﴿إنّا مُرْسِلُو النّاقَةِ فِتْنَةً لَهم فارْتَقِبْهم واصْطَبِرْ﴾ ﴿ونَبِّئْهم أنَّ الماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهم كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ ﴿فَنادَوْا صاحِبَهم فَتَعاطى فَعَقَرَ﴾ .

هَذِهِ الجُمْلَةُ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الكَذّابُ الأشِرُ﴾ [القمر: ٢٦] بِاعْتِبارِ ما تَضَمَّنَتْهُ الجُمْلَةُ المُبَيَّنَةُ (بِفَتْحِ الياءِ) مِنَ الوَعِيدِ وتَقْرِيبِ زَمانِهِ، وإنَّ فِيهِ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ الَّذِي كَذَّبُوهُ.

وضَمِيرُ (لَهم) جارٍ عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ سَيَعْلَمُونَ بِياءِ الغائِبَةِ، وإمّا عَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ (سَتَعْلَمُونَ) بِتاءِ الخِطابِ فَضَمِيرُ (لَهُمُ) التِفاتٌ.

وإرْسالُ النّاقَةِ إشارَةٌ إلى قِصَّةِ مُعْجِزَةِ صالِحٍ أنَّهُ أخْرَجَ لَهم ناقَةً مِن صَخْرَةٍ، وكانَتْ تِلْكَ المُعْجِزَةُ مُقَدِّمَةَ الأسْبابِ الَّتِي عُجِّلَ لَهُمُ العَذابُ لِأجْلِها، فَذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ في جُمْلَةِ البَيانِ تَوْطِئَةً وتَمْهِيدًا.

والإرْسالُ مُسْتَعارٌ لِجَعْلِها آيَةً لِصالِحٍ. وقَدْ عُرِفَ خَلْقُ خَوارِقِ العاداتِ لِتَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِاسْمِ الإرْسالِ في القُرْآنِ كَما قالَ تَعالى ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: ٥٩] فَشُبِّهَتِ النّاقَةُ بِشاهِدٍ أرْسَلَهُ اللَّهُ لِتَأْيِيدِ رَسُولِهِ. وهَذا مُؤْذِنٌ بِأنَّ في هَذِهِ النّاقَةِ مُعْجِزَةً، وقَدْ سَمّاها اللَّهُ آيَةً في قَوْلِهِ حِكايَةً عَنْهم وعَنْ صالِحٍ ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [الشعراء: ١٥٤] ﴿قالَ هَذِهِ ناقَةٌ﴾ [الشعراء: ١٥٥] إلَخْ.

وفِتْنَةً لَهم حالٌ مُقَدَّرٌ، أيْ تَفْتِنُهم فِتْنَةً هي مُكابَرَتُهم في دَلالَتِها عَلى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وتَقْدِيرُ مَعْنى الكَلامِ: إنّا مُرَسِلُو النّاقَةِ آيَةً لَكَ وفِتْنَةً لَهم.

صفحة ٢٠٠

وضَمِيرُ لَهم عائِدٌ إلى المُكَذِّبِينَ مِنهم بِقَرِينَةِ إسْنادِ التَّكْذِيبِ كَما تَقَدَّمَ. واسْمُ الفاعِلِ مِن قَوْلِهِ ﴿مُرْسِلُو النّاقَةِ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في الِاسْتِقْبالِ مَجازًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿فارْتَقِبْهم واصْطَبِرْ﴾، فَعَدَلَ عَلى أنْ يُقالَ: سَنُرْسِلُ، إلى صِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ الحَقِيقِيَّةِ في الحالِ لِتَقْرِيبِ زَمَنِ الِاسْتِقْبالِ مِن زَمَنِ الحالِ.

والِارْتِقابُ: الِانْتِظارُ، ارْتَقَبَ مِثْلُ: رَقَبَ، وهو أبْلَغُ دَلالَةً مِن رَقَبَ، لِزِيادَةِ المَبْنى فِيهِ.

وعُدِّيَ الِارْتِقابُ إلى ضَمِيرِهِمْ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ يَقْتَضِيهِ الكَلامُ، لِأنَّهُ لا يَرْتَقِبُ ذَواتَهم وإنَّما يَرْتَقِبُ أحْوالًا تَحْصُلُ لَهم. وهَذِهِ طَرِيقَةُ إسْنادِ أوْ تَعْلِيقِ المُشْتَقّاتِ الَّتِي مَعانِيها لا تُسْنَدُ إلى الذَّواتِ فَتَكُونُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ اخْتِصارًا في الكَلامِ اعْتِمادًا عَلى ظُهُورِ المَعْنى. وذَلِكَ مِثْلُ إضافَةِ التَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ إلى الذَّواتِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] . والمَعْنى: فارْتَقِبْ ما يَحْصُلُ لَهم مِنَ الفِتْنَةِ عِنْدَ ظُهُورِ النّاقَةِ.

