتِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ عَلى المَفاهِيمِ كَما تَقَرَّرَ في أُصُولِ الفِقْهِ.
وأمّا الظَّنُّ الَّذِي هو فَهْمُ الإنْسانِ وزَكانَتُهُ فَذَلِكَ خاطِرٌ في نَفْسِهِ وهو أدْرى فَمُعْتادُهُ مِنهُ مِن إصابَةٍ أوْ ضِدِّها قالَ أوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
الألْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ نَّ كَأنْ قَدْ رَأى وقَدْ سَمِعا
* * *
﴿ولا تَجَسَّسُوا﴾ التَّجَسُّسُ مِن آثارِ الظَّنِّ لِأنَّ الظَّنَّ يَبْعَثُ عَلَيْهِ حِينَ تَدْعُو الظّانَّ نَفْسُهُ إلى تَحْقِيقِ ما ظَنَّهُ سِرًّا فَيَسْلُكُ طَرِيقَ التَّجْنِيسِ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِن سُلُوكِ هَذا الطَّرِيقِ لِلتَّحَقُّقِ لِيَسْلُكُوا غَيْرَهُ إنْ كانَ في تَحْقِيقِ ما ظَنَّ فائِدَةٌ.والتَّجَسُّسُ: البَحْثُ بِوَسِيلَةٍ خَفِيَّةٍ وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الجَسِّ، ومِنهُ سُمِّي الجاسُوسُ.والتَّجَسُّسُ مِنَ المُعامَلَةِ الخَفِيَّةِ عَنِ المُتَجَسَّسِ عَلَيْهِ. ووَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أنَّهُ ضَرْبٌ
صفحة ٢٥٤
مِنَ الكَيْدِ والتَّطَلُّعِ عَلى العَوْراتِ. وقَدْ يَرى المُتَجَسِّسُ مِنَ المُتَجَسَّسِ عَلَيْهِ ما يَسُوءُهُ فَتَنْشَأُ عَنْهُ العَداوَةُ والحِقْدُ. ويَدْخُلُ صَدْرَهُ الحَرَجُ والتَّخَوُّفُ بَعْدَ أنْ كانَتْ ضَمائِرُهُ خالِصَةً طَيِّبَةً وذَلِكَ مِن نَكَدِ العَيْشِ.وذَلِكَ ثَلْمٌ لِلْأُخُوَّةِ الإسْلامِيَّةِ لِأنَّهُ يَبْعَثُ عَلى إظْهارِ التَّنَكُّرِ ثُمَّ إنِ اطَّلَعَ المُتَجَسَّسُ عَلَيْهِ عَلى تَجَسُّسِ الآخَرِ ساءَهُ فَنَشَأ في نَفْسِهِ كُرْهٌ لَهُ وانْثَلَمَتِ الأُخُوَّةُ ثُلْمَةٌ أُخْرى كَما وصَفْنا في حالِ المُتَجَسِّسِ، ثُمَّ يَبْعَثُ ذَلِكَ عَلى انْتِقامِ كِلَيْهِما مِن أخِيهِ.
وإذْ قَدِ اعْتُبِرَ النَّهْيُ عَنِ التَّجَسُّسِ مِن فُرُوعِ النَّهْيِ عَنِ الظَّنِّ فَهو مُقَيَّدٌ بِالتَّجَسُّسِ الَّذِي هو إثْمٌ أوْ يُفْضِي إلى الإثْمِ، وإذا عُلِمَ أنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ عامَّةٌ صارَ التَّجَسُّسُ كَبِيرَةً. ومِنهُ التَّجَسُّسُ عَلى المُسْلِمِينَ لِمَن يَبْتَغِي الضُّرَّ بِهِمْ.
فالمَنهِيُّ عَنْهُ هو التَّجَسُّسُ الَّذِي لا يَنْجَرُّ مِنهُ نَفَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ أوْ دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهم فَلا يَشْمَلُ التَّجَسُّسَ عَلى الأعْداءِ ولا تَجَسُّسَ الشُّرَطِ عَلى الجُناةِ واللُّصُوصِ.
