﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارًا لِلَّهِ كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَن أنْصارِيَ إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ .

صفحة ١٩٨

هَذا خِطابٌ آخَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَكْمِلَةً لِما تَضَمَّنَهُ الخِطابُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ﴾ [الصف: ١٠] إلى قَوْلِهِ ﴿وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الصف: ١١] الآيَةَ الَّذِي هو المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ الخِطابِ، فَجاءَ هَذا الخِطابُ الثّانِي تَذْكِيرًا بِأُسْوَةٍ عَظِيمَةٍ مِن أحْوالِ المُخْلِصِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ السّابِقِينَ وهم أصْحابُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وضَعْفِهِمْ.

فَأمَرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ الدِّينِ وهو نَصْرٌ غَيْرُ النَّصْرِ الَّذِي بِالجِهادِ لِأنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ التَّحْرِيضُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ ﴿وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكُمْ﴾ [الصف: ١١] الآيَةَ ووَعْدُهم عَلَيْهِ بِأنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ، فَهَذا النَّصْرُ المَأْمُورُ بِهِ هُنا نَصْرُ دِينِ اللَّهِ الَّذِي آمَنُوا بِهِ بِأنْ يَبُثُّوهُ ويَثْبُتُوا عَلى الأخْذِ بِهِ دُونَ اكْتِراثٍ بِما يُلاقُونَهُ مِن أذًى مِنَ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ، قالَ تَعالى ﴿لَتُبْلَوُنَّ في أمْوالِكم وأنْفُسِكم ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكم ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرًا وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٦] . وهَذا هو الَّذِي شَبَّهَ بِنَصْرِ الحَوارِيِّينَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي جاءَ بِهِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّ عِيسى لَمْ يُجاهِدْ مَن عانَدُوهُ، ولا كانَ الحَوارِيُّونَ مِمَّنْ

صفحة ١٩٩

جاهَدُوا ولَكِنَّهُ صَبَرَ وصَبَرُوا حَتّى أظْهَرَ اللَّهُ دِينَ النَّصْرانِيَّةِ وانْتَشَرَ في الأرْضِ ثُمَّ دَبَّ إلَيْهِ التَّغْيِيرُ حَتّى جاءَ الإسْلامُ فَنَسَخَهُ مِن أصْلِهِ.

والأنْصارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ، وهو النّاصِرُ الشَّدِيدُ النَّصْرِ.

وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ (كُونُوا أنْصارًا لِلَّهِ) بِتَنْوِينِ (أنْصارًا) وقَرَنَ اسْمَ الجَلالَةِ بِاللّامِ الجارَّةِ فَيَكُونُ (أنْصارًا) مُرادًا بِهِ دَلالَةُ اسْمِ الفاعِلِ المُفِيدِ لِلْإحْداثِ، أيْ مُحْدِثِينَ النَّصْرَ، واللّامُ لِلْأجْلِ، أيْ لِأجْلِ اللَّهِ، أيْ ناصِرِينَ لَهُ كَما قالَ تَعالى ﴿فَلا ناصِرَ لَهُمْ﴾ [محمد: ١٣] .

وقَرَأهُ الباقُونَ بِإضافَةِ (أنْصارَ) إلى اسْمِ الجَلالَةِ بِدُونِ لامٍ عَلى اعْتِبارِ أنْصارٍ كاللَّقَبِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ مَن أنْصارِي.

والتَّشْبِيهُ بِدَعْوَةِ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ وجَوابُ الحَوارِيِّينَ تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ، أيْ كُونُوا عِنْدَما يَدْعُوكم مُحَمَّدٌ ﷺ إلى نَصْرِ اللَّهِ كَحالَةِ قَوْلِ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ واسْتِجابَتِهِمْ لَهُ.

