Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿قَدْ كانَتْ لَكم إسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرَآءُ مِنكم ومِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكم وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ﴾ .
صَدْرُ هَذِهِ الآيَةُ يُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿إنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ [الممتحنة: ٢] وجُمْلَةِ ﴿لَنْ تَنْفَعَكم أرْحامُكُمْ﴾ [الممتحنة: ٣]، لِأنَّها بِما تَضَمَّنَتْهُ مِن أنَّ المُوَجَّهِ إلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ خالَفُوا الأُسْوَةَ الحَسَنَةَ تُقَوِّي إثْباتَ الخَطَأِ المُسْتَوْجِبِ لِلتَّوْبِيخِ.
ذَلِكَ أنَّهُ بَعْدَ الفَراغِ مِن بَيانِ خَطَأِ مَن يُوالِي عَدُوَّ اللَّهِ بِما يَجُرُّ إلى أصْحابِهِ مِن مَضارٍّ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ تَحْذِيرًا لَهم مِن ذَلِكَ، انْتَقَلَ إلى تَمْثِيلِ الحالَةِ الصّالِحَةِ بِمِثالٍ مِن فِعْلِ أهْلِ الإيمانِ الصّادِقِ والِاسْتِقامَةِ القَوِيمَةِ وناهِيكَ بِها أُسْوَةٌ.
وافْتِتاحُ الكَلامِ بِكَلِمَتَيْ (قَدْ كانَتْ) لِتَأْكِيدِ الخَبَرِ، فَإنَّ قَدْ مَعَ فِعْلِ الكَوْنِ يُرادُ بِهِما التَّعْرِيضُ بِالإنْكارِ عَلى المُخاطَبِ ولَوْمِهِ في الإعْراضِ عَنِ العَمَلِ بِما
صفحة ١٤٣
تَضَمَّنَهُ الخَبَرُ كَقَوْلِ عُمَرَ لِابْنِ عَبّاسٍ يَوْمَ طَعَنَهُ غُلامُ المُغِيرَةِ: قَدْ كُنْتَ أنْتَ وأبُوكَ تُحِبّانِ أنْ يَكْثُرَ هَؤُلاءِ الأعْلاجُ بِالمَدِينَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ﴾ [ق: ٢٢] تَوْبِيخًا عَلى ما كانَ مِنهم في الدُّنْيا مِن إنْكارٍ لِلْبَعْثِ، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ وهم سالِمُونَ﴾ [القلم: ٤٣] وقَوْلُهُ ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب: ٢١] .ويَتَعَلَّقُ (لَكم) بِفِعْلِ (كانَ)، أوْ هو ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وقَعَ مَوْقِعَ الحالِ مِن (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .
وإبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَثَلٌ في اليَقِينِ بِاللَّهِ والغَضَبِ لَهُ، عَرَفَ ذَلِكَ العَرَبُ واليَهُودُ والنَّصارى مِنَ الأُمَمِ، وشاعَ بَيْنَ الأُمَمِ المُجاوِرَةِ مِنَ الكَنْعانِيِّينَ والأرامِيِّينَ، ولَعَلَّهُ بَلَغَ إلى الهِنْدِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ اسْمَ (بَرْهَما) مَعْبُودَ البَراهَمَةِ مِنَ الهُنُودِ مُحَرَّفٌ عَنِ اسْمِ إبْراهِيمَ وهو احْتِمالٌ.
وعُطِفَ (والَّذِينَ مَعَهُ) لِيَتِمَّ التَّمْثِيلُ لِحالِ المُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِهِمْ ﷺ بِحالِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ والَّذِينَ مَعَهُ، أيْ أنْ يَكُونُ المُسْلِمُونَ تابِعِينَ لِرِضى رَسُولِهِمْ ﷺ كَما كانَ الَّذِينَ مَعَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
والمُرادُ بِـ (الَّذِينَ) مَعَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ واتَّبَعُوا هَدْيَهُ وهم زَوْجُهُ سارَةُ وابْنُ أخِيهِ لُوطٌ ولَمْ يَكُنْ لِإبْراهِيمَ أبْناءٌ، فَضَمِيرُ إذْ قالُوا عائِدٌ إلى إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ فَهم ثَلاثَةٌ.
و(إذْ) ظَرْفُ زَمانٍ بِمَعْنى حِينَ، أيِ الأُسْوَةُ فِيهِ وفِيهِمْ في ذَلِكَ الزَّمَنِ.
والمُرادُ بِالزَّمَنِ: الأحْوالُ الكائِنَةُ فِيهِ، وهو ما تُبَيِّنُهُ الجُمْلَةُ المُضافُ إلَيْها الظَّرْفُ وهي جُمْلَةُ ﴿قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرَآءُ مِنكُمْ﴾ إلَخْ.
والأِسْوَةُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وضَمِّها: القُدْوَةُ الَّتِي يُقْتَدى بِها في فِعْلٍ ما. فَوُصِفَتْ في الآيَةِ بِـ (حَسَنَةٍ) وصْفًا لِلْمَدْحِ لِأنَّ كَوْنَها حَسَنَةً قَدْ عُلِمَ مِن سِياقِ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (إسْوَةٌ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وقَرَأهُ عاصِمٌ بِضَمِّها. وتَقَدَّمَتْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١] في سُورَةِ الأحْزابِ.
صفحة ١٤٤
وحَرْفُ (في) مُسْتَعارٌ لِقُوَّةِ المُلابَسَةِ إذْ جَعَلَ تَلَبُّسَ إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ بِكَوْنِهِمْ أُسْوَةً حَسَنَةً، بِمَنزِلَةِ تَلَبُّسِ الظَّرْفِ بِالمَظْرُوفِ في شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الوَصْفِ. ولِذَلِكَ كانَ المَعْنى: قَدْ كانَ لَكم إبْراهِيمُ والَّذِينَ مَعَهُ أُسْوَةً في حِينِ قَوْلِهِمْ لِقَوْمِهِمْ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ (﴿إسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إبْراهِيمَ﴾) مِن قَبِيلِ التَّجْرِيدِ مِثْلَ قَوْلِ أبِي خالِدِ العَتّابِيِّ.وفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفاءِ كافِ
.لِأنَّ الأُسْوَةَ هُنا هي قَوْلُ إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ لا أنْفُسِهِمْ.
و(بُرَءاءُ) بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ فُعَلاءَ جَمْعُ بَرِيءٍ مِثْلُ كَرِيمِ وكُرَماءَ.
وبَرِيءٌ فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ مِن بَرِئَ إذا خَلا مِنهُ سَواءً بَعْدَ مُلابَسَتِهِ أوْ بِدُونِ مُلابَسَةٍ.
والمُرادُ هُنا التَّبَرُّؤُ مِن مُخاطَلَتِهِمْ ومُلابَسَتِهِمْ. . .
وعُطِفَ عَلَيْهِ (وما تَعْبُدُونَ) أيْ مِنَ الأصْنامِ الَّتِي تَعْبُدُونَها مِن دُونِ اللَّهِ والمُرادُ بُرَآءُ مِن عِبادَتِها.
وجُمْلَةُ (كَفَرْنا بِكم) وما عُطِفَ عَلَيْها بَيانٌ لِمَعْنى جُمْلَةِ ﴿إنّا بُرَآءُ﴾ . وضَمِيرُ (بِكم) عائِدٌ إلى مَجْمُوعِ المُخاطَبِينَ مِن قَوْمِهِمْ مَعَ ما يَعْبُدُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ، ويُفَسَّرُ الكُفْرُ بِما يُناسِبُ المَعْطُوفَ، أيْ كَفَرْنا بِجَمِيعِكم فَكُفْرُهم بِالقَوْمِ غَيْرُ كُفْرِهِمْ بِما يَعْبُدُهُ قَوْمُهم.
وعُطِفَ عَلَيْهِ ﴿وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا﴾ وبَدا مَعْناهُ: ظَهَرَ ونَشَأ، أيْ أحْدَثْنا مَعَكُمُ العَداوَةَ ظاهِرَةً لا مُوارَبَةَ فِيها، أيْ لَيْسَتْ عَداوَةٌ في القَلْبِ خاصَّةً بَلْ هي عَداوَةٌ واضِحَةٌ عَلانِيَةٌ بِالقَوْلِ والقَلْبِ. وهو أقْصى ما
صفحة ١٤٥
يَسْتَطِيعُهُ أمْثالُهم مِن دَرَجاتِ تَغْيِيرِ المُنْكَرِ وهو التَّغْيِيرُ بِاللِّسانِ إذْ لَيْسُوا بِمُسْتَطِيعِينَ تَغْيِيرِ ما عَلَيْهِ قَوْمُهم بِاليَدِ لِقِلَّتِهِمْ وضَعْفِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ.والعَداوَةُ المُعامَلَةُ بِالسُّوءِ والِاعْتِداءِ.