* * *
﴿ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيِّتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ الِاغْتِيابُ: افْتِعالٌ مِن غابَهُ المُتَعَدِّي، إذا ذَكَرَهُ في غَيْبِهِ بِما يَسُوءُهُ.فالِاغْتِيابُ ذِكْرُ أحَدٍ غائِبٍ بِما لا يُحِبُّ أنْ يُذْكَرَ بِهِ، والِاسْمُ مِنهُ الغِيبَةُ بِكَسْرِ الغَيْنِ مِثْلَ الغِيلَةِ. وإنَّما يَكُونُ ذِكْرُهُ بِما يَكْرَهُ غِيبَةً إذا لَمْ يَكُنْ ما ذَكَرَهُ بِهِ مِمّا يَثْلِمُ العِرْضَ وإلّا صارَ قَذْعًا.
وإنَّما قالَ ﴿ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ: اجْتَنِبُوا الغَيْبَةَ. لِقَصْدِ التَّوْطِئَةِ لِلتَّمْثِيلِ الوارِدِ في قَوْلِهِ: ﴿أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا﴾ لِأنَّهُ لَمّا كانَ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ مُشْتَمِلًا عَلى جانِبِ فاعِلِ الِاغْتِيابِ ومَفْعُولِهِ مَهَّدَ لَهُ بِما يَدُلُّ عَلى ذاتَيْنِ لِأنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ التَّمْثِيلَ وُضُوحًا.
والِاسْتِفْهامُ في ﴿أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا﴾ تَقْرِيرِيٌّ لِتَحَقُّقِ أنَّ
صفحة ٢٥٥
كُلَّ أحَدٍ يُقِرُّ بِأنَّهُ لا يُحِبُّ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ أُجِيبَ الِاسْتِفْهامُ بِقَوْلِهِ: ”﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾“ .وإنَّما لَمْ يَرِدِ الِاسْتِفْهامُ عَلى نَفْيِ مَحَبَّةِ ذَلِكَ بِأنْ يُقالَ: ألا يُحِبُّ أحَدُكم، كَما هو غالِبُ الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ، إشارَةً إلى تَحَقُّقِ الإقْرارِ المُقَرَّرِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَتْرُكُ لِلْمُقَرَّرِ مَجالًا لِعَدَمِ الإقْرارِ ومَعَ ذَلِكَ لا يَسَعُهُ إلّا الإقْرارُ. مُثِّلَتِ الغَيْبَةُ بِأكْلِ لَحْمِ الأخِ المَيِّتِ وهو يَسْتَلْزِمُ تَمْثِيلَ المَوْلُوعِ بِها بِمَحَبَّةِ أكْلِ لَحْمِ الأخِ المَيِّتِ، والتَّمْثِيلُ مَقْصُودٌ مِنهُ اسْتِفْظاعُ المُمَثَّلِ وتَشْوِيهُهُ لِإفادَةِ الإغْلاظِ عَلى المُغْتابِينَ لِأنَّ الغِيبَةَ مُتَفَشِّيَةٌ في النّاسِ وخاصَّةً في أيّامِ الجاهِلِيَّةِ.
فَشُبِّهَتْ حالَةُ اغْتِيابِ المُسْلِمِ مَن هو أخُوهُ في الإسْلامِ وهو غائِبٌ بِحالَةِ أكْلِ لَحْمِ أخِيهِ وهو مَيِّتٌ لا يُدافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، وهَذا التَّمْثِيلُ لِلْهَيْئَةِ قابِلٌ لِلتَّفْرِيقِ بِأنْ يُشَبَّهَ الَّذِي اغْتابَ بِآكِلِ لَحْمٍ، ويُشَبَّهَ الَّذِي اغْتِيبَ بِأخٍ، وتُشَبَّهَ غِيبَتُهُ بِالمَوْتِ.
والفاءُ في قَوْلِهِ: ”﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾“ فاءُ الفَصِيحَةِ، وضَمِيرُ الغائِبِ عائِدٌ إلى ”أحَدُكم“، أوْ يَعُودُ إلى ”لَحْمَ“ .
والكَراهَةُ هُنا: الِاشْمِئْزازُ والتَّقَذُّرُ. والتَّقْدِيرُ: إنْ وقَعَ هَذا أوْ إنْ عَرَضَ لَكم هَذا فَقَدَ كَرِهْتُمُوهُ.
