﴿والأرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الماهِدُونَ﴾ .

القَوْلُ في تَقْدِيمِ الأرْضِ عَلى عامِلِهِ وفي مَجِيءِ طَرِيقَةِ الِاشْتِغالِ كالقَوْلِ في ”والسَّماءَ بَنَيْناها“ . وكَذَلِكَ القَوْلُ في الِاسْتِدْلالِ بِذَلِكَ عَلى إمْكانِ البَعْثِ.

مِن دَقائِقِ فَخْرِ الدِّينِ: أنَّ ذِكْرَ الأُمَمِ الأرْبَعِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ اللَّهَ عَذَّبَهم بِما هو مِن أسْبابِ وُجُودِهِمْ، وهو التُّرابُ والماءُ والهَواءُ والنّارُ، وهي عَناصِرُ الوُجُودِ، فَأهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِالحِجارَةِ وهي مِن طِينٍ، وأهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ بِالماءِ، وأهْلَكَ عادًا بِالرِّيحِ وهو هَواءٌ، وأهْلَكَ ثَمُودًا بِالنّارِ.

صفحة ١٧

واسْتَغْنى هُنا عَنْ إعادَةِ ”بِأيْدٍ“ لِدِلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ.

والفَرْشُ: بَسْطُ الثَّوْبِ ونَحْوِهِ لِلْجُلُوسِ والِاضْطِجاعِ، وفي ”فَرَشْناها“ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ تَكْوِينَ اللَّهِ الأرْضَ عَلى حالَةِ البَسْطِ بِفَرْشِ البِساطِ ونَحْوِهِ.

وفِي هَذا الفَرْشِ دَلالَةٌ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ إذْ جَعَلَ الأرْضَ مَبْسُوطَةً لَمّا أرادَ أنْ يَجْعَلَ عَلى سَطْحِها أنْواعَ الحَيَوانِ يَمْشِي عَلَيْها ويَتَوَسَّدُها ويَضْطَجِعُ عَلَيْها ولَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَكانَتَ مُحْدَوْدِبَةً تُؤْلِمُ الماشِيَ بَلْهَ المُتَوَسِّدُ والمُضْطَجِعُ.

ولَمّا كانَ في فَرْشِها إرادَةً جَعَلَها مَهْدًا لِمَن عَلَيْها مِنَ الإنْسانِ؛ أتْبَعَ ”فَرَشْناها“ بِتَفْرِيعِ ثَناءِ اللَّهِ عَلى نَفْسِهِ عَلى إجادَةِ تَمْهِيدِها تَذْكِيرًا بِعَظَمَتْهِ ونِعْمَتِهِ، أيْ: ﴿فَنِعْمَ الماهِدُونَ﴾ نَحْنُ.

وصِيغَةُ الجَمْعِ في قَوْلِهِ الماهِدُونَ لِلتَّعْظِيمِ، مِثْلِ ضَمِيرِ الجَمْعِ في لِلَّهِ، ورُوعِيَ في وصْفِ خَلْقِ الأرْضِ ما يَبْدُو لِلنّاسِ مِن سَطْحِها؛ لِأنَّهُ الَّذِي يَهُمُّ النّاسَ في الِاسْتِدْلالِ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ وفي الِامْتِنانِ عَلَيْهِ بِما في لُطْفِهِمْ والرِّفْقِ بِهِمْ. دُونَ تَعَرُّضٍ إلى تَكْوِيرِها إذْ لا يَبْلُغُونَ إلى إدْراكِهِ، كَما رُوعِيَ في ذِكْرِ السَّماءِ ما يَبْدُو مِن قُبَّةِ أجْوائِها دُونَ بَحْثٍ عَنْ تَرامِي أطْرافِها وتَعَدُّدِ عَوالِمِها لِمِثْلِ ذَلِكَ. ولِذَلِكَ أتْبَعَ الِاعْتِراضَ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ ”﴿فَنِعْمَ الماهِدُونَ﴾“ المُرادُ مِنهُ تَلْقِينُ النّاسِ الثَّناءَ عَلى اللَّهِ فِيما صَنَعَ لَهم فِيها مِن مِنَّةٍ لِيَشْكُرُوهُ بِذَلِكَ الثَّناءِ كَما في قَوْلِهِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الزمر: ٧٥] .