صفحة ٢٩٨

﴿وأصْحابُ اليَمِينِ ما أصْحابُ اليَمِينِ﴾ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ ﴿وطَلْحٍ مَنضُودٍ﴾ ﴿وظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ ﴿وماءٍ مَسْكُوبٍ﴾ ﴿وفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ ﴿وفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ .

عَوْدٌ إلى نَشْرِ ما وقَعَ لَفُّهُ في قَوْلِهِ ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ [الواقعة: ٧] كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ﴾ [الواقعة: ٨] .

وعَبَّرَ عَنْهم هُنا بِ أصْحابُ اليَمِينِ وهُنالِكَ بِ (أصْحابُ المَيْمَنَةِ) لِلتَّفَنُّنِ.

فَجُمْلَةُ ﴿وأصْحابُ اليَمِينِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: ١١] عَطْفُ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ.

وجُمْلَةُ ﴿ما أصْحابُ اليَمِينِ﴾ خَبَرٌ عَنْ أصْحابُ اليَمِينِ بِإبْهامٍ يُفِيدُ التَّنْوِيَهَ بِهِمْ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ﴾ [الواقعة: ٨] . وأتْبَعَ هَذا الإبْهامَ بِما يُبَيِّنُ بَعْضَهُ بِقَوْلِهِ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ إلَخْ.

والسِّدْرُ: شَجَرٌ مِن شَجَرِ العِضاهِ ذُو ورَقٍ عَرِيضٍ مُدَوَّرٍ وهو صِنْفانِ: عُبْرِيٌّ بِضَمِّ العَيْنِ وسُكُونِ المُوَحَّدَةِ وياءِ نَسَبٍ نِسْبَةً إلى العِبْرِ بِكَسْرِ العَيْنِ وسُكُونِ المُوَحَّدَةِ عَلى غَيْرِ قِياسٍ وهو عِبْرُ النَّهْيِ، أيْ ضَفَّتِهِ، لَهُ شَوْكٌ ضَعِيفٌ في غُصُونِهِ لا يَضِيرُ.

والصِّنْفُ الثّانِي الضّالُّ بِضادٍ ساقِطَةٍ ولامٍ مُخَفَّفَةٍ وهو ذُو شَوْكٍ. وأجْوَدُ السِّدْرِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلى الماءِ وهو يُشْبِهُ شَجَرَ العُنّابِ، ووَرَقُهُ كَوَرَقِ العُنّابِ ووَرَقُهُ يُجْعَلُ غَسُولًا يُنَظَّفُ بِهِ، يُخْرِجُ مَعَ الماءِ رَغْوَةً كالصّابُونِ.

وثَمَرُ هَذا الصِّنْفِ هو النَّبْقُ بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ المُوَحَّدَةِ وقافٍ يُشْبِهُ ثَمَرَ العُنّابِ إلّا أنَّهُ أصْفَرُ مُزٌّ - بِالزّايِ - يُفَوِّحُ الفَمَّ ويُفَوِّحُ الثِّيابَ ويُتَفَكَّهُ بِهِ، وأمّا الضّالُّ وهو السِّدْرُ البَرِّيُّ الَّذِي لا يَنْبُتُ عَلى الماءِ فَلا يَصْلُحُ ورَقُهُ لِلْغَسُولِ وثَمَرُهُ عَفِصٌ لا يَسُوغُ في الحَلْقِ ولا يَنْتَفِعُ بِهِ ويَخْبِطُ الرُّعاةُ ورَقَهُ لِلرّاعِيَةِ، وأجْوَدُ ثَمَرِ السِّدْرِ ثَمَرُ سِدْرِ هَجَرَ أشَدُّ نَبِقَ حَلاوَةٍ وأطْيَبُهُ رائِحَةً.

صفحة ٢٩٩

ولَمّا كانَ السِّدْرُ مِن شَجَرِ البادِيَةِ وكانَ مَحْبُوبًا لِلْعَرَبِ ولَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ أنْ يَجْعَلُوا مِنهُ في جَنّاتِهِمْ وحَوائِطِهِمْ لِأنَّهُ لا يَعِيشُ إلّا في البادِيَةِ فَلا يَنْبُتُ في جَنّاتِهِمْ خُصَّ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ شَجَرِ الجَنَّةِ إغْرابًا بِهِ وبِمَحاسِنِهِ الَّتِي كانَ مَحْرُومًا مِنها مَن لا يَسْكُنُ البَوادِي وبِوَفْرَةِ ظِلِّهِ وتَهَدُّلِ أغْصانِهِ ونَكْهَةِ ثَمَرِهِ.

ووُصِفِ بِالمِخْضُودِ، أيِ المُزالِ شَوْكَهُ فَقَدْ كَمُلَتْ مَحاسِنُهُ بِانْتِفاءِ ما فِيهِ مِن أذًى.