وفاءُ الفَصِيحَةِ تُفِيدُ الإلْزامَ بِما بَعْدَها كَما صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكم بِما تَقُولُونَ﴾ [الفرقان: ١٩] في سُورَةِ الفُرْقانِ، أيْ تَدُلُّ عَلى أنْ لا مَناصَ لِلْمُواجَهِ بِها مِنِ التِزامِ مَدْلُولِ جَوابِ شَرْطِها المَحْذُوفِ.
والمَعْنى: فَتَعَيَّنَ إقْرارُكم بِما سُئِلْتُمْ عَنْهُ مِنَ المُمَثَّلِ بِهِ (إذْ لا يُسْتَطاعُ جَحْدُهُ) تَحَقَّقَتْ كَراهَتُكم لَهُ وتَقَذُّرُكم مِنهُ، فَلْيَتَحَقَّقْ أنْ تَكْرَهُوا نَظِيرَهُ المُمَثَّلَ، وهو الغَيْبَةُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فاكْرَهُوا المُمَثَّلَ كَما كَرِهْتُمُ المُمَثَّلَ بِهِ.
وفِي هَذا الكَلامِ مُبالَغاتٌ: مِنها الِاسْتِفْهامُ التَّقْرِيرِيُّ الَّذِي لا يَقَعُ إلّا عَلى أمْرٍ مُسَلَّمٍ عِنْدَ المُخاطَبِ فَجَعْلُكَ لِلشَّيْءِ في حَيِّزِ الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ يَقْتَضِي أنَّكَ تَدَّعِي أنَّهُ لا يُنْكِرُهُ المُخاطَبُ.
ومِنها جَعْلُ ما هو شَدِيدُ الكَراهَةِ لِلنَّفْسِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ المَحَبَّةِ لِلْإشْعارِ بِتَفْظِيعِ
صفحة ٢٥٦
حالَةِ ما شُبِّهَ بِهِ وحالَةِ مَنِ ارْتَضاهُ لِنَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: أيَتَحَمَّلُ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا، بَلْ قالَ أيُحِبُّ أحَدُكم.ومِنها إسْنادُ الفِعْلِ إلى أحَدٍ لِلْإشْعارِ بِأنَّ أحَدًا مِنَ الأحَدَيْنِ لا يُحِبُّ ذَلِكَ.
ومِنها أنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى تَمْثِيلِ الِاغْتِيابِ بِأكْلِ لَحْمِ الإنْسانِ حَتّى جَعَلَ الإنْسانَ أخًا.
ومِنها أنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى كَوْنِ المَأْكُولِ لَحْمَ الأخِ حَتّى جَعَلَ الأخَ مَيِّتًا.
وفِيهِ مِنَ المُحَسِّناتِ: الطِّباقُ بَيْنَ ”أيُحِبُّ“ وبَيْنَ ”فَكَرِهْتُمُوهُ“ .
والغِيبَةُ حَرامٌ بِدَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ وآثارٍ مِنَ السُّنَّةِ بَعْضُها صَحِيحٌ وبَعْضُها دُونَهُ.
وذَلِكَ أنَّها تَشْتَمِلُ عَلى مَفْسَدَةِ ضَعْفٍ في أُخُوَّةِ الإسْلامِ. وقَدْ تَبْلُغُ الَّذِي اغْتِيبَ فَتَقْدَحُ في نَفْسِهِ عَداوَةً لِمَنِ اغْتابَهُ فَيَنْثَلِمُ بِناءُ الأُخُوَّةِ، ولِأنَّ فِيها الِاشْتِغالَ بِأحْوالِ النّاسِ وذَلِكَ يُلْهِي الإنْسانَ عَنِ الِاشْتِغالِ بِالمُهِمِّ النّافِعِ لَهُ وتَرْكِ ما لا يَعْنِيهِ.
وهِيَ عِنْدَ المالِكِيَّةِ مِنَ الكَبائِرِ وقَلَّ مَن صَرَّحَ بِذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّيْخَ عَلِيًّا الصَّعِيدِيَّ في حاشِيَةِ الكِفايَةِ صَرَّحَ بِأنَّها عِنْدَنا مِنَ الكَبائِرِ مُطْلَقًا. ووَجْهُهُ أنَّ اللَّهَ نَهى عَنْها وشَنَّعَها. ومُقْتَضى كَلامِ السِّجِلْماسِيِّ في كِتابِ العَمَلِ الفاسِيِّ أنَّها كَبِيرَةٌ.
