Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿الَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ مِنكم مِن نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتُهم إنْ أُمَّهاتُهم إلّا اللّاءِ ولَدْنَهم وإنَّهم لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ .
صفحة ١٠
تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ ﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنكم مِن نِسائِهِمْ﴾ وما يُتِمُّ أحْكامَها مَنزِلَةَ البَيانِ لِجُمْلَةِ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها﴾ [المجادلة: ١] الآيَةَ لِأنَّ فِيها مَخْرَجًا مِمّا لَحِقَ بِالمُجادِلَةِ مِن ضُرٍّ بِظِهارِ زَوْجِها، وإبْطالًا لَهُ، ولَها أيْضًا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ لِجُمْلَةِ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ﴾ [المجادلة: ١] فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ﴾ [المجادلة: ١] يُثِيرُ سُؤالًا في النَّفْسِ أنْ تَقُولَ: فَماذا نَشَأ عَنِ اسْتِجابَةِ اللَّهِ لِشَكْوى المُجادِلَةِ ؟ فَيُجابُ بِما فِيهِ المَخْرَجُ لَها مِنهُ.وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ (يَظَّهَّرُونَ) بِفَتْحِ الياءِ وتَشْدِيدِ الظّاءِ والهاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ بِدُونِ ألِفٍ بَعْدَ الظّاءِ عَلى أنَّ أصْلَهُ: يَتَظَهَّرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الظّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِما، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ، وخَلَفٌ يَظّاهَرُونَ بِفَتْحِ الياءِ وتَشْدِيدِ الظّاءِ والألِفِ بَعْدَها عَلى أنَّ أصْلَهُ: يَتَظاهَرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ كَما تَقَدَّمَ، وقَرَأ عاصِمٌ يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الياءِ وتَخْفِيفِ الظّاءِ وألِفٍ وكَسْرِ الهاءِ عَلى أنَّهُ مُضارِعُ ظاهَرَ.
ولَمْ يَأْتِ مَصْدَرُهُ إلّا عَلى وزْنِ الفِعالِ ووَزْنِ المُفاعَلَةِ. يُقالُ: صَدَرَ مِنهُ ظِهارٌ ومُظاهَرَةٌ، ولَمْ يَقُولُوا في مَصْدَرِهِ بِوَزْنِ التَّظَهُّرِ، فَقِراءَةُ نافِعٍ قَدِ اسْتُغْنِيَ فِيها عَنْ مَصْدَرِهِ بِمَصْدَرِ مُرادِفِهِ.
ومَعْناهُ أنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِزَوْجِهِ: أنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وكانَ هَذا قَوْلًا يَقُولُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ يُرِيدُونَ بِهِ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ نِكاحِها وبَتِّ عِصْمَتِهِ. وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ ضِدِّ البَطْنِ لِأنَّ الَّذِي يَقُولُ لْامْرَأتِهِ أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يُرِيدُ ذَلِكَ أنَّهُ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ. كَما أنَّ أُمَّهُ حَرامٌ عَلَيْهِ، فَإسْنادُ تَرْكِيبِ التَّشْبِيهِ إلى ضَمِيرِ المَرْأةِ عَلى تَقْدِيرِ حالَةٍ مِن حالاتِها، وهي حالَةُ الِاسْتِمْتاعِ المَعْرُوفِ، سَلَكُوا في هَذا التَّحْرِيمِ مَسْلَكَ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَقْرَبُها زَوْجُها بِالرّاحِلَةِ، وإثْباتُ الظَّهْرِ لَها تَخَيُّلٌ لِلِاسْتِعارَةِ، ثُمَّ تَشْبِيهِ ظَهْرِ زَوْجَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، أيْ: في حالَةٍ مِن أحْوالِهِ، وهي حالَةُ الِاسْتِمْتاعِ المَعْرُوفِ. وجُعِلَ المُشَبَّهُ ذاتُ الزَّوْجَةِ. والمَقْصُودُ أخَصُّ أحْوالِ الزَّوْجَةِ وهو حالُ قُرْبانِها فَآلَ إلى إضافَةِ الأحْكامِ إلى الأعْيانِ.
