﴿ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وحَبَّ الحَصِيدِ﴾ ﴿والنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾

بَعْدَ التَّنَظُّرِ والتَّذْكِيرِ والتَّبْصِيرِ في صُنْعِ السَّماواتِ وصُنْعِ الأرْضِ وما فِيهِما مِن وقْتِ نَشْأتِهِما نَقَلَ الكَلامَ إلى التَّذْكِيرِ بِإيجادِ آثارٍ مِن آثارِ تِلْكَ المَصْنُوعاتِ تَتَجَدَّدُ عَلى مُرُورِ الدَّهْرِ حَيَّةً ثُمَّ تَمُوتُ ثُمَّ تَحْيا دَأْبًا، وقَدْ غَيَّرَ أُسْلُوبَ الكَلامِ لِهَذا الِانْتِقالِ مِن أُسْلُوبِ الِاسْتِفْهامِ في قَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّماءِ﴾ [ق: ٦] إلى أُسْلُوبِ الإخْبارِ بِقَوْلِهِ ﴿ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا﴾ إيذانًا بِتَبْدِيلِ المُرادِ لِيَكُونَ مِنهُ تَخْلُصٌ إلى الدَّلالَةِ عَلى إمْكانِ البَعْثِ في قَوْلِهِ: ”﴿كَذَلِكَ الخُرُوجُ﴾ [ق: ١١]“ . فَجُمْلَةُ ”ونَزَّلَنا“ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ”﴿والأرْضَ مَدَدْناها﴾ [ق: ٧]“ .

وقَدْ ذُكِرَتْ آثارٌ مِن آثارِ السَّماءِ وآثارِ الأرْضِ عَلى طَرِيقَةِ النَّشْرِ المُرَتَّبِ عَلى وفْقِ اللَّفِّ.

والمُبارَكُ: اسْمُ مَفْعُولٍ لِلَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ البَرَكَةُ، أيْ جُعِلَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ.

صفحة ٢٩٢

وأفْعالُ هَذِهِ المادَّةِ كَثِيرَةُ التَّصَرُّفِ ومُتَنَوِّعَةُ التَّعْلِيقِ. والبَرَكَةُ: الخَيْرُ النّافِعُ لِما يَتَسَبَّبُ عَلَيْهِ مِن إنْباتِ الحُبُوبِ والأعْنابِ والنَّخِيلِ. وتَقَدَّمَ مَعْنى المُبارَكِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا﴾ [آل عمران: ٩٦] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

وفِي هَذا اسْتِدْلالٌ بِتَفْصِيلِ الإنْباتِ الَّذِي سَبَقَ إجْمالُهُ في قَوْلِهِ: ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: ٧] لِما فِيهِ مِن سَوْقِ العُقُولِ إلى التَّأمُّلِ في دَقِيقِ الصُّنْعِ لِذَلِكَ الإنْباتِ وأنَّ حُصُولَهُ بِهَذا السَّبَبِ وعَلى ذَلِكَ التَّطَوُّرِ أعْظَمُ دَلالَةً عَلى حِكْمَةِ اللَّهِ وسَعَةِ عِلْمِهِ مِمّا لَوْ كانَ إنْباتُ الأزْواجِ بِالطَّفْرَةِ، إذْ تَكُونُ حِينَئِذٍ أسْبابُ تَكْوِينِها خَفِيَّةً فَإذا كانَ خَلْقُ السَّماواتِ وما فِيها، ومَدُّ الأرْضِ، وإلْقاءُ الجِبالِ فِيها، دَلائِلَ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ الرَّبّانِيَّةِ لِخَفاءِ كَيْفِيّاتِ تَكْوِينِها فَإنَّ ظُهُورَ كَيْفِيّاتِ التَّكْوِينِ في إنْزالِ الماءِ وحُصُولِ الإنْباتِ والإثْمارِ دَلالَةٌ عَلى عَظِيمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى.

والجَنّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ، وهي ما شُجِّرَ بِالكَرْمِ وأشْجارِ الفَواكِهِ والنَّخِيلِ.

والحَبُّ: هو ما يَنْبُتُ في الزَّرْعِ الَّذِي يُخْرِجُ سَنابِلَ تَحْوِي حُبُوبًا مِثْلَ البُرِّ والشَّعِيرِ والذُّرَةِ والسُّلْتِ والقَطانِيِّ مِمّا تُحْصَدُ أُصُولُهُ لِيُدَقَّ فَيَخْرُجُ ما فِيهِ مِنَ الحَبِّ.

