﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾ رَتَّبَ عَلى ما مَضى مِنَ الكَلامِ المُشْتَمِلِ عَلى دَلائِلِ عَظَمَةِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ وعَلى أمْثالٍ لِتَقْرِيبِ البَعْثِ الَّذِي أنْكَرُوا خَبَرَهُ، وعَلى جَلائِلِ النِّعَمِ المُدْمَجَةِ في أثْناءِ ذَلِكَ أنْ أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِأنْ يُنَزِّهَهُ تَنْزِيِهًا خاصًّا مُعَقِّبًا لِما تُفِيضُهُ عَلَيْهِ تِلْكَ الأوْصافُ الجَلِيلَةُ الماضِيَةُ مِن تَذَكُّرٍ جَدِيدٍ يَكُونُ التَّنْزِيهُ عَقِبَهُ ضَرْبًا مِنَ التَّذَكُّرِ في جَلالِ ذاتِهِ والتَّشَكُّرِ لِآلائِهِ فَإنَّ لِلْعِباداتِ مَواقِعَ تَكُونُ هي فِيها أكْمَلَ مِنها في دُونِها، فَيَكُونُ لَها مِنَ الفَضْلِ ما يُجْزَلُ ثَوابُهُ فالرَّسُولُ ﷺ لا يَخْلُو عَنْ تَسْبِيحِ رَبِّهِ والتَّفَكُّرِ في عَظَمَةِ شَأْنِهِ ولَكِنْ لِاخْتِلافِ التَّسْبِيحِ والتَّفَكُّرِ مِن تَجَدُّدِ مُلاحَظَةِ النَّفْسِ ما يَجْعَلُ لِكُلِّ حالٍ مِنَ التَّفَكُّرِ مَزايا تُكْسِبُهُ خَصائِصَ وتَزِيدُهُ ثَوابًا.

صفحة ٣٢٨

فالجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿قُلْ إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ﴾ [الواقعة: ٤٩] إلى قَوْلِهِ ﴿ومَتاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ [الواقعة: ٧٣]، وهي تَذْيِيلٌ.

والتَّسْبِيحُ: التَّنْزِيهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

واسْمُ الرَّبِّ: هو ما يَدُلُّ عَلى ذاتِهِ وجُمّاعِ صِفاتِهِ وهو اسْمُ الجَلالَةِ، أيْ بِأنْ يَقُولَ: سُبْحانَ اللَّهِ، فالتَّسْبِيحُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالألْفاظِ.

ولَمّا كانَ الكَلامُ مَوْضُوعًا لِلدَّلالَةِ عَلى ما في النَّفْسِ كانَ تَسْبِيحُ الِاسْمِ مُقْتَضِيًا تَنْزِيهَ مُسَمّاهُ وكانَ أيْضًا مُقْتَضِيًا أنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ بِاللَّفْظِ مَعَ الِاعْتِقادِ لا مُجَرَّدَ الِاعْتِقادِ لِأنَّ التَّسْبِيحَ لَمّا عُلِّقَ بِلَفْظِ اسْمٍ تَعَيَّنَ أنَّهُ تَسْبِيحٌ لَفْظِيٌّ، أيْ قُلْ كَلامًا فِيهِ مَعْنى التَّنْزِيهِ، وعَلِّقْهُ بِاسْمِ رَبِّكَ، فَكُلُّ كَلامٍ يَدُلُّ عَلى تَنْزِيهِ اللَّهِ مَشْمُولٌ لِهَذا الأمْرِ، ولَكِنْ مُحاكاةُ لَفْظِ القُرْآنِ أوْلى وأجْمَعُ بِأنْ يَقُولَ: سُبْحانَ اللَّهِ. ويُؤَيِّدُ هَذا ما قالَتْهُ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: إنَّهُ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ﴾ [النصر: ٣] «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ في سُجُودِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأوَّلُ القُرْآنَ» أيْ: يَتَأوَّلُهُ عَلى إرادَةِ ألْفاظِهِ.

والباءُ الدّاخِلَةُ عَلى ”اسْمِ“ زائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ، أيِ: اتِّصالُ الفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ وذَلِكَ لِوُقُوعِ الأمْرِ بِالتَّسْبِيحِ عَقِبَ ذِكْرِ عِدَّةِ أُمُورٍ تَقْتَضِيهِ حَسْبَما دَلَّتْ عَلَيْهِ فاءُ التَّرْتِيبِ فَكانَ حَقِيقًا بِالتَّقْوِيَةِ والحَثِّ عَلَيْهِ، وهَذا بِخِلافِ قَوْلِهِ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ [الأعلى: ١] لِوُقُوعِهِ في صَدْرِ جُمْلَتِهِ كَقَوْلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الأحزاب: ٤١] .

وهَذا الأمْرُ شامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ أنَّ القُرْآنَ مَتْلُوٌّ لَهم وأنَّ ما تَفَرَّعَ الأمْرُ عَلَيْهِ لا يَخْتَصُّ عِلْمُهُ بِالنَّبِيءِ ﷺ فَلَمّا أُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ لِأجْلِهِ فَكَذَلِكَ مَن عَلِمَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ.

والمَعْنى: إذا عَلِمْتُمْ ما أنْزَلْنا مِنَ الدَّلائِلِ وتَذَكَّرْتُمْ ما في ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ فَنَزِّهُوا اللَّهَ وعَظِّمُوهُ بِقُصارى ما تَسْتَطِيعُونَ.

صفحة ٣٢٩

و”العَظِيمِ“ صالِحٌ لِأنْ يُجْعَلَ وصْفًا لِـ ”رَبِّكَ“، وهو عَظِيمٌ بِمَعْنى ثُبُوتِ جَمِيعِ الكَمالِ لَهُ وهَذا مَجازٌ شائِعٌ مُلْحَقٌ بِالحَقِيقَةِ؛ وصالِحٌ لِأنْ يَكُونَ وصَفًا لِـ ”اسْمِ“ والِاسْمُ عَظِيمٌ عَظَمَةً مَجازِيَّةً لِيُمْنِهِ ولِعَظَمَةِ المُسَمّى بِهِ.