فالتَّقْدِيرُ: قُرْبانُكِ كَقُرْبانِ ظَهْرِ أُمِّي، أيِ: اعْتِلائِها الخاصِّ. فَفي هَذِهِ الصِّيغَةِ حَذْفٌ ومَجِيءُ حُرُوفِ لَفْظِ ظَهْرٍ في صِيغَةِ ظِهارٍ أوْ مُظاهَرَةٍ يُشِيرُ إلى صِيغَةِ التَّحْرِيمِ الَّتِي هي ”أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي“ إيماءٌ إلى تِلْكَ الصِّيغَةِ عَلى نَحْوِ
صفحة ١١
ما يُسْتَعْمَلُ في النَّحْتِ ولَيْسَ هو مِنَ النَّحْتِ لِأنَّ النَّحْتَ يَشْتَمِلُ عَلى حُرُوفٍ مِن عِدَّةِ كَلِماتٍ.قالَ المُفَسِّرُونَ وأهْلُ اللُّغَةِ كانَ الظِّهارُ طَلاقًا في الجاهِلِيَّةِ يَقْتَضِي تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ.
وأحْسَبُ أنَّهُ كانَ طَلاقًا عِنْدَ أهْلِ يَثْرِبَ وما حَوْلَها لِكَثْرَةِ مُخالَطَتِهِمُ اليَهُودَ ولا أحْسَبُ أنَّهُ كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ العَرَبِ في مَكَّةَ وتِهامَةَ ونَجْدٍ وغَيْرِها ولَمْ أقِفْ عَلى ذَلِكَ في كَلامِهِمْ. وحَسْبُكَ أنْ لَمْ يُذْكَرْ في القُرْآنِ إلّا في المَدَنِيِّ هُنا وفي سُورَةِ الأحْزابِ.
والَّذِي يَلُوحُ لِي أنَّ أهْلَ يَثْرِبَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبالَغَةِ في التَّحْرِيمِ، فَإنَّهم كانُوا قَبْلَ الإسْلامِ مُمْتَزِجِينَ بِاليَهُودِ مُتَخَلِّقِينَ بِعَوائِدِهِمْ وكانَ اليَهُودُ يَمْنَعُونَ أنْ يَأْتِيَ الرَّجُلَ امْرَأتَهُ مِن جِهَةِ خَلْفِها كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأْتُوا حَرْثَكم أنّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. فَلِذَلِكَ جاءَ في هَذِهِ الصِّيغَةِ لَفْظُ الظَّهْرِ، فَجَمَعُوا في هَذِهِ الصِّيغَةِ تَغْلِيظًا مِنَ التَّحْرِيمِ وهي أنَّها كَأُمِّهِ، بَلْ كَظَهْرِ أُمِّهِ. فَجاءَتْ صِيغَةً شَنِيعَةً فَظِيعَةً.
وأخَذُوا مِن صِيغَةِ ”أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي“ أصْرَحَ ألْفاظِها وأخَصَّها بِغَرَضِها وهو لَفْظُ ظَهْرٍ فاشْتَقُّوا مِنهُ الفِعْلَ بِزِناتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، يَقُولُ: ظاهَرَ مِنِ امْرَأتِهِ، وظَهَّرَ مِثْلَ ضاعَفَ وضَعَّفَ، ويُدْخِلُونَ عَلَيْهِما تاءَ المُطاوَعَةِ.
فَيَقُولُونَ: تَظاهَرَ مِنها وتَظَهَّرَ، ولَيْسَ هَذا مِن قَبِيلِ النَّحْتِ نَحْوَ: بَسْمَلَ، وهَلَّلَ، لِعَدَمِ وُجُودِ حَرْفٍ مِنَ الكَلِماتِ المَوْجُودَةِ في الجُمْلَةِ كُلِّها.
والخِطابُ في قَوْلِهِ مِنكم يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذا الوَصْفِ لِلتَّعْمِيمِ بَيانًا لِمَدْلُولِ الصِّلَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ يُظاهِرُونَ﴾ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ إرادَةُ مُعَيَّنٍ لِلصِّلَةِ.
