﴿قُلْ إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ﴾ ﴿لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ .

لِما جَرى تَعْلِيلُ ما يُلاقِيهِ أصْحابُ الشِّمالِ مِنَ العَذابِ بِما كانُوا عَلَيْهِ مِن كُفْرانِ النِّعْمَةِ، وكانَ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ وعِيدَ المُشْرِكِينَ وكانَ إنْكارُهُمُ البَعْثَ أدْخَلَ في اسْتِمْرارِهِمْ عَلى الكُفْرِ أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِأنْ يُخاطِبَهم بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ البَعْثِ وشُمُولِهِ لَهم ولِآبائِهِمْ ولِجَمِيعِ النّاسِ، أيْ أنْبِئْهم بِأنَّ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، أيْ هم

صفحة ٣٠٨

وآباؤُهم يُبْعَثُونَ في اليَوْمِ المُعَيَّنِ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَدِ انْتَهى الخَبَرُ عَنْ حالِهِمْ يَوْمَ تُرَجُّ الأرْضُ وما يَتْبَعُهُ.

وافْتَتَحَ الكَّلامَ بِالأمْرِ بِالقَوْلِ لِلْاِهْتِمامِ بِهِ كَما افْتَتَحَ بِهِ نَظائِرَهُ في آياتٍ كَثِيرَةٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا عَنِ اللَّهِ تَعالى.

فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿قُلْ إنَّ الأوَّلِينَ﴾ إلَخِ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِمُناسَبَةِ حِكايَةِ قَوْلِهِمْ أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا الآيَةِ.

والمُرادُ بِ الأوَّلِينَ: مَن يَصْدُقُ عَلَيْهِ وصْفُ أوَّلِ بِالنِّسْبَةِ لِمَن بَعْدَهم، والمُرادُ بِ الآخِرِينَ: مَن يَصْدُقُ عَلَيْهِ وصْفٌ آخَرُ بِالنِّسْبَةِ لِمَن قَبْلِهِ.

ومَعْنى مَجْمُوعُونَ: أنَّهم يُبْعَثُونَ ويُحْشَرُونَ جَمِيعًا، ولَيْسَ البَعْثُ عَلى أفْواجٍ في أزْمانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَما كانَ مَوْتُ النّاسِ بَلْ يُبْعَثُ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ في يَوْمٍ واحِدٍ. وهَذا إبْطالٌ لِما اقْتَضاهُ عَطْفُ أوَآباؤُنا الأوَّلُونَ في كَلامِهِمْ مِنِ اسْتِنْتاجِ اسْتِبْعادِ البَعْثِ لِأنَّهم عَدُّوا سَبْقَ مَن سُبِقَ مَوْتُهم أدُلُّ عَلى تَعَذُّرِ بَعْثِهِمْ بَعْدَ أنْ مَضَتْ عَلَيْهِمُ القُرُونُ ولَمْ يُبْعَثْ فَرِيقٌ مِنهم إلى يَوْمِ هَذا القِيلِ، فالمَعْنى: أنَّكم.

وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِ أنَّ واللّامِ لِرَّدِ إنْكارِهِمْ مَضْمُونَهُ.

والمِيقاتُ: هُنا لِمَعْنى الوَقْتِ والأجَلِ، وأصْلُهُ اسْمُ آلَةٍ لِلْوَقْتِ وتَوَسَّعُوا فِيهِ فَأطْلَقُوهُ عَلى الوَقْتِ نَفْسِهِ بِحَيْثُ تُعْتَبَرُ المِيمُ والألْفُ غَيْرَ دالَّتَيْنِ عَلى مَعْنًى، وتَوَسَّعُوا فِيهِ تَوَسُّعًا آخَرَ فَأطْلَقُوهُ عَلى مَكانٍ لِعَمَلٍ ما. ولَعَلَّ ذَلِكَ مُتَفَرِّعٌ عَلى اعْتِبارِ ما في التَّوْقِيتِ مِنَ التَّحْدِيدِ والضَّبْطِ، ومِنهُ مَواقِيتُ الحَجِّ، وهي أماكِنٌ يُحْرِمُ الحاجُّ بِالحَجِّ عِنْدَها لا يَتَجاوَزُها حَلالًا. ومِنهُ «قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ لَمْ يُوَقِّتُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الخَمْرِ حَدًّا مُعَيَّنًا» .

ويَصِحُّ حَمْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَعْنى الكَلامِ.

وقَدْ ضَمَّنَ مَجْمُوعُونَ مَعْنى مَسُوقُونَ، فَتَعَلَّقَ بِهِ مَجْرُورُهُ بِحَرْفِ إلى لِلْاِنْتِهاءِ، وإلّا فَإنَّ ظاهِرَ مَجْمُوعُونَ أنْ يُعَدّى بِحَرْفِ (في) .

صفحة ٣٠٩

وأفادَ تَعْلِيقُ مَجْرُورِهِ بِهِ بِواسِطَةِ إلى أنَّهُ مُسَيَّرٌ إلَيْهِ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَيْهِ فَدَلَّ عَلى مَكانٍ. وهَذا مِنَ الإيجازِ.

وإضافَةُ (مِيقاتٍ) إلى يَوْمٍ مَعْلُومٍ لِأنَّ التَّجَمُّعَ واقِعٌ في ذَلِكَ اليَوْمِ. وإذا كانَ التَّجَمُّعُ الواقِعُ في اليَوْمِ واقِعًا في ذَلِكَ المِيقاتِ كانَتْ بَيْنَ المِيقاتِ واليَوْمِ مُلابَسَةٌ صَحَّحَتْ إضافَةَ المِيقاتِ إلَيْهِ لِأدْنى مُلابَسَةٍ وهَذا أدَقُّ مِن جَعْلِ الإضافَةِ بَيانِيَّةٌ. وهَذا تَعْرِيضٌ بِالوَعِيدِ بِما يَلْقَوْنَهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي جَحَدُوهُ.