صفحة ٢٠٠

والتَّشْبِيهُ لِقَصْدِ التَّنْظِيرِ والتَّأسِّي فَقَدْ صَدَقَ الحَوارِيُّونَ وعْدَهم وثَبَتُوا عَلى الدِّينِ ولَمْ تُزَعْزِعْهُمُ الفِتَنُ والتَّعْذِيبُ.

وما مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ كَقَوْلِ عِيسى وقَوْلِ الحَوارِيِّينَ. وفِيهِ حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: لِكَوْنِ قَوْلِ عِيسى وقَوْلِ الحَوارِيِّينَ. فالتَّشْبِيهُ بِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ قَوْلُ عِيسى وجَوابُ الحَوارِيِّينَ لِأنَّ جَوابَ الحَوارِيِّينَ بِمَنزِلَةِ الكَلامِ المُفَرَّعِ عَلى دَعْوَةِ عِيسى وإنَّما تُحْذَفُ الفاءُ في مِثْلِهِ مِنَ المُقاوَلاتِ والمُحاوَراتِ لِلِاخْتِصارِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وقَوْلُ عِيسى ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ اسْتِفْهامٌ لِاخْتِبارِ انْتِدابِهِمْ إلى نَصْرِ دِينِ اللَّهِ مَعَهُ نَظِيرَ قَوْلِ طَرَفَةَ:

إذا القَوْمُ قالُوا مَن فَتًى خِلْتُ إنَّنِي عُنِيتُ فَلَمْ أكْسَلْ ولَمْ أتَبَلَّدِ

وإضافَةُ أنْصارٍ إلى ياءِ المُتَكَلِّمِ وهو عِيسى بِاعْتِبارِهِمْ أنْصارَ دَعْوَتِهِ.

وإلى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أنْصارِي. ومَعْنى (إلى) الِانْتِهاءُ المَجازِيِّ، أيْ

صفحة ٢٠١

مُتَوَجِّهِينَ إلى اللَّهِ، شُبِّهَ دُعاؤُهم إلى الدِّينِ وتَعْلِيمُهُمُ النّاسَ ما يَرْضاهُ اللَّهُ لَهم بِسَعْيِ ساعِينَ إلى اللَّهِ لِيَنْصُرُوهُ كَما يَسْعى المُسْتَنْجِدُ بِهِمْ إلى مَكانِ مُسْتَنْجِدِهِمْ لِيَنْصُرُوهُ عَلى مَن غَلَبَهُ.

فَفِي حَرْفِ (إلى) اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، ولِذَلِكَ كانَ الجَوابُ المَحْكِيُّ عَنِ الحَوارِيِّينَ مُطابِقًا لِلِاسْتِفْهامِ إذْ قالُوا: نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ، أيْ نَحْنُ نَنْصُرُ اللَّهَ عَلى مَن حادَّهُ وشاقَّهُ، أيْ نَنْصُرُ دِينَهُ.

والحَوارِيُّونَ: جَمْعُ حَوارِيٍّ بِفَتْحِ الحاءِ وتَخْفِيفِ الواوِ وهي كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الحَبَشِيَّةِ (حَوارِيّا) وهو الصّاحِبُ الصَّفِيُّ، ولَيْسَتْ عَرَبِيَّةَ الأصْلِ ولا مُشْتَقَّةً مِن مادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، وقَدْ عَدَّها الضَّحّاكُ في جُمْلَةِ الألْفاظِ المُعَرَّبَةِ لَكِنَّهُ قالَ: إنَّها نَبَطِيَّةٌ. ومَعْنى الحَوارِيِّ الغَسّالُ، كَذا في الإتْقانِ.

والحَوارِيُّونَ: اسْمٌ أطْلَقَهُ القُرْآنُ عَلى أصْحابِ عِيسى الِاثْنَيْ عَشَرَ، ولا شَكَّ أنَّهُ كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نَصارى العَرَبِ أخَذُوهُ مِن نَصارى الحَبَشَةِ. ولا يُعْرَفُ هَذا الِاسْمُ

صفحة ٢٠٢

فِي الأناجِيلِ.