و(مِن) بَيانِيَّةٌ كَشَأْنِها بَعْدَ الأسْماءِ المُبْهَمَةِ فَعَلِمَ أنَّ هَذا الحُكْمَ تَشْرِيعٌ عامٌّ لِكُلِّ مُظاهِرٍ. ولَيْسَ خُصُوصِيَّةً لِخَوْلَةَ ولا لِأمْثالِها مِنَ النِّساءِ ذَواتِ الخَصاصَةِ وكَثْرَةِ الأوْلادِ.
وأمّا (مِن) في قَوْلِهِ مِن نِسائِهِمْ فابْتِدائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ يُظاهِرُونَ لِتَضَمُّنِهِ
صفحة ١٢
مَعْنى البُعْدِ إذْ هو قَدْ كانَ طَلاقًا والطَّلاقُ يُبْعِدُ أحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَنِ الآخَرِ، فاجْتَلَبَ لَهُ حَرْفَ الِابْتِداءِ. كَما يُقالُ: خَرَجَ مِنَ البَلَدِ.وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ المُتَعارَفَ في صِيغَةِ الظِّهارِ أنْ تَشْتَمِلَ عَلى ما يَدُلُّ عَلى الزَّوْجَةِ والظَّهْرِ والأُمِّ دُونَ التِفاتٍ إلى ما يَرْبِطُ هَذِهِ الكَلِماتِ الثَّلاثَةِ مِن دُونِ الرَّبْطِ مِن أفْعالٍ وحُرُوفٍ نَحْوِ: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وأنْتِ مِنِّي مِثْلَ ظَهْرِ أُمِّي، أوْ كُونِي لِي كَظَهْرِ أُمِّي، أوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
فَأمّا إذا فُقِدَ بَعْضُ الألْفاظِ الثَّلاثَةِ أوْ جَمِيعُها. نَحْوُ: وجْهُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. أوْ كَجَنْبِ أُمِّي، أوْ كَظَهْرِ جَدَّتِي، أوِ ابْنَتِي، مِن كُلِّ كَلامٍ يُفِيدُ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ، أوْ إلْحاقَها بِإحْدى النِّساءِ مِن مَحارِمِهِ بِقَصْدِ تَحْرِيمِ قُرْبانِها، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الظِّهارِ في أشْهَرِ أقْوالِ مالِكٍ وأقْوالِ أصْحابِهِ وجُمْهُورِ الفُقَهاءِ، ولا يَنْتَقِلُ إلى صِيغَةِ الطَّلاقِ أوِ التَّحْرِيمِ لِأنَّ اللَّهَ أرادَ التَّوْسِعَةَ عَلى النّاسِ وعَدَمَ المُؤاخَذَةِ.
ولَمْ يُشِرِ القُرْآنُ إلى اسْمِ الظَّهْرِ ولا إلى اسْمِ الأُمِّ إلّا مُراعاةً لِلصِّيغَةِ المُتَعارَفَةِ بَيْنَ النّاسِ يَوْمَئِذٍ بِحَيْثُ لا يَنْتَقِلُ الحُكْمُ مِنَ الظِّهارِ إلى صِيغَةِ الطَّلاقِ إلّا إذا تَجَرَّدَ عَنْ تِلْكَ الكَلِماتِ الثَّلاثِ تَجَرُّدًا واضِحًا.
والصُّوَرُ عَدِيدَةٌ ولَيْسَتِ الإحاطَةُ بِها مُفِيدَةً، وذَلِكَ مِن مَجالِ الفَتْوى ولَيْسَ مِن مَهْيَعِ التَّفْسِيرِ.
وجُمْلَةُ ﴿ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ﴾ . خَبَرٌ عَنِ ”الَّذِينَ“، أيْ: لَيْسَ أزْواجُهم أُمَّهاتٌ لَهم بِقَوْلِ أحَدِهِمْ: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أيْ: لا تَصِيرُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ أُمّا لِقائِلِ تِلْكَ المَقالَةِ.