و(البَغْضاءُ): نَفْرَةُ النَّفْسِ، والكَراهِيَةُ وقَدْ تُطْلَقُ إحْداهُما في مَوْضِعِ الأُخْرى إذا افْتَرَقَتا، فَذِكْرُهُما مَعًا هُنا مَقْصُودٌ بِهِ حُصُولُ الحالَتَيْنِ في أنْفُسِهِمْ: حالَةُ المُعامَلَةِ بِالعُدْوانِ، وحالَةُ النُّفْرَةِ والكَراهِيَةِ، أيْ نُسِيءُ مُعامَلَتَكم ونُضْمِرُ لَكُمُ الكَراهِيَةَ حَتّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ دُونَ إشْراكٍ.
والمُرادُ بِقَوْلِهِمْ هَذا لِقَوْمِهِمْ أنَّهم قالُوهُ مَقالَ الصّادِقِ في قَوْلِهِ، فالِائْتِساءِ بِهِمْ في ذَلِكَ القَوْلِ والعَمَلِ بِما يُتَرْجِمُ عَلَيْهِ القَوْلُ مِمّا في النُّفُوسِ، فالمُؤْتَسى بِهِ أنَّهم كاشَفُوا قَوْمَهم بِالمُنافَرَةِ، وصَرَّحُوا لَهم بِالبَغْضاءِ لِأجْلِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ ولِمَ يُصانِعُوهم ويَغُضُّوا عَنْ كُفْرِهِمْ لِاكْتِسابِ مَوَدَّتِهِمْ كَما فَعَلَ المُوَبَّخُ بِهَذِهِ الآيَةِ.
* * *
﴿إلّا قَوْلَ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وما أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ .الأظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ حِكايَةِ مَقالِ إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ وجُمْلَةِ (لَقَدْ كانَ لَكم فِيهِمْ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ إذْ لَيْسَ هَذا القَوْلُ مِن جِنْسِ قَوْلِهِمْ﴿إنّا بُرَآءُ مِنكُمْ﴾ إلَخْ، فَإنَّ قَوْلَ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ رِفْقٌ بِأبِيهِ وهو يُغايِرُ التَّبَرُّؤَ مِنهُ، فَكانَ الِاسْتِثْناءُ في مَعْنى الِاسْتِدْراكِ عَنْ قَوْلِهِ ﴿إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرَآءُ مِنكُمْ﴾ الشّامِلِ لِمَقالَةِ إبْراهِيمَ مَعَهم لِاخْتِلافِ جِنْسَيِ القَوْلَيْنِ.
قالَ في الكَشّافِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا إنّا أُرْسِلْنا إلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلّا آلَ لُوطٍ﴾ [الحجر: ٥٨] في سُورَةِ الشُّعَراءِ. أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ مِن (قَوْمٍ) لِأنَّ القَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِالإجْرامِ فاخْتَلَفَ لِذَلِكَ الجِنْسانِ اهـ. فَجَعَلَ اخْتِلافَ جِنْسَيِ المُسْتَثْنى والمُسْتَثْنى مِنهُ مُوجِبًا اعْتِبارَ الِاسْتِثْناءِ مُنْقَطِعًا. وفائِدَةُ الِاسْتِدْراكِ هُنا التَّعْرِيضُ بِخَطَأِ حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ، أيْ إنْ كُنْتُمْ مُعْتَذِرِينَ فَلْيَكُنْ عُذْرُكم في مُواصَلَةِ أعْداءِ اللَّهِ بِأنْ تَوَدُّوا لَهُمُ مَغْفِرَةَ كُفْرِهِمْ بِاسْتِدْعاءِ سَبَبِ المَغْفِرَةِ وهو أنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إلى
صفحة ١٤٦
الدِّينِ الحَقِّ كَما قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ ﴿لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾، ولا يَكُونُ ذَلِكَ بِمُصانَعَةٍ لا يَفْهَمُونَ مِنها أنَّهم مِنكم بِمَحَلِّ المَوَدَّةِ والعِنايَةِ فَيَزْدادُوا تَعَنُّتًا في كُفْرِهِمْ.وحِكايَةُ قَوْلِ إبْراهِيمِ لِأبِيهِ ﴿وما أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ إكْمالٌ لِجُمْلَةِ ما قالَهُ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ وإنْ كانَ المَقْصُودُ مِن الِاسْتِثْناءِ مُجَرَّدَ وعْدِهِ بِالِاسْتِغْفارِ لَهُ فَبُنِيَ عَلَيْهِ ما هو مِن بَقِيَّةِ كَلامِهِ لِما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ الِاسْتِغْفارَ لَهُ قَدْ لا يَقْبَلُهُ اللَّهُ.
والواوُ في ﴿وما أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْحالِ أوْ لِلْعَطْفِ. والمَعْنى مُتَقارِبٌ، ومَعْنى الحالِ أوْضَحُ وهو تَذْيِيلٌ.