وقَدْ سَمّى النَّبِيءُ ﷺ الزُّبَيْرَ بْنَ العَوّامِ حَوارِيَّهُ عَلى التَّشْبِيهِ بِأحَدِ الحَوارِيِّينَ فَقالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوارِيٌّ وحَوارِيَّ الزُّبَيْرُ» . وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الحَوارِيِّينَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

واعْلَمْ أنَّ مَقالَةَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ المَحْكِيَّةَ في هَذِهِ الآيَةِ غَيْرُ مَقالَتِهِ المَحْكِيَّةِ في آيَةِ آلِ عِمْرانَ فَإنَّ تِلْكَ مُوَجَّهَةٌ إلى جَماعَةِ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ أحَسَّ مِنهُمُ الكُفْرَ لَمّا دَعاهم إلى الإيمانِ بِهِ.

أمّا مَقالَتُهُ المَحْكِيَّةُ هُنا فَهي مُوَجَّهَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ طالِبًا مِنهم نُصَرْتَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى ﴿كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ﴾ الآيَةَ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ اخْتِلافُ مُقْتَضى الكَلامَيْنِ المُتَماثِلَيْنِ. وعَلى حَسَبِ اخْتِلافِ المَقامَيْنِ يُجْرى اخْتِلافُ اعْتِبارِ الخُصُوصِيّاتِ في الكَلامَيْنِ وإنْ كانا مُتَشابِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْنا هُنالِكَ إضافَةُ ”أنْصارُ اللَّهِ“ إضافَةً لَفْظِيَّةً وبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهم ﴿نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ مُفِيدًا لِلْقَصْرِ لِانْعِدامِ تَعْرِيفِ المُسْنَدِ. فَأمّا هُنا فالأظْهَرُ أنَّ كَلِمَةَ ”أنْصارُ اللَّهِ“ اعْتُبِرَتْ لَقَبًا لِلْحَوارِيِّينَ عَرَّفُوا أنْفُسَهم بِهِ وخَلَعُوهُ عَلى أنْفُسِهِمْ فَلِذَلِكَ أرادُوا الِاسْتِدْلالَ بِهِ عَلى أنَّهم أحَقُّ النّاسِ بِتَحْقِيقِ مَعْناهُ، ولِذَلِكَ تَكُونُ إضافَةُ أنْصارٍ إلى اسْمِ الجَلالَةِ هُنا إضافَةً مَعْنَوِيَّةً مُفِيدَةً تَعْرِيفًا فَصارَتْ جُمْلَةً ﴿نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ هُنا مُشْتَمِلَةً عَلى صِيغَةِ قَصْرٍ عَلى خِلافِ نَظِيرَتِها الَّتِي في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.

فَفِي حِكايَةِ جَوابِ الحَوارِيِّينَ هُنا خُصُوصِيَّةُ صِيغَةِ القَصْرِ بِتَعْرِيفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ والمُسْنَدِ. وخُصُوصِيَّةُ التَّعْرِيفِ بِالإضافَةِ. فَكانَ إيجازًا في حِكايَةِ جَوابِهِمْ بِأنَّهم أجابُوا بِالِانْتِدابِ إلى نَصْرِ الرَّسُولِ وبِجَعْلِ أنْفُسِهِمْ مَحْقُوقِينَ بِهَذا النَّصْرِ لِأنَّهم مَحَّضُوا أنْفُسَهم لِنَصْرِ الدِّينِ وعُرِفُوا بِذَلِكَ وبِحَصْرِ نَصْرِ الدِّينِ فِيهِمْ حَصْرًا يُفِيدُ المُبالَغَةَ في تَمَحُّضِهِمْ لَهُ حَتّى كَأنَّهُ لا ناصِرَ لِلدِّينِ غَيْرُهم مَعَ قِلَّتِهِمْ وإفادَتَهُ التَّعْرِيضَ بِكُفْرِ بَقِيَّةِ قَوْمِهِمْ مِن بَنِي إسْرائِيلَ.

