صفحة ٢٤٦

﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ .

هَذا تَوْبِيخٌ عَلى عَدَمِ الاِعْتِرافِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى، جِيءَ فِيهِ بِمِثْلِ ما جِيءَ بِهِ في نَظِيرِهِ الَّذِي سَبَقَهُ لِيَكُونَ التَّوْبِيخُ بِكَلامٍ مِثْلَ سابِقِهِ، وذَلِكَ تَكْرِيرٌ مِن أُسْلُوبِ التَّوْبِيخِ ونَحْوِهُ أنْ يَكُونَ بِمِثْلِ الكَلامِ السّابِقِ، فَحَقُّ هَذا أنْ يُسَمّى بِالتَّعْدادِ لا بِالتَّكْرارِ، لِأنَّهُ لَيْسَ تَكْرارًا لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، فالفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ [الرحمن: ١٨] هُنا تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧] لِأنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي الاِعْتِرافَ لَهُ بِنِعْمَةِ الإيجادِ والإمْدادِ وتَحْصُلُ مِن تَماثُلِ الجُمَلِ المُكَرَّرَةِ فائِدَةُ التَّأْكِيدِ والتَّقْرِيرِ أيْضًا فَيَكُونُ لِلتَّكْرِيرِ غَرَضانِ كَما قَدَّمْناهُ في الكَلامِ عَلى أوَّلِ السُّورَةِ.

وفائِدَةُ التَّكْرِيرِ تَوْكِيدُ التَّقْرِيرِ بِما لِلَّهِ تَعالى مِن نِعَمٍ عَلى المُخاطَبِينَ وتَعْرِيضُ تَوْبِيخِهِمْ عَلى الإشْراكِ بِاللَّهِ أصْنامًا لا نِعْمَةَ لَها عَلى أحَدٍ، وكُلُّها دَلائِلُ عَلى تَفَرُّدِ الإلَهِيَّةِ. وعَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أنَّ اللَّهَ عَدَّدَ في هَذِهِ السُّورَةِ نَعْماءَ، وذَكَرَ خَلْقَهُ آلاءَهُ ثُمَّ أتْبَعَ كُلَّ خِلَّةٍ وصَفَها، ونِعْمَةٍ وضَعَها بِهَذِهِ، وجَعَلَها فاصِلَةً بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ لِيُنَبِّهَهم عَلى النِّعَمِ ويُقْرِرْهم بِها اهـ. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: التَّكْرِيرُ طَرْدٌ لِلْغَفْلَةِ وتَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ.

وقالَ الشَّرِيفُ المُرْتَضى في مَجالِسِهِ وآمالِهِ المُسَمّى الدُّرَرُّ والغَرَرُ: وهَذا كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ وأشْعارِهِمْ، قالَ مُهَلْهَلُ بْنُ رَبِيعَةَ يَرْثِي أخاهُ كُلَيْبًا:

عَلى أنْ لَيْسَ عَدْلًا مِن كُلَيْبٍ إذا طَرَدَ اليَتِيمَ عَنِ الجَزُورِ

وذَكَرَ المِصْراعَ الأوَّلَ ثَمانِ مَرّاتٍ في أوائِلِ أبْياتٍ مُتَتابِعَةٍ. وقالَ الحارِثُ بْنُ عَيّادٍ:

قَرِّبا مَرْبِطَ النَّعامَةِ مِنِّي ∗∗∗ لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عَنْ حِبالِ

ثُمَّ كَرَّرَ قَوْلَهُ: قَرَّبا مَرْبِطَ النَّعامَةِ مِنِّي، في أبْياتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ القَصِيدِ.

صفحة ٢٤٧

وهَكَذا القَوْلُ في نَظائِرَ قَوْلِهِ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ المَذْكُورِ هُنا إلى ما في آخِرِ السُّورَةِ.