﴿فَإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ .

تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ”وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ“ بِاعْتِبارِ أنَّ المَقْصُودَ مِن سِياقِهِ إبْطالُ عِبادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، أيْ: فَإذا لَمْ يُفْرِدْنِي المُشْرِكُونَ بِالعِبادَةِ فَإنَّ لَهم ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أصْحابِهِمْ، وهو يُلْمِحُ إلى ما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِ ما عُوقِبَتْ بِهِ الأُمَمُ السّالِفَةُ مِن قَوْلِهِ ”قالُوا إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ“ إلى قَوْلِهِ ”إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ“ .

والمَعْنى: فَإذا ماثَلَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإنَّ لَهم نَصِيبًا عَظِيمًا مِنَ العَذابِ مِثْلَ نَصِيبِ أُولَئِكَ.

والَّذِينَ ظَلَمُوا: الَّذِينَ أشْرَكُوا مِنَ العَرَبِ، والظُّلْمُ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ.

والذَّنُوبُ بِفَتْحِ الذّالِ: الدَّلْوُ العَظِيمَةُ يَسْتَسْقِي بِها السُّقاةُ عَلى القَلِيبِ كَما ورَدَ في حَدِيثِ الرُّؤْيا «ثُمَّ أخَذَها أبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أوْ ذَنُوبَيْنِ» ولا تُسَمّى ذَنُوبًا إلّا إذا كانَتْ مَلْأى.

والكَلامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةٍ تُساوِي حَظَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ العَرَبِ بِحُظُوظِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ بِهَيْئَةِ الَّذِينَ يَسْتَقُونَ مِن قَلِيبٍ واحِدٍ إذْ يَتَساوُونَ في أنْصِبائِهِمْ مِنَ الماءِ، وهو مِن تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، وأطْلَقَ عَلى الأُمَمِ الماضِيَةِ اسْمَ وصْفِ أصْحابِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِاعْتِبارِ الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها إذْ هي هَيْئَةُ جَماعاتِ الوِرْدِ يَكُونُونَ مُتَصاحِبِينَ.

وهَذا التَّمْثِيلُ قابِلٌ لِلتَّوْزِيعِ بِأنْ يُشَبَّهَ المُشْرِكُونَ بِجَماعَةٍ ورَدَتْ عَلى الماءِ،

صفحة ٣١

وتُشَبَّهُ الأُمَمُ الماضِيَةُ بِجَماعَةٍ سَبَقَتْهم لِلْماءِ، ويُشَبَّهُ نَصِيبُ كُلِّ جَماعَةٍ بِالدَّلْوِ الَّتِي يَأْخُذُونَها مِنَ الماءِ.

قالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ يَمْدَحُ المَلِكَ الحارِثَ بْنَ أبِي شِمْرٍ ويَشْفَعُ عِنْدَهُ لِأخِيهِ شَأْسِ بْنِ عَبْدَةَ وكانَ قَدْ وقَعَ في أسْرِهِ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ يَوْمَ عَيْنِ أباغٍ: وفي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِن نَداكَ ذَنُوبُ فَلَمّا سَمِعَهُ المَلِكُ قالَ: ”نَعَمْ وأذْنِبَةٌ“ وأطْلَقَ لَهُ أخاهُ شَأْسَ بْنَ عَبْدَةَ ومَن مَعَهُ مِن أسْرى تَمِيمٍ، وهَذا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ . والمَقْصُودُ: أنْ يَسْمَعَهُ المُشْرِكُونَ فَهو تَعْرِيضٌ، وبِهَذا الِاعْتِبارِ أُكِّدَ الخَبَرُ بِإنَّ؛ لِأنَّهم كانُوا مُكَذِّبِينَ بِالوَعِيدِ، ولِذَلِكَ فُرِّعَ عَلى التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ ”﴿فَلا يَسْتَعْجِلُونِ﴾“؛ لِأنَّهم كانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِالعَذابِ اسْتِهْزاءً وإشْعارًا بِأنَّهُ وعْدٌ مَكْذُوبٌ. فَهم في الواقِعِ يَسْتَعْجِلُونَ اللَّهَ تَعالى بِوَعِيدِهِ.

وعُدِّيَ الِاسْتِعْجالُ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ وهم إنَّما اسْتَعْجَلُوهُ النَّبِيءَ ﷺ لِإظْهارِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى تَوْبِيخًا لَهم وإنْذارًا بِالوَعِيدِ. وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمُ لِلتَّخْفِيفِ.

والنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّهَكُّمِ إظْهارًا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.