والِاصْطِبارُ: الصَّبْرُ القَوِيُّ، وهو كالِارْتِقابِ أيْضًا أقْوى دَلالَةً مِنَ الصَّبْرِ، أيِ اصْبِرْ صَبْرًا لا يَعْتَرِيهِ مَلَلٌ ولا ضَجَرٌ، أيِ اصْبِرْ عَلى تَكْذِيبِهِمْ ولا تَأْيَسْ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (اصْطَبِرْ) لِيَعُمَّ كُلَّ حالٍ تَسْتَدْعِي الضَّجَرَ. والتَّقْدِيرُ: واصْطَبِرْ عَلى أذاهم وعَلى ما تَجِدُهُ في نَفْسِكَ مِنَ انْتِظارِ النَّصْرِ.

وجُمْلَةُ ﴿ونَبِّئْهم أنَّ الماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنّا مُرْسِلُو النّاقَةِ﴾ بِاعْتِبارِ أنَّ الوَعْدَ بِخَلْقِ آيَةِ النّاقَةِ يَقْتَضِي كَلامًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: فَأرْسَلْنا لَهُمُ النّاقَةَ وقُلْنا نَبِّئْهم أنَّ الماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهم عَلى طَرِيقَةِ العَطْفِ والحَذْفِ في قَوْلِهِ ﴿فَأوْحَيْنا إلى مُوسى أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣]، وإنْ كانَ حَرْفُ العَطْفِ مُخْتَلِفًا، ومِثْلُ هَذا الحَذْفِ كَثِيرٌ في إيجازِ القُرْآنِ.

والتَّعْرِيفُ في الماءِ لِلْعَهْدِ، أيْ ماءِ القَرْيَةِ الَّذِي يَسْتَقُونَ مِنهُ، فَإنَّ لِكُلٍّ مَحَلَّةٍ يَنْزِلُها قَوْمٌ ماءً لِسُقْياهم وقالَ تَعالى ﴿ولَمّا ورَدَ ماءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٢٣] .

وأخْبَرَ عَنِ الماءِ بِأنَّهُ قِسْمَةٌ. والمُرادُ مَقْسُومٌ فَهو مِنَ الإخْبارِ بِالمَصْدَرِ لِلتَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ.

صفحة ٢٠١

وضَمِيرُ (بَيْنَهم) عائِدٌ إلى المَعْلُومِ مِنَ المَقامِ بَعْدَ ذِكْرِ الماءِ إذْ مِنَ المُتَعارَفِ أنَّ الماءَ يَسْتَقِي مِنهُ أهْلُ القَرْيَةِ لِأنْفُسِهِمْ وماشِيَتِهِمْ، ولَمّا ذُكِرَتِ النّاقَةُ عُلِمَ أنَّها لا تَسْتَغْنِي عَنِ الشُّرْبِ فَغَلَبَ ضَمِيرُ العُقَلاءِ عَلى ضَمِيرِ النّاقَةِ الواحِدَةِ، وإذْ لَمْ يَكُنْ لِلنّاقَةِ مالِكٌ خاصٌّ أمَرَ اللَّهُ لَها بِنَوْبَةٍ في الماءِ. وقَدْ جاءَ في آيَةِ سُورَةِ الشُّعَراءِ ﴿قالَ هَذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ولَكم شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥]، وهَذا مَبْدَأُ الفِتْنَةِ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّ النّاقَةَ كانَتْ في يَوْمِ شِرْبِها تَشْرَبُ ماءَ البِئْرِ كُلَّهُ فَشَحُّوا بِذَلِكَ وأضْمَرُوا حَلْدَها عَنِ الماءِ فَأبْلَغَهم صالِحٌ أنَّ اللَّهَ يَنْهاهم عَنْ أنْ يَمَسُّوها بِسُوءٍ.