ومَعْنى المِلْكِ في قَوْلِهِ (وما أمْلِكُ) القُدْرَةُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة: ١٧] في سُورَةِ العُقُودِ.
و(مِن شَيْءٍ) عامٌّ لِلْمَغْفِرَةِ المَسْؤُولَةِ وغَيْرِها مِمّا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ.
* * *
﴿رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وإلَيْكَ أنَبْنا وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ .الأظْهَرُ أنْ يَكُونَ هَذا مِن كَلامِ إبْراهِيمَ وقَوْمِهِ وجُمْلَةُ ﴿إلّا قَوْلَ إبْراهِيمَ﴾ إلى آخِرِها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أجْزاءِ القَوْلِ فَهو مِمّا أمَرَ المُسْلِمُونَ أنْ يَأْتَسُوا بِهِ، وبِهِ يَكُونُ الكَلامُ شَدِيدَ الِاتِّصالِ مَعَ قَوْلِهِ ﴿لَقَدْ كانَ لَكم فِيهِمْ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الممتحنة: ٦] .
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَقُولُوا هَذا الكَلامَ ويَسْتَحْضِرُوا مَعانِيَهُ لِيَجْرِيَ عَمَلَهم بِمُقْتَضاهُ فَهو عَلى تَقْدِيرِ أمْرٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ والمَقْصُودُ مِنَ القَوْلِ العَمَلُ بِالقَوْلِ فَإنَّ الكَلامَ يُجَدَّدُ المَعْنى في نَفْسِ المُتَكَلِّمِ بِهِ ويُذَكِّرُ السّامِعَ مِن غَفْلَتِهِ. وهَذا تَتْمِيمٌ لِما أوْصاهم بِهِ مِن مُقاطَعَةِ الكُفّارِ بَعْدَ التَّحْرِيضِ عَلى الِائْتِساءِ بِإبْراهِيمَ ومَن مَعَهُ.
فَعَلى المَعْنى الأوَّلِ يَكُونُ حِكايَةً لِما قالَهُ إبْراهِيمُ وقَوْمُهُ بِما يُفِيدُ حاصِلَ مَعانِيهِ فَقَدْ يَكُونُ هو مَعْنى ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْ إبْراهِيمَ مِن قَوْلِهِ
صفحة ١٤٧
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] .فَإنَّ التَّوَكُّلَ عَلى اللَّهِ في أُمُورِ الحَياةِ بِسُؤالِهِ النَّجاحَ في ما يُصْلِحُ أعْمالَ العَبْدِ في مَساعِيهِ، وأعْظَمُهُ النَّجاحَ في دِينِهِ وما فِيهِ قِوامُ عَيْشِهِ ثُمَّ ما فِيهِ دَفْعُ الضُّرِّ. وقَدْ جَمَعَها قَوْلُ إبْراهِيمَ هُناكَ ﴿فَهُوَ يَهْدِينِ والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] . وهَذا جَمَعَهُ قَوْلُهُ هُنا ﴿عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا﴾ ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١] جَمَعَهُ قَوْلُهُ ﴿وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ فَإنَّ المَصِيرَ مَصِيرانِ مَصِيرٌ بَعْدَ الحَياةِ ومَصِيرٌ بَعْدَ البَعْثِ.
وقَوْلُهُ ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ [الشعراء: ٨٢] فَإنَّ وسِيلَةَ الطَّمَعِ هو التَّوْبَةُ وقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿وإلَيْكَ أنَبْنا﴾ .
وعَلى المَعْنى الثّانِي هو تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَصْرِفُوا تَوَجُّهَهم إلى اللَّهِ بِإرْضائِهِ ولا يَلْتَفِتُوا إلى ما لا يَرْضاهُ وإنْ حَسِبُوا أنَّهم يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَإنَّ رِضى اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلى ما دُونَهُ.
والقَوْلُ في مَعْنى التَّوَكُّلِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والإنابَةُ: التَّوْبَةُ، وتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: ٧٥] في سُورَةِ هُودٍ، وعِنْدَ قَوْلِهِ ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ﴾ [الروم: ٣١] في سُورَةِ الرُّومِ.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى هَذِهِ الأفْعالِ لِإفادَةِ القَصْرِ، وهو قَصْرٌ بَعْضُهُ ادِّعائِيٌّ وبَعْضُهُ حَقِيقِيٌّ كَما تُصْرَفُ إلَيْهِ القَرِينَةُ.
وإعادَةُ النِّداءِ بِقَوْلِهِمْ (رَبَّنا) إظْهارٌ لِلتَّضَرُّعِ مَعَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنَ الدَّعَواتِ الثَّلاثِ.