﴿وفي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾ ﴿فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وهم يَنْظُرُونَ﴾ ﴿فَما اسْتَطاعُوا مِن قِيامٍ وما كانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ .

أُتْبِعَتْ قِصَّةُ عادٍ بِقِصَّةِ ثَمُودَ لِتَقارُنِهِما غالِبًا في القُرْآنِ مِن أجْلِ أنَّ ثَمُودَ عاصَرَتْ عادًا وخَلَفَتْها في عَظَمَةِ الأُمَمِ، قالَ تَعالى ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ﴾ [الأعراف: ٧٤] ولِاشْتِهارِهِما بَيْنَ العَرَبِ.

﴿وفِي ثَمُودَ﴾ عَطْفٌ عَلى في عادٍ أوْ عَلى تَرَكْنا فِيها آيَةٌ.

والمَعْنى: وتَرَكْنا آيَةً لَلْمُؤْمِنِينَ في ثَمُودَ في حالٍ قَدْ أخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ، أيْ: في دِلالَةِ أخْذِ الصّاعِقَةِ إيّاهم، عَلى أنَّ سَبَبَهُ هو إشْراكُهم وتَكْذِيبُهم وعُتُوُّهم عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ، فالمُؤْمِنُونَ اعْتَبَرُوا بِتِلْكَ فَسَلَكُوا مَسْلَكَ النَّجاةِ مِن عَواقِبِها، وأمّا المُشْرِكُونَ فَإصْرارُهم عَلى كُفْرِهِمْ سَيُوقِعُهم في عَذابٍ مِن جِنْسِ ما وقَعَتْ فِيهِ ثَمُودُ.

وهَذا القَوْلُ الَّذِي ذُكِرَ هُنا هو كَلامٌ جامِعٌ لِما أنْذَرَهم بِهِ صالِحٌ رَسُولُهم وذَكَّرَهم بِهِ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ ﴿وبَوَّأكم في الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِها قُصُورًا وتَنْحِتُونَ الجِبالَ بُيُوتًا﴾ [الأعراف: ٧٤]

صفحة ١٣

وقَوْلِهِ ﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٤٦] ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ [الذاريات: ١٥] ﴿وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ [الشعراء: ١٤٨] وقَوْلِهِ ﴿هُوَ أنْشَأكم مِنَ الأرْضِ واسْتَعْمَرَكم فِيها﴾ [هود: ٦١] . ونَحْوُ ذَلِكَ مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهم أُعْطُوا ما هو مَتاعٌ، أيْ: نَفْعٌ في الدُّنْيا فَإنَّ مَنافِعَ الدُّنْيا زائِلَةٌ، فَكانَتِ الأقْوالُ الَّتِي قالَها رَسُولُهم تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَجْمَعُها ”تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ“، عَلى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ رَسُولُهم قالَ لَهم هَذِهِ الكَلِمَةَ الجامِعَةَ ولَمْ تُحْكَ في القُرْآنِ إلّا في هَذا المَوْضِعِ، فَقَدْ عَلِمْتَ مِنَ المُقَدِّمَةِ السّابِعَةِ مِن مُقَدِّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ أنَّ أخْبارَ الأُمَمِ تَأْتِي مُوَزَّعَةً عَلى قَصَصِهِمْ في القُرْآنِ.

فَقَوْلُهُ: (تَمَتَّعُوا) مُسْتَعْمَلٌ في إباحَةِ المَتاعِ. وقَدْ جُعِلَ المَتاعُ بِمَعْنى النِّعْمَةِ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا مَتاعٌ﴾ [الرعد: ٢٦] قَوْلُهُ ﴿وإنْ أدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكم ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأنبياء: ١١١] .

والمُرادُ بِحِينٍ زَمَنٌ مُبْهَمٌ، جُعِلَ نِهايَةً لِما مُتِّعُوا بِهِ مِنَ النِّعَمِ، فَإنَّ نِعَمَ الدُّنْيا زائِلَةٌ، وذَلِكَ الأجَلُ: إمّا أنْ يُرادَ بِهِ أجَلُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُمُ الَّذِي تَنْتَهِي إلَيْهِ حَياتُهُ، وإمّا أنْ يُرادَ بِهِ أجَلُ الأُمَّةِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ بَقاؤُها.

وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ ﴿يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [هود: ٣] فَكَما قالَ اللَّهُ لِلنّاسِ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَعَلَّهُ قالَهُ لِثَمُودَ عَلى لِسانِ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.

ولَيْسَ قَوْلُهُ ﴿إذْ قِيلَ لَهم تَمَتَّعُوا حَتّى حِينٍ﴾ بَمُشِيرٍ إلى قَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا في دارِكم ثَلاثَةَ أيّامٍ﴾ [هود: ٦٥] ونَحْوِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الأمْرُ مُسْتَعْمَلٌ في الإنْذارِ والتَّأْيِيسِ مِنَ النَّجاةِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ فَلا يَكُونُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبِّهِمْ مُناسِبَةٌ لِتَعْقِيبِهِ بِهِ بِالفاءِ؛ لِأنَّ الَّذِي تُفِيدُهُ الفاءُ يَقْتَضِي أنَّ ما بَعْدَها مُرَتَّبٌ في الوُجُودِ عَلى ما قَبْلَها.

والعُتُوُّ: الكِبْرُ والشِّدَّةُ. وضُمِّنَ (عَتَوْا): مَعْنى أعْرَضُوا، فَعُدِّيَ بِعَنْ، أيْ: فَأعْرَضُوا عَمّا أمَرَهُمُ اللَّهُ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.

وأخْذُ الصّاعِقَةِ إيّاهم إصابَتُهم إيّاهم إصابَةً تُشْبِهُ أخْذَ العَدُّوِ عَدُوَّهُ.

وجُمْلَةُ ”وهم يَنْظُرُونَ“ حالٌ مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في أخَذْتُهم، أيْ: أخَذْتُهم

صفحة ١٤

فِي حالِ نَظَرِهِمْ إلى نُزُولِها؛ لِأنَّهم لَمّا رَأوْا بَوارِقَها الشَّدِيدَةَ عَلِمُوا أنَّها غَيْرُ مُعْتادَةٍ فاسْتَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ إلى السَّحابِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الصّاعِقَةُ وهم يَنْظُرُونَ. وذَلِكَ هَوْلٌ عَظِيمٌ زِيادَةً في العَذابِ، فَإنَّ النَّظَرَ إلى النِّقْمَةِ يَزِيدُ صاحِبَها ألَمًا، كَما أنَّ النَّظَرَ إلى النِّعْمَةِ يَزِيدُ المُنَعَّمَ مَسَرَّةً، قالَ تَعالى ﴿وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠] .

وقَرَأ الكِسائِيُّ (الصَّعْقَةُ) بَدُونِ ألِفٍ.

وقَوْلُهُ ﴿فَما اسْتَطاعُوا مِن قِيامٍ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى ”وهم يَنْظُرُونَ“، أيْ: فَما اسْتَطاعُوا أنْ يَدْفَعُوا ذَلِكَ حِينَ رُؤْيَتِهِمْ بَوادِرَهُ. فالقِيامُ مَجازٌ لَلدِّفاعِ، كَما يُقالُ: هَذا أمْرٌ لا يَقُومُ لَهُ أحَدٌ، أيْ: لا يَدْفَعُهُ أحَدٌ. وفي الحَدِيثِ «غَضِبَ غَضَبًا لا يَقُومُ لَهُ أحَدٌ»، أيْ: فَما اسْتَطاعُوا أيَّ دِفاعٍ لِذَلِكَ.

وقَوْلُهُ ”وما كانُوا مُنْتَصِرِينَ“، أيْ: لَمْ يَنْصُرْهم حَتّى يَكُونُوا مُنْتَصِرِينَ؛ لِأنَّ انْتَصَرَ مُطاوِعُ نَصَرَ، أيْ: ما نَصَرَهم أحَدٌ فانْتَصَرُوا.