﴿وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ هَذا إخْبارٌ عَنْ حالِهِمْ فِيما مَضى بَعْدَ أنْ أخْبَرَ عَنْ حالِهِمْ في المُسْتَقْبَلِ بِالشَّرْطِ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا﴾ [القمر: ٢] . ومُقابَلَةُ ذَلِكَ بِهَذا فِيهِ شِبْهُ احْتِباكٍ كَأنَّهُ قِيلَ: وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا: سِحْرٌ، وقَدْ رَأوُا الآياتِ وأعْرَضُوا وقالُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أهْواءَهم، وسَيُكَذِّبُونَ ويَتَّبِعُونَ أهْواءَهم.

وعَطْفُ ﴿واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ﴾ عَطْفُ العِلَّةِ عَلى المَعْلُولِ، لِأنَّ تَكْذِيبَهم لا دافِعَ لَهم إلَيْهِ إلّا اتِّباعُ ما تَهْواهُ أنْفُسُهم مِن بَقاءِ حالِهِمْ عَلى ما ألِفُوهُ وعَهِدُوهُ واشْتَهَرَ دَوامُهُ.

وجَمَعَ الأهْواءَ دُونَ أنْ يَقُولَ واتَّبَعُوا الهَوى كَما قالَ ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ [الأنعام: ١١٦]، حَيْثُ إنَّ الهَوى اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ بِالواحِدِ والمُتَعَدِّدِ، فَعَدَلَ عَنِ الإفْرادِ إلى

صفحة ١٧٣

الجَمْعِ لِمُزاوَجَةِ ضَمِيرِ الجَمْعِ المُضافِ إلَيْهِ، ولِلْإشارَةِ إلى أنَّ لَهم أصْنافًا مُتَعَدِّدَةً مِنَ الأهْواءِ: مِن حُبِّ الرِّئاسَةِ، ومِن حَسَدِ المُؤْمِنِينَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ، ومِن حُبِّ اتِّباعِ مِلَّةِ آبائِهِمْ، ومِن مَحَبَّةِ أصْنامِهِمْ، وإلْفٍ لِعَوائِدِهِمْ، وحِفاظٍ عَلى أنَفَتِهِمْ.

* * *

﴿وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ .

هَذا تَذْيِيلٌ لِلْكَلامِ السّابِقِ مِن قَوْلِهِ ﴿وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا﴾ [القمر: ٢] إلى قَوْلِهِ أهْواءَهم، فَهو اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وكَذَّبُوا وجُمْلَةِ ولَقَدْ جاءَهم مِنَ الأنْباءِ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، وهو جارٍ مَجْرى المَثَلِ.

وكُلُّ مِن أسْماءِ العُمُومِ. وأمْرٌ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلى جِنْسٍ عالٍ ومِثْلُهُ شَيْءٌ ومَوْجُودٌ وكائِنٌ، ويَتَخَصَّصُ بِالوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ﴾ [النساء: ٨٣]، وقَدْ يَتَخَصَّصُ بِالعَقْلِ أوِ العادَةِ كَما تَخَصَّصَ شَيْءٌ في قَوْلِهِ تَعالى عَنْ رِيحِ عادٍ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٥] أيْ مِنَ الأشْياءِ القابِلَةِ لِلتَّدْمِيرِ. وهو هُنا يَعُمُّ الأُمُورَ ذَواتِ التَّأْثِيرِ، أيْ تَتَحَقَّقُ آثارُ مَواهِيها وتَظْهَرُ خَصائِصُها ولَوِ اعْتَرَضَتْها عَوارِضُ تُعَطِّلُ حُصُولَ آثارِها حِينًا كَعَوارِضَ مانِعَةٍ مِن ظُهُورِ خَصائِصِها، أوْ مُدافَعاتٍ يُرادُ مِنها إزالَةُ نَتائِجِها، فَإنَّ المُؤَثِّراتِ لا تَلْبَثُ أنْ تَتَغَلَّبَ عَلى تِلْكَ المَوانِعِ والمُدافَعاتِ في فُرَصِ تَمَكُّنِها مِن ظُهُورِ الآثارِ والخَصائِصِ.