وفُرِّعَ عَلى قَوْلِ الحَوارِيِّينَ (نَحْنُ أنْصارُ) الإخْبارُ بِأنَّ بَنِي إسْرائِيلَ افْتَرَقُوا طائِفَتَيْنِ طائِفَةٌ آمَنَتْ بِعِيسى وما جاءَ بِهِ، وطائِفَةٌ كَفَرَتْ بِذَلِكَ وهو التَّفْرِيعُ يَقْتَضِي كَلامًا مُقَدَّرًا وهو فَنَصَرُوا اللَّهَ بِالدَّعْوَةِ والمُصابَرَةِ عَلَيْها فاسْتَجابَ بَعْضُ بَنِي

صفحة ٢٠٣

إسْرائِيلَ وكَفْرَ بَعْضُ وإنَّما اسْتَجابَ لَهم مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَقَدْ جاءَ في إنْجِيلِ لُوقا أنَّ أتْباعَ عِيسى كانُوا أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ.

والمَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ ﴿فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ﴾ التَّوْطِئَةُ لِقَوْلِهِ ﴿فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ والتَّأْيِيدُ والنَّصْرُ والتَّقْوِيَةُ، أيَّدَ اللَّهُ أهْلَ النَّصْرانِيَّةِ بِكَثِيرٍ مِمَّنِ اتَّبَعَ النَّصْرانِيَّةَ بِدَعْوَةِ الحَوارِيِّينَ وأتْباعِهِمْ مِثْلَ بُولِسَ

وإنَّما قالَ ﴿فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولَمْ يَقُلْ: فَأيَّدْناهم لِأنَّ التَّأْيِيدَ كانَ لِمَجْمُوعِ المُؤْمِنِينَ بِعِيسى لا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنهم إذْ قَدْ قُتِلَ مِن أتْباعِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ومُثِّلَ بِهِمْ وأُلْقُوا إلى السِّباعِ في المَشاهِدِ العامَّةِ تَفْتَرِسُهم، وكانَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الحَوارِيِّينِ الحَوارِيُّ الأكْبَرُ الَّذِي سَمّاهُ عِيسى بُطْرُسَ، أيِ الصَّخْرَةَ في ثَباتِهِ في اللَّهِ.

ويَزْعُمُونَ أنَّ جُثَّتَهُ في الكَنِيسَةِ العُظْمى في رُومَةَ المَعْرُوفَةُ بِكَنِيسَةِ القِدِّيسِ بُطْرُسَ والحُكْمُ عَلى المَجْمُوعِ في مِثْلِ هَذا شائِعٌ كَما تَقُولُ: نَصَرَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ أنَّ مِنهم مَن قُتِلَ. والمَقْصُودُ نَصْرُ الدِّينِ.

والمَقْصُودُ مِن هَذا الخَبَرِ وعْدُ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا أنْ يَكُونُوا أنْصارَ اللَّهِ بِأنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهم عَلى عَدُوِّهِمْ.

والعَدُوُّ يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ، قالَ تَعالى ﴿وهم لَكم عَدُوٌّ﴾ [الكهف: ٥٠] وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ [الممتحنة: ١] في سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ.

والظّاهِرُ هو: الغالِبُ، يُقالُ: ظَهَرَ عَلَيْهِ، أيْ غَلَبَهُ، وظَهَرَ بِهِ أيْ غَلَبَ بِسَبَبِهِ، أيْ بِإعانَتِهِ وأصْلُ فِعْلِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الجامِدِ. وهو الظَّهْرُ الَّذِي هو العَمُودُ الوَسَطُ مِن جَسَدِ الإنْسانِ، والدَّوابِّ لِأنَّ بِالظَّهْرِ قُوَّةَ الحَيَوانِ. وهَذا مِثْلُ فِعْلِ عَضَدَ مُشْتَقًّا مِنَ العَضُدِ. و(أيَّدَ) مُشْتَقًّا مِنَ اليَدِ ومِن تَصارِيفِهِ ظاهَرَ عَلَيْهِ واسْتَظْهَرَ وظَهِيرٌ لَهُ قالَ تَعالى ﴿والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤] . فَمَعْنى ظاهِرِينَ أنَّهم مَنصُورُونَ لِأنَّ عاقِبَةَ النَّصْرِ كانَتْ لَهم فَتَمَكَّنُوا مِنَ الحُكْمِ في اليَهُودِ الكافِرِينَ بِعِيسى ومَزَّقُوهم كُلَّ مُمَزَّقٍ.