وجَعَلَها الشّافِعِيَّةُ مِنَ الصَّغائِرِ لِأنَّ الكَبِيرَةَ في اصْطِلاحِهِمْ فِعْلٌ يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِراثِ فاعِلِهِ بِالدِّينِ ورِقَّةِ الدِّيانَةِ، كَذا حَدَّها إمامُ الحَرَمَيْنِ.
فَإذا كانَ ذَلِكَ لِوَجْهِ مَصْلَحَةٍ مِثْلِ تَجْرِيحِ الشُّهُودِ ورُواةِ الحَدِيثِ وما يُقالُ لِلْمُسْتَشِيرِ في مُخالَطَةٍ أوْ مُصاهَرَةٍ فَإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغِيبَةٍ، بِشَرْطِ أنْ لا يَتَجاوَزَ الحَدَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ وصْفُ الحالَةِ المَسْئُولِ عَنْها.
وكَذَلِكَ لا غِيبَةَ في فاسِقٍ بِذِكْرِ فِسْقِهِ دُونَ مُجاهَرَةٍ لَهُ بِهِ. وقَدْ «قالَ النَّبِيءُ ﷺ لَمّا اسْتُؤْذِنَ عِنْدَهُ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ» لِيَحْذَرَهُ مَن سَمِعَهُ إذْ كانَ عُيَيْنَةُ يَوْمَئِذٍ مُنْحَرِفًا عَنِ الإسْلامِ.
صفحة ٢٥٧
وعَنِ الطَّبَرِيِّ صاحِبِ العُدَّةِ في فُرُوعِ الشّافِعِيَّةِ أنَّها صَغِيرَةٌ، قالَ المَحَلِّيُّ وأقَرَّهُ الرّافِعِيُّ ومَن تَبِعَهُ. قُلْتُ: وذَكَرَ السِّجِلْماسِيُّ في نَظْمِهِ في المَسائِلِ الَّتِي جَرى بِها عَمَلُ القُضاةِ في فاسَ فَقالَ:ولا تُجَّرِحْ شاهِدًا بِالغِيبَه لِأنَّها عَمَّتْ بِها المُصِيبَه
وذَكَرَ في شَرْحِهِ: أنَّ القُضاةَ عَمِلُوا بِكَلامِ الغَزالِيِّ.وأمّا عُمُومُ البَلْوى فَلا يُوجِبُ اغْتِفارَ ما عَمَّتْ بِهِ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ والتَّعَذُّرِ كَما ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ أبِي مُحَمَّدِ بْنِ أبِي زَيْدٍ.
وعِنْدِي: أنَّ ضابِطَ ذَلِكَ أنْ يَكْثُرَ في النّاسِ كَثْرَةً بِحَيْثُ يَصِيرُ غَيْرَ دالٍّ عَلى اسْتِخْفافٍ بِالوازِعِ الدِّينِيِّ فَحِينَئِذٍ يُفارِقُها مَعْنى ضَعْفِ الدِّيانَةِ الَّذِي جَعَلَهُ الشّافِعِيَّةُ جُزْءًا مِن ماهِيَّةِ الغَيْبَةِ.
* * *
﴿واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ﴾عَطْفٌ عَلى جُمَلِ الطَّلَبِ السّابِقَةِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ وهَذا كالتَّذْيِيلِ لَها؛ إذْ أمَرَ بِالتَّقْوى وهي جِماعُ الِاجْتِنابِ والِامْتِثالِ فَمَن كانَ سالِمًا مِنَ التَّلَبُّسِ بِتِلْكَ المَنهِيّاتِ فالأمْرُ بِالتَّقْوى يُجَنِّبُهُ التَّلَبُّسَ بِشَيْءٍ مِنها في المُسْتَقْبَلِ، ومَن كانَ مُتَلَبِّسًا بِها أوْ بِبَعْضِها فالأمْرُ بِالتَّقْوى يَجْمَعُ الأمْرَ بِالكَفِّ عَمّا هو مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنها.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ لِلتَّذْيِيلِ لِأنَّ التَّقْوى تَكُونُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِالإثْمِ فَقِيلَ ﴿إنَّ اللَّهَ تَوّابٌ﴾ وتَكُونُ التَّقْوى ابْتِداءً فَيَرْحَمُ اللَّهُ المُتَّقِيَ، فالرَّحِيمُ شامِلٌ لِلْجَمِيعِ.