والمُحْتَضَرُ بِفَتْحِ الضّادِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الحُضُورِ وهو ضِدُّ الغَيْبَةِ. والمَعْنى: مُحْتَضَرٌ عِنْدَهُ فَحُذِفَ المُتَعَلِّقُ لِحُضُورِهِ. وهَذا مِن جُمْلَةِ ما أُمِرَ رَسُولُهم بِأنْ يُنْبِئَهم بِهِ، أيْ لا يَحْضُرُ القَوْمُ في يَوْمِ شِرْبِ النّاقَةِ، وهي بِإلْهامِ اللَّهِ لا تَحْضُرُ في أيّامِ شِرْبِ القَوْمِ. والشِّرْبُ بِكَسْرِ الشِّينِ: نَوْبَةُ الاِسْتِقاءِ مِنَ الماءِ. فَنادَوْا صاحِبَهُمُ الَّذِي أغْرَوْهُ بِقَتْلِها وهو قُدارُ (بِضَمِّ القافِ وتَخْفِيفِ الدّالِ) بْنُ سالِفٍ. ويُعْرَفُ عِنْدَ العَرَبِ بِأحْمَرَ، قالَ زُهَيْرٌ:

فَتُنْتِجْ لَكم غِلْمانَ أشْأمَ كُلَّهم كَأحْمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ

يُرِيدُ أحْمَرَ ثَمُودَ لِأَّنَ ثَمُودَ إخْوَةُ عادٍ ولَمْ أقِفْ عَلى سَبَبِ وصْفِهِ بِأحْمَرَ وأحْسَبُ أنَّهُ لِبَياضِ وجْهِهِ. وفي ”الحَدِيثِ بُعِثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْوَدِ“، وكانَ قُدارٌ مِن سادَتِهِمْ وأهْلِ العِزَّةِ مِنهم، وشَبَّهَهُ النَّبِيءُ ﷺ بِأبِي زَمْعَةَ يَعْنِي الأسْوَدَ بْنَ المُطَّلِبِ بْنِ أسَدٍ في قَوْلِهِ فانْتُدِبَ لَها رَجُلٌ ذُو مَنَعَةٍ في قَوْمِهِ كَأبِي زَمْعَةَ أيْ فَأجابَ نِداءَهم فَرَماها بِنَبْلٍ فَقَتَلَها.

وعَبَّرَ بِصاحِبِهِمْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهم راضُونَ بِفِعْلِهِ إذْ هم مُصاحِبُونَ لَهُ ومُمالِئُونَ.

ونِداؤُهم إيّاهُ نِداءُ الإغْراءِ بِالنّاقَةِ، وإنَّما نادَوْهُ لِأنَّهُ مُشْتَهِرٌ بِالإقْدامِ وقِلَّةِ المُبالاةِ لِعِزَّتِهِ.

وتَعاطى مُطاوِعُ عاطاهُ وهو مُشْتَقٌّ مِن: عَطا يَعْطُو، إذا تَناوَلَ. وصِيغَةُ تَفاعَلَ تَقْتَضِي تَعَدُّدَ الفاعِلِ، شُبِّهَ تَخَوُّفُ القَوْمِ مَن قَتْلِها لِما أنْذَرَهم بِهِ رَسُولُهم مِنَ

صفحة ٢٠٢

الوَعِيدِ وتَرَدُّدُهم في الإقْدامِ عَلى قَتْلِها بِالمُعاطاةِ، فَكُلُّ واحِدٍ حِينَ يُحْجِمُ عَنْ مُباشَرَةِ ذَلِكَ ويُشِيرُ بِغَيْرِهِ كَأنَّهُ يُعْطِي ما بِيَدِهِ إلى يَدِ غَيْرِهِ حَتّى أخَذَهُ قُدارٌ.

وعَطَفَ (فَعَقَرَ) بِالفاءِ لِلدَّلالَةِ عَلى سُرْعَةِ إتْيانِهِ ما دَعَوْهُ لِأجْلِهِ.

والعَقْلُ: أصْلُهُ ضَرْبُ البَعِيرِ بِالسَّيْفِ عَلى عَراقِيبِهِ لِيَسْقُطَ إلى الأرْضِ جاثِيًا فَيَتَمَكَّنَّ النّاحِرُ مِن نَحْرِهِ، قالَ أبُو طالِبٍ:

ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سَمائُها ∗∗∗ إذا عَدِمُوا زادًا فَإنَّكَ عاقِرُ

وغَلَبَ إطْلاقُهُ عَلى قَتْلِ البَعِيرِ كَما هُنا إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ عَقَرَها بَلْ قَتَلَها بِنَبْلِهِ.