وهَذا تَمْهِيدٌ لِإبْطالِ أثَرِ صِيغَةِ الظِّهارِ في تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، بِما يُشِيرُ إلى أنَّ الأُمُومَةَ حَقِيقِيَّةٌ ثابِتَةٌ لا تُصْنَعُ بِالقَوْلِ إذِ القَوْلُ لا يُبَدِّلُ حَقائِقَ الأشْياءِ، كَما قالَ تَعالى في سُورَةِ الأحْزابِ ﴿ذَلِكم قَوْلُكم بِأفْواهِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤] ولِذَلِكَ أعْقَبَ هُنا بِقَوْلِهِ ﴿إنْ أُمَّهاتُهم إلّا اللّائِي ولَدْنَهُمْ﴾ أيْ: فَلَيْسَتِ الزَّوْجاتُ المُظاهَرُ مِنهُنَّ بِصائِراتٍ أُمَّهاتٍ بِذَلِكَ الظِّهارِ لْانْعِدامِ حَقِيقَةِ الأُمُومَةِ مِنهُنَّ إذْ هُنَّ لَمْ يَلِدْنَ القائِلِينَ: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ، فالقَصْرُ في الآيَةِ حَقِيقِيٌّ، أيْ: فالتَّحْرِيمُ بِالظِّهارِ أمْرٌ باطِلٌ لا يَقْتَضِيهِ سَبَبٌ يُؤَثِّرُ إيجادَهُ.
صفحة ١٣
وجُمْلَةُ ﴿إنْ أُمَّهاتُهُمْ﴾ إلَخْ واقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ ﴿ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ﴾، وهو تَعْلِيلٌ لِلْمَقْصُودِ مِن هَذا الكَلامِ. أعْنِي إبْطالَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ الظِّهارِ، إذْ كَوْنُهُنَّ غَيْرَ أُمَّهاتِهِمْ ضَرُورِيٌّ لا يَحْتاجُ إلى التَّعْلِيلِ.وزِيدَ صَنِيعُهم ذَمّا بِقَوْلِهِ ﴿وإنَّهم لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا﴾ تَوْبِيخًا لَهم عَلى صَنِيعِهِمْ، أيْ: هو مَعَ كَوْنِهِ لا يُوجِبُ تَحْرِيمَ المَرْأةِ هو قَوْلٌ مُنْكَرٌ، أيْ: قَبِيحٌ لِما فِيهِ مِن تَعْرِيضِ حُرْمَةِ الأُمِّ لِتَخَيُّلاتٍ شَنِيعَةٍ تَخْطُرُ بِمُخَيِّلَةِ السّامِعِ عِنْدَما يَسْمَعُ قَوْلَ المُظاهِرِ: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وهي حالَةٌ يَسْتَلْزِمُها ذِكْرُ الظَّهْرِ في قَوْلِهِ: كَظَهْرِ أُمِّي.
وأحْسَبُ أنَّ الفِكْرَ الَّذِي أمْلى صِيغَةَ الظِّهارِ عَلى أوَّلِ مَن نَطَقَ بِها كانَ مَلِيئًا بِالغَضَبِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلى بَذِيءِ الكَلامِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: امْصُصْ بَظْرَ أُمِّكَ في المُشاتَمَةِ، وهو أيْضًا قَوْلٌ زُورٌ لِأنَّهُ كَذِبٌ إذْ لَمْ يُحَرِّمْها اللَّهُ. وقَدْ قالَ تَعالى في سُورَةِ الأحْزابِ ﴿وما جَعَلَ أزْواجَكُمُ اللّاءِ تَظَّهَّرُونَ مِنهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤] .
وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) واللّامِ، لِلِاهْتِمامِ بِإيقاظِ النّاسِ لِشَناعَتِهِ إذْ كانُوا قَدِ اعْتادُوهُ فَنُزِّلُوا مَنزِلَةَ مَن يَتَرَدَّدُ في كَوْنِهِ مُنْكَرًا أوْ زُورًا، وفي هَذا دَلالَةٌ عَلى أنَّ الظِّهارَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا في شَرْعٍ قَدِيمٍ ولا في شَرِيعَةِ الإسْلامِ، وأنَّهُ شَيْءٌ وضَعَهُ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ كَما نَبَّهَ عَلَيْهِ عَدُّهُ مَعَ تَكاذِيبِ الجاهِلِيَّةِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ وما جَعَلَ أزْواجَكُمُ اللّاءِ تَظَّهَّرُونَ مِنهُنَّ أُمَّهاتِكم وما جَعَلَ أدْعِياءَكم أبْناءَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤] . وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأحْزابِ.