* * *

صفحة ٢٠٤

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الجُمُعَةِ

سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ الصَّحابَةِ وفي كُتُبِ السُّنَّةِ والتَّفاسِيرِ (سُورَةُ الجُمُعَةِ) ولا يُعْرَفُ لَها اسْمٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «كُنّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيءِ فَأُنْزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الجُمُعَةِ» الحَدِيثَ. وسَيَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ [الجمعة: ٣] .

ووَجْهُ تَسْمِيَتِها وُقُوعُ لَفْظِ (الجُمُعَةُ) فِيها وهو اسْمٌ لِلْيَوْمِ السّابِعِ مِن أيّامِ الأُسْبُوعِ في الإسْلامِ.

وقالَ ثَعْلَبٌ: إنَّ قُرَيْشًا كانَتْ تَجْتَمِعُ فِيهِ عِنْدَ قُصَيٍّ بِدارِ النَّدْوَةِ. ولا يَقْتَضِي في ذَلِكَ أنَّهم سَمَّوْا ذَلِكَ اليَوْمَ الجُمُعَةَ.

ولَمْ أرَ في كَلامِ العَرَبِ قَبْلَ الإسْلامِ ما يُثْبِتُ أنَّ اسْمَ الجُمُعَةِ أطْلَقُوهُ عَلى هَذا اليَوْمِ.

وقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ (الجُمُعَةِ) عَلى الصَّلاةِ المَشْرُوعَةِ فِيهِ عَلى حَذْفِ المُضافِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ. وفي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: إذا جاءَ أحَدُكُمُ الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ»، ووَقَعَ في كَلامِ عائِشَةَ كانَ النّاسُ يَنْتابُونَ الجُمُعَةَ مِن مَنازِلِهِمْ والعَوالِيِّ إلَخْ.

وفِي كَلامِ أنَسٍ كُنّا نَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ، ومِن كَلامِ ابْنِ عُمَرَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ لا يُصَلِّي بَعْدَ الجُمُعَةِ حَتّى يَنْصَرِفَ، أيْ مِنَ المَسْجِدِ. ومِن كَلامِ

صفحة ٢٠٥

سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ما كُنّا نَقِيلُ ولا نَتَغَدّى إلّا بَعْدَ الجُمُعَةِ. فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَفْظُ الجُمُعَةِ الَّذِي في اسْمِ هَذِهِ السُّورَةِ مَعْنِيًّا بِهِ صَلاةَ الجُمُعَةِ لِأنَّ في هَذِهِ السُّورَةِ أحْكامًا لِصَلاةِ الجُمُعَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ يَوْمُ الجُمُعَةِ لِوُقُوعِ لَفْظِ يَوْمِ الجُمُعَةِ في السُّورَةِ في آيَةِ صَلاةِ الجُمُعَةِ.

وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.

ويَظْهَرُ أنَّها نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ وهي سَنَةُ خَيْبَرَ، فَظاهِرُ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أشَرْنا إلَيْهِ آنِفًا أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ لِأنَّ أبا هُرَيْرَةَ أسْلَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ.

وظاهِرُهُ أنَّها نَزَلَتْ دُفْعَةً واحِدَةً فَتَكُونُ قَضِيَّةُ وُرُودِ العِيرِ مِنَ الشّامِ