و”حَبُّ الحَصِيدِ“ مَفْعُولُ ”أنْبَتْنا“ لِأنَّ الحَبَّ مِمّا نَبَتَ تَبَعًا لِنَباتِ سُنْبُلِهِ المَدْلُولِ عَلى إنْباتِهِ بِقَوْلِهِ: ”الحَصِيدِ“ إذْ لا يُحْصَدُ إلّا بَعْدَ أنْ يَنْبُتَ.

والحَصِيدُ: الزَّرْعُ المَحْصُودُ، أيِ المَقْطُوعُ مِن جُذُورِهِ لِأكْلِ حَبِّهِ، فَإضافَةُ حَبٍّ إلى الحَصِيدِ عَلى أصْلِها، ولَيْسَتْ مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ.

وفائِدَةُ ذِكْرِ هَذا الوَصْفِ: الإشارَةُ إلى اخْتِلافِ أحْوالِ اسْتِحْصالِ ما يَنْفَعُ النّاسَ مِن أنْواعِ النَّباتِ فَإنَّ الجَنّاتِ تُسْتَثْمَرُ وأُصُولُها باقِيَةٌ والحُبُوبُ تُسْتَثْمَرُ بَعْدَ حَصْدِ أُصُولِها، عَلى أنَّ في ذَلِكَ الحَصِيدِ، مَنافِعَ لِلْأنْعامِ تَأْكُلُهُ بَعْدَ أخْذِ حَبِّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿مَتاعًا لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ [النازعات: ٣٣] .

وخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ تَناوُلِ جَنّاتٍ لَهُ لِأنَّهُ أهَمُّ الأشْجارِ عِنْدَهم وثَمَرَهُ أكْثَرُ أقْواتِهِمْ، ولِإتْباعِهِ بِالأوْصافِ لَهُ ولِطَلْعِهِ مِمّا يُثِيرُ تَذَكُّرَ بَدِيعَ قَوامِهِ، وأنِيقَ جَمالِهِ.

صفحة ٢٩٣

والباسِقاتُ: الطَّوِيلاتُ في ارْتِفاعٍ، أيْ عالِياتٌ فَلا يُقالُ: باسِقٌ لِلطَّوِيلِ المُمْتَدِّ عَلى الأرْضِ. وعَنِ ابْنِ شَدّادٍ: الباسِقاتُ الطَّوِيلاتُ مَعَ الِاسْتِقامَةِ. ولَمْ أرَهُ لِأحَدٍ مِن أئِمَّةِ اللُّغَةِ. ولَعَلَّ مُرادَهُ مِنَ الِاسْتِقامَةِ الِامْتِدادُ في الِارْتِفاعِ. وهو بِالسِّينِ المُهْمِلَةِ في لُغَةِ جَمِيعِ العَرَبِ عَدا بَنِي العَنْبَرِ مِن تَمِيمٍ يُبْدِلُونَ السِّينَ صادًا في هَذِهِ الكَلِمَةِ. قالَ ابْنُ جِنِّي: الأصْلُ السِّينُ وإنَّما الصّادُ بَدَلٌ مِنها لِاسْتِعْلاءِ القافِ. ورَوى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيءَ ﷺ في صَلاةِ الصُّبْحِ قَرَأها بِالصّادِّ. ومِثْلُهُ في ابْنِ عَطِيَّةَ وهو حَدِيثٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.

والَّذِي في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مالِكٍ مَرْوِيَّةٌ بِالسِّينِ. ومِنَ العَجِيبِ أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قالَ: وفي قِراءَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ”باصِقاتٍ“ .

وانْتَصَبَ ”باسِقاتٍ“ عَلى الحالِ. والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ الإيماءُ إلى بَدِيعِ خِلْقَتِهِ وجَمالِ طَلْعَتِهِ. اسْتِدْلالًا وامْتِنانًا.

والطَّلْعُ: أوَّلُ ما يَظْهَرُ مِن ثَمَرِ التَّمْرِ، وهو في الكُفُرّى، أيْ غِلافِ العُنْقُودِ.

والنَّضِيدُ: المَنضُودُ، أيِ المُصَفَّفُ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ ما دامَ في الكُفُرى فَإذا انْشَقَّ عَنْهُ الكُفُرى فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ. فَهو مَعْناهُ بِمَعْنى مَفْعُولٍ قالَ تَعالى: وطَلْحٍ مَنضُودٍ.

وزِيادَةُ هَذِهِ الحالِ لِلِازْدِيادِ مِنَ الصِّفاتِ النّاشِئَةِ عَنْ بَدِيعِ الصَّنْعَةِ ومِنَ المِنَّةِ بِمَحاسِنِ مَنظَرِ ما أُوتُوهُ.