والكَلامُ تَمْثِيلٌ شُبِّهَتْ حالَةُ تَرَدُّدِ آثارِ الماهِيَّةِ بَيْنَ ظُهُورٍ وخَفاءٍ إلى إبّانِ التَّمَكُّنِ مِن ظُهُورِ آثارِها، بِحالَةِ سَيْرِ السّائِرِ إلى المَكانِ المَطْلُوبِ في مُخْتَلِفِ الطُّرُقِ بَيْنَ بُعْدٍ وقُرْبٍ إلى أنْ يَسْتَقِرَّ في المَكانِ المَطْلُوبِ. وهي تَمْثِيلِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ، لِأنَّ التَّرْكِيبَ الَّذِي يَدُلُّ عَلى الحالِةِ المُشَبَّهِ بِها حُذِفَ ورُمِزَ إلَيْهِ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِن رَوادِفِ مَعْناهُ وهو وصْفُ مُسْتَقِرٍّ.

ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى ﴿لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧] وقَدْ أخَذَهُ الكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ في قَوْلِهِ:

فالآنَ صِرْتُ إلى أُمَيَّ ةَ والأُمُورُ إلى مَصائِرْ

صفحة ١٧٤

فالمُرادُ بِالِاسْتِقْرارِ الَّذِي في قَوْلِهِ ”مُسْتَقِرٌّ“ الِاسْتِقْرارُ في الدُّنْيا.

وفِي هَذا تَعْرِيضٌ بِالإيماءِ إيماءً إلى أنَّ أمْرَ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ سَيَرْسَخُ ويَسْتَقِرُّ بَعْدَ تَقَلْقُلِهِ.

ومُسْتَقِرٌّ: بِكَسْرِ القافِ اسْمُ فاعِلٍ مِنَ اسْتَقَرَّ، أيْ قَرَّ، والسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ مِثْلُ السِّينِ والتّاءِ في اسْتَجابَ.

وقَرَأ الجُمْهُورُ بِرَفْعِ الرّاءِ مِن مُسْتَقِرٌّ. وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ بِخَفْضِ الرّاءِ عَلى جَعْلِ ”كُلُّ أمْرٍّ“ عَطْفًا عَلى السّاعَةِ. والتَّقْدِيرُ: واقْتَرَبَ كُلُّ أمْرٍ. وجَعْلِ ”مُسْتَقِرٌّ“ صِفَةَ أمْرٍ.

والمَعْنى: أنَّ إعْراضَهم عَنِ الآياتِ وافْتِراءَهم عَلَيْها بِأنَّها سِحْرٌ ونَحْوُهُ وتَكْذِيبُهُمُ الصّادِقَ وتَمالُؤُهم عَلى ذَلِكَ لا يُوهِنُ وقْعَها في النُّفُوسِ، ولا يَعُوقُ إنْتاجَها. فَأمْرُ النَّبِيءِ ﷺ صائِرٌ إلى مَصِيرِ أمْثالِهِ الحَقِّ مِنَ الِانْتِصارِ والتَّمامِ واقْتِناعِ النّاسِ بِهِ وتَزايُدِ أتْباعِهِ، وأنَّ اتِّباعَهم أهْواءَهم واخْتِلاقَ مَعاذِيرِهِمْ صائِرٌ إلى مَصِيرِ أمْثالِهِ الباطِلَةِ مِنَ الِانْخِذالِ والِافْتِضاحِ وانْتِقاصِ الأتْباعِ.

وقَدْ تَضَمَّنَ هَذا التَّذْيِيلُ بِإجْمالِهِ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ وتَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ واسْتِدْعاءً لِنَظَرِ المُتَرَدِّدِينَ.