والطَّلْحُ شَجَرٌ مِن شَجَرِ العِضاهِ واحِدُهُ طَلْحَةٌ، وهو مِن شَجَرِ الحِجازِ يَنْبُتُ في بُطُونِ الأوْدِيَةِ، شَدِيدُ الطُّولِ، غَلِيظُ السّاقِ. مِن أصْلَبِ شَجَرِ العِضاهِ عُودًا، وأغْصانُهُ طُوالٌ عِظامٌ شَدِيدَةُ الاِرْتِفاعِ في الجَوِّ ولَها شَوْكٌ كَثِيرٌ قَلِيلَةُ الوَرَقِ شَدِيدَةُ الخُضْرَةِ كَثِيرَةُ الظِّلِّ مِنَ التِفافِ أغْصانِها، وصَمْغُها جَيِّدٌ وشَوْكُها أقَلُّ الشَّوْكِ أذًى، ولَها نُورٌ طَيِّبُ الرّائِحَةِ، وتُسَمّى هَذِهِ الشَّجَرَةُ أُمَّ غَيْلانَ، وتُسَمّى في صَفاقُسَ غِيلانَ وفي أحْوازِ تُونُسَ تُسَمّى مِسْكَ صَنادِقَ.

والمَنضُودُ: المُتَراصُّ المُتَراكِبُ بِالأغْصانِ لَيْسَتْ لَهُ سُوقٌ بارِزَةٌ، أوِ المُنَضَّدُ بِالحِمْلِ، أيِ النُّوّارِ فَتَكْثُرُ رائِحَتُهُ.

وعَلى ظاهِرِ هَذا اللَّفْظِ يَكُونُ القَوْلُ في البِشارَةِ لِأصْحابِ اليَمِينِ بِالطَّلْحِ عَلى نَحْوِ ما قَرَّرَ في قَوْلِهِ ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ ويُعْتاضُ عَنْ نِعْمَةِ نَكْهَةِ ثَمَرِ السِّدْرِ بِنِعْمَةِ عَرْفِ نَوْرِ الطَّلْحِ.

وفُسِّرَ الطَّلْحُ بِشَجَرِ المَوْزِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ كَثِيرٍ، ونُسِبَ إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ.

والاِمْتِنانُ بِهِ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ امْتِنانٌ بِثَمَرِهِ لِأنَّهُ ثَمَرٌ طَيِّبٌ لَذِيذٌ ولِشَجَرِهِ مِن حُسْنِ المَنظَرِ، ولَمْ يَكُنْ شائِعًا في بِلادِ العَرَبِ لِاحْتِياجِهِ إلى كَثْرَةِ الماءِ.

والظِّلُّ المَمْدُودُ: الَّذِي لا يَتَقَلَّصُ كَظِلِّ الدُّنْيا، وهو ظِلٌّ حاصِلٌ مِنَ التِفافِ أشْجارِ الجَنَّةِ وكَثْرَةِ أوْراقِها.

صفحة ٣٠٠

وسَكْبُ الماءِ: صَبَّهُ، وأُطْلِقَ هُنا عَلى جَرْيِهِ بِقُوَّةٍ يُشْبِهُ السَّكْبَ وهو ماءُ أنْهارِ الجَنَّةِ.

والفاكِهَةُ: تَقَدَّمَتْ آنِفًا.

ووُصِفَتْ بِ ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ وصْفًا بِانْتِفاءِ ضِدِّ المَطْلُوبِ إذِ المَطْلُوبُ أنَّها دائِمَةٌ مَبْذُولَةٌ لَهم. والنَّفْيُ هُنا أوْقَعُ مِنَ الإثْباتِ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ وصْفٍ وتَوْكِيدٍ، وهم لا يَصِفُونَ بِالنَّفْيِ إلّا مَعَ التَّكْرِيرِ بِالعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] . وفي حَدِيثِ أمِّ زَرْعٍ قالَتِ المَرْأةُ الرّابِعَةُ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهامَةَ لا حَرٌّ ولا قُرٌّ ولا مَخافَةٌ ولا سَآمَةٌ» .

ثُمَّ تارَةً يَقْصِدُ بِهِ إثْباتَ حالَةٍ وُسْطى بَيْنَ حالَيِ الوَصْفَيْنِ المَنفِيَّيْنِ كَما في قَوْلِ أمِّ زَرْعٍ: لا حَرٌّ ولا قُرٌّ، وفي آيَةِ ﴿لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] وهَذا هو الغالِبُ وتارَةً يُقْصَدُ بِهِ نَفْيُ الحالَيْنِ لِإثْباتِ ضِدَّيْهِما كَما في قَوْلِهِ ﴿لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ﴾ وقَوْلُهُ الآتِي ﴿لا بارِدٍ ولا كَرِيمٍ﴾ [الواقعة: ٤٤]، وقَوْلُ المَرْأةِ الرّابِعَةِ في حَدِيثِ أمِّ زَرْعٍ «ولا مَخافَةَ ولا سَآمَةَ» .

وجَمَعَ بَيْنَ الوَصْفَيْنِ لِأنَّ فاكِهَةَ الدُّنْيا لا تَخْلُو مِن أحَدِ ضِدِّي هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ فَإنَّ أصْحابَها يَمْنَعُونَها فَإنْ لَمْ يَمْنَعُوها فَإنَّ لَها إبّانًا تَنْقَطِعُ فِيهِ.

والفُرُشُ: جَمْعُ فِراشٍ بِكَسْرِ الفاءِ وهو ما يُفْرَشُ وتَقَدَّمَ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ. ومَرْفُوعَةٌ: وصْفٌ لِ فُرُشٍ، أيْ مَرْفُوعَةٍ عَلى الأسِرَّةِ ج أيْ لَيْسَتْ مَفْرُوشَةً في الأرْضِ.

ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالفُرُشِ الأسِرَّةُ مِن تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ ما يَحِلُّ فِيهِ.