﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وهْوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ بِذِكْرِ صِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ الَّتِي مُتَعَلِّقُها أحْوالُ الكائِناتِ في السَّماواتِ والأرْضِ وخاصَّةً أهْلُ الإدْراكِ مِنهم.

ومَضْمُونُ هَذِهِ الجُمْلَةِ يُؤْذِنُ بِتَعْلِيلِ تَسْبِيحِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ مَن لَهُ مُلْكُ العَوالِمِ العُلْيا والعالَمِ الدُّنْيَوِيِّ حَقِيقٌ بِأنْ يَعْرِفَ النّاسُ صِفاتِ كَمالِهِ.

وأفادَ تَعْرِيفُ المُسْنَدِ قَصْرَ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ وهو قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِداءِ بِمُلْكِ غَيْرِهِ في الأرْضِ إذْ هو مُلْكٌ ناقِصٌ فَإنَّ المُلُوكَ مُفْتَرِقُونَ إلى مَن يَدْفَعُ عَنْهُمُ العَوادِي بِالأحْلافِ والجُنْدِ، وإلى مَن يُدَبِّرُ لَهم نِظامَ المَمْلَكَةِ مِن وُزَراءَ وقُوّادٍ، وإلى أخْذِ الجِبايَةِ والجِزْيَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، أوْ هو قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ، إذا اعْتُبِرَتْ إضافَةُ ”مُلْكُ“ إلى مَجْمُوعِ ”السَّماواتِ والأرْضِ“ فَإنَّهُ لا مُلْكَ لِمالِكٍ عَلى الأرْضِ كُلِّها بَلْهَ السَّماواتُ مَعَها.

وهَذا مَعْنى صِفَتِهِ تَعالى ”المَلِكُ، وتَقَدَّمَ في آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

وجُمْلَةُ: ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن مَضْمُونِ ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾

صفحة ٣٥٩

فَإنَّ الإحْياءَ والإماتَةَ ما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعْنى مُلْكِ السَّماواتِ والأرْضِ لِأنَّها مِن أحْوالِ ما عَلَيْهِما، وتَخْصِيصُ هَذَيْنِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمامِ بِهِما لِدَلالَتِهِما عَلى دَقِيقِ الحِكْمَةِ في التَّصَرُّفِ في السَّماءِ والأرْضِ ولِظُهُورِ أنَّ هَذَيْنِ الفِعْلَيْنِ لا يَسْتَطِيعُ المَخْلُوقُ ادِّعاءَ أنَّ لَهُ عَمَلًا فِيهِما، ولِلتَّذْكِيرِ بِدَلِيلِ مَكانِ البَعْثِ الَّذِي جَحَدَهُ المُشْرِكُونَ، ولِلتَّعْرِيضِ بِإبْطالِ زَعْمِهِمْ إلَهِيَّةَ أصْنامِهِمْ كَما قالَ تَعالى ﴿ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٣]، ومِن هَذَيْنِ الفِعْلَيْنِ جاءَ وصْفُهُ تَعالى بِصِفَةِ“ المُحْيِي والمُمِيتِ " .

وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الإحْياءِ والإماتَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تُفِيدُ مَفادَ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ لِتَعْمِيمِ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ مِن بَيانِ جُمْلَةِ ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، وإنَّما عُطِفَتْ بِالواوِ وكانَ حَقُّ التَّذْيِيلِ أنْ يَكُونَ مَفْصُولًا لِقَصْدِ إيثارِ الإخْبارِ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِعُمُومِ القُدْرَةِ عَلى كُلِّ مَوْجُودٍ، وذَلِكَ لا يُفِيدُ قَصْدَ التَّذْيِيلِ، لِأنَّ التَّذْيِيلَ يَحْصُلُ بِالمَعْنى.