وبَعْدَ هَذا التَّوْبِيخِ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ﴾ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ مُؤاخَذَتِهِمْ بِما صَدَرَ مِنهم مِنَ الظِّهارِ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، إذْ كانَ عُذْرُهم أنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ تابَعُوا فِيهِ أسْلافَهم وجَرى عَلى ألْسِنَتِهِمْ دُونَ تَفَكُّرٍ في مَدْلُولاتِهِ. وأمّا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ فَمَذْهَبُ المالِكِيَّةِ: أنَّ حُكْمَ إيقاعِهِ الحُرْمَةُ كَما صَرَّحَ بِهِ ابْنُ راشِدٍ القَفَصِيُّ في اللُّبابِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ [المجادلة: ٤] أنَّ إيقاعَ الظِّهارِ مَعْصِيَةٌ، ولِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وإنَّهم لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا﴾ . وبِذَلِكَ أيْضًا فَسَّرَ القُرْطُبِيُّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ [المجادلة: ٤] . وقالَ ابْنُ الفَرَسِ: هو حَرامٌ لا يَحِلُّ إيقاعُهُ. ودَلَّ عَلى تَحْرِيمِهِ ثَلاثَةُ أشْياءَ: أحَدُها: تَكْذِيبُ اللَّهِ تَعالى مَن فَعَلَ ذَلِكَ.
الثّانِي: أنَّهُ سَمّاهُ مُنْكَرًا وزُورًا، والزُّورُ الكَذِبُ وهو مُحَرَّمٌ بِإجْماعٍ.
صفحة ١٤
الثّالِثُ: إخْبارُهُ تَعالى عَنْهُ بِأنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ ويَغْفِرُ ولا يُعْفى ويُغْفَرُ إلّا عَلى المُذْنِبِينَ.وأقْوالُ فُقَهاءِ الحَنَفِيَّةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ الظِّهارَ مَعْصِيَةٌ ولَمْ يَصِفْهُ أحَدٌ مِنَ المالِكِيَّةِ ولا الحَنَفِيَّةِ بِأنَّهُ كَبِيرَةٌ. ولا حُجَّةَ في وصْفِهِ في الآيَةِ بِزُورٍ، لِأنَّ الكَذِبَ لا يَكُونُ كَبِيرَةً إلّا إذا أفْضى إلى مَضَرَّةٍ.
وعَدَّ السُّبْكِيُّ في جَمْعِ الجَوامِعِ الظِّهارَ مِن جُمْلَةِ الكَبائِرِ وسَلَّمَهُ المَحَلِّيُّ. والكاتِبُونَ قالُوا بِأنَّ اللَّهَ سَمّاهُ زُورًا والزُّورُ كَبِيرَةٌ، فَكَوْنُ الظِّهارِ كَبِيرَةً قَوْلُ الشّافِعِيَّةِ، وفِيهِ نَظَرٌ فَإنَّهم لَمْ يَعُدُّوا الكَذِبَ عَلى الإطْلاقِ كَبِيرَةً. وإنَّما عَدُّوا شَهادَةَ الزُّورِ كَبِيرَةً.
وأعْقَبَ ”لَعَفُوٌّ“ بِقَوْلِهِ ”غَفُورٌ“ فَقَوْلُهُ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ في مَعْنى: إنَّ اللَّهَ عَفا عَنْها وغَفَرَ لَهم لِأنَّهُ عَفُوٌّ غَفُورٌ، يَغْفِرُ هَذا وما هو أشَدُّ.
والعَفُوٌّ: الكَثِيرُ العَفْوِ، والعَفْوُ عَدَمَ المُؤاخَذَةِ بِالفِعْلِ أيْ: عَفْوٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: الَّذِي هو مُنْكَرٌ وزُورٌ.
