صفحة ٢٦٧

﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾

هَذا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: ”لَمْ تُؤْمِنُوا“ إلى قَوْلِهِ: ”في قُلُوبِكم“ وهو مِن جُمْلَةِ ما أُمِرَ الرَّسُولُ ﷺ بِأنْ يَقُولَهُ لِلْأعْرابِ، أيْ لَيْسَ المُؤْمِنُونَ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُخالِطْ إيمانَهُمُ ارْتِيابٌ أوْ تَشَكُّكٌ.

و(إنَّما) لِلْحَصْرِ، و(إنَّ) الَّتِي هي جُزْءٌ مِنها أيْضًا لِلتَّعْلِيلِ وقائِمَةٌ مَقامَ فاءِ التَّفْرِيعِ، أيْ إنَّما لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لِأنَّ الإيمانَ يُنافِيهِ الِارْتِيابُ.

والقَصْرُ إضافِيٌّ، أيِ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفاتُهم غَيْرُ هَؤُلاءِ الأعْرابِ.

فَأفادَ أنَّ هَؤُلاءِ الأعْرابَ انْتَفى عَنْهُمُ الإيمانُ لِأنَّهُمُ انْتَفى عَنْهم مَجْمُوعُ هَذِهِ الصِّفاتِ.

وإذْ قَدْ كانَ القَصْرُ إضافِيًّا لَمْ يَكُنِ الغَرَضُ مِنهُ إلّا إثْباتَ الوَصْفِ لِغَيْرِ المَقْصُورِ لِإخْراجِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم عَنْ أنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، ولَيْسَ بِمُقْتَضٍ أنَّ حَقِيقَةَ الإيمانِ لا تَتَقَوَّمُ إلّا بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الصِّفاتِ لِأنَّ عَدَّ الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صِفَتَيِ الإيمانِ وانْتِفاءِ الرَّيْبِ فِيهِ يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ لِأنَّ الَّذِي يَقْعُدُ عَنِ الجِهادِ لا يَنْتَفِي عَنْهُ وصْفُ الإيمانِ إذْ لا يَكْفُرُ المُسْلِمُ بِارْتِكابِ الكَبائِرِ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ. وما عَداهُ خَطَأٌ واضِحٌ، وإلّا لانْتَقَضَتْ جَماعَةُ الإسْلامِ بِأسْرِها إلّا فِئَةً قَلِيلَةً في أوْقاتٍ غَيْرِ طَوِيلَةٍ.

والمَقْصُودُ مِن إدْماجِ ذِكْرِ الجِهادِ التَّنْوِيهُ بِفَضْلِ المُؤْمِنِينَ المُجاهِدِينَ وتَحْرِيضُ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإيمانِ عَلى الِاسْتِعْدادِ إلى الجِهادِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهم أوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦] الآيَةَ.

و(ثُمَّ) مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا﴾ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ كَشَأْنِها في عَطْفِ الجُمَلِ. فَفي (ثُمَّ) إشارَةٌ إلى أنَّ انْتِفاءَ الِارْتِيابِ في إيمانِهِمْ أهَمُّ رُتْبَةً مِنَ الإيمانِ إذْ بِهِ قِوامُ الإيمانِ،

صفحة ٢٦٨

وهَذا إيماءٌ إلى بَيانِ قَوْلِهِ: ﴿ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]، أيْ مِن أجْلِ ما يُخالِجُكُمُ ارْتِيابٌ في بَعْضِ ما آمَنتُمْ بِهِ مِمّا اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ.

وقَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾ قَصْرٌ، وهو قَصْرٌ إضافِيٌّ أيْضًا، أيْ هُمُ الصّادِقُونَ لا أنْتُمْ في قَوْلِكم آمَنّا.