﴿أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ .

الِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيبِ مِن تَواطُئِهِمْ عَلى هَذا القَوْلِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، أيْ: كَأنَّهم أوْصى بَعْضُهم بَعْضًا بِأنْ يَقُولُوهُ.

فالِاسْتِفْهامُ هُنا كِنايَةٌ عَنْ لازِمِهِ وهو التَّعْجِيبُ؛ لِأنَّ شَأْنَ الأمْرِ العَجِيبِ أنْ يُسْألَ عَنْهُ، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ؛ لِأنَّ تَماثُلَ هَؤُلاءِ الأُمَمِ في مَقالَةِ التَّكْذِيبِ يُثِيرُ سُؤالَ سائِلٍ عَنْ مَنشَأِ هَذا التَّشابُهِ.

وضَمِيرُ تَواصَوْا عائِدٌ إلى ما سَبَقَ مِنَ المَوْصُولِ ومِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ (قَبْلِهِمْ)، أيْ: أوْصى بَعْضُهم بَعْضًا حَتّى بَلَغَتِ الوَصِيَّةُ إلى القَوْمِ الحاضِرِينَ.

وضَمِيرُ (بِهِ) عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المَأْخُوذِ مِن فِعْلِ ”﴿إلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٥٢]“، أيْ: أتَواصَوْا بِهَذا القَوْلِ.

وفِعْلُ الوَصِيَّةِ يَتَعَدّى إلى المُوصى عَلَيْهِ بِالباءِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣] .

و(بَلْ) إضْرابٌ عَنْ مُفادِ الِاسْتِفْهامِ مِنَ التَّشْبِيهِ أوْ عَنِ التَّواصِي بِهِ، بِبَيانِ سَبَبِ التَّواطُؤِ عَلى هَذا القَوْلِ فَإنَّهُ إذا ظَهَرَ السَّبَبُ بَطَلَ العَجَبُ. أيْ: ما هو بِتَواصٍ ولَكِنَّهُ تَماثَلٌ في مَنشَأِ ذَلِكَ القَوْلِ، أيْ: سَبَبُ تَماثُلِ المَقالَةِ تَماثُلُ التَّفْكِيرِ

صفحة ٢٣

والدَّواعِي لِلْمَقالَةِ؛ إذْ جَمِيعُهم قَوْمٌ طاغُونَ، وأنَّ طُغْيانَهم وكِبْرِياءَهم يَصُدُّهم عَنِ اتِّباعِ رَسُولٍ يَحْسَبُونَ أنْفُسَهم أعْظَمَ مِنهُ، وإذْ لا يَجِدُونَ وصْمَةً يَصِمُونَهُ بِها اخْتَلَقُوا لِتَنْقِيصِهِ عِلَلًا لا تَدْخُلُ تَحْتَ الضَّغْطِ وهي ادِّعاءُ أنَّهُ مَجْنُونٌ أوْ أنَّهُ ساحِرٌ، فاسْتَوَوْا في ذَلِكَ بِعِلَّةِ اسْتِوائِهِمْ في أسْبابِهِ ومَعانِيهِ.

فَضَمِيرُ ”هم قَوْمٌ طاغُونَ“ عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ أتَواصَوْا.

وفِي إقْحامِ كَلِمَةِ (قَوْمٌ) إيذانٌ بِأنَّ الطُّغْيانَ راسِخٌ في نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ مِن مُقَوِّماتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ”لَآياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ“ في سُورَةِ البَقَرَةِ.