والغَفُورُ: الكَثِيرُ الغُفْرانِ والغُفْرانُ الصَّفْحُ عَنْ فاعِلِ فِعْلٍ مِن شَأْنِهِ أنْ يُعاقِبَهُ عَلَيْهِ، فَذِكْرُ وصْفِ ”غَفُورٌ“ بَعْدَ وصْفِ ”عَفُوٌ“ تَتْمِيمٌ لِتَمْجِيدِ اللَّهِ إذْ لا ذَنْبَ في المُظاهَرَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْبِقُ فِيها نَهْيٌ، ومَعَ ما فِيهِ مِن مُقابَلَةِ شَيْئَيْنِ وهُما ”مُنْكَرًا“ و”زُورًا“، بِشَيْئَيْنِ هُما عَفُوُّ غَفُورٌ.
وتَأْكِيدُ الخَبَرِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ لِمُشاكَلَةِ تَأْكِيدِ مُقابِلِهِ في قَوْلِهِ ﴿وإنَّهم لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا﴾ .
وقَوْلُهُ ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُظاهَرَةَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ مَنهِيٌّ عَنْها وسَنَذْكُرُ ذَلِكَ.
وقَدْ أوْمَأ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ إلى أنَّ مُرادَ اللَّهِ في هَذا الحُكْمِ التَّوْسِعَةُ عَلى النّاسِ، فَعَلِمْنا أنَّ مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ أنْ تَدُورَ أحْكامُ الظِّهارِ عَلى مِحْوَرِ التَّخْفِيفِ والتَّوْسِعَةِ، فَعَلى هَذا الِاعْتِبارِ يَجِبُ أنْ يَجْرِيَ الفُقَهاءُ فِيما يُفْتُونَ. ولِذَلِكَ لا يَنْبَغِي أنْ تُلاحَظَ فِيهِ قاعِدَةُ الأخْذِ بِالأحْوَطِ ولا قاعِدَةُ سَدِّ
صفحة ١٥
الذَّرِيعَةِ، بَلْ يَجِبُ أنْ نَسِيرَ وراءَ ما أضاءَ لَنا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإنَّهم لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ .وقَدْ قالَ مالِكٌ في المُدَوَّنَةِ: لا يُقَبِّلُ المُظاهِرُ ولا يُباشِرُ ولا يَنْظُرُ إلى صَدْرٍ ولا إلى شَعْرٍ وقالَ الباجِيُّ في المُنْتَقى: فَمِن أصْحابِنا مَن حَمَلَ ذَلِكَ عَلى التَّحْرِيمِ ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى الكَراهِيَةِ لِئَلّا يَدْعُوهُ إلى الجِماعِ. وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ، وعَبْدُ المَلِكِ.
قُلْتُ: وهَذا هو الوَجْهُ لِأنَّ القُرْآنَ ذَكَرَ المَسِيسَ وهو حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ في الجِماعِ. وقالَ مالِكٌ لَوْ تَظاهَرَ عَلى أرْبَعِ نِسْوَةٍ بِلَفْظٍ واحِدٍ في مَجْلِسٍ واحِدٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إلّا كَفّارَةٌ واحِدَةٌ عِنْدَ مالِكٍ قَوْلًا واحِدًا. وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ في أحَدِ قَوْلَيْهِما.
والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ إبْطالُ تَحْرِيمِ المَرْأةِ الَّتِي يُظاهِرُ مِنها زَوْجُها. وتَحْمِيقُ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا الظِّهارَ مُحَرِّمًا عَلى المُظاهِرِ زَوْجَهُ الَّتِي ظاهَرَ مِنها.
وجَعَلَ اللَّهُ الكَفّارَةَ فِدْيَةً لِذَلِكَ وزَجْرًا لِيَكُفَّ النّاسُ عَنْ هَذا القَوْلِ.
ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ «مَن قالَ لِصاحِبِهِ: تَعالَ أُقامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ» أيْ مَن جَرى ذَلِكَ عَلى لِسانِهِ بَعْدَ أنْ حَرَّمَ اللَّهُ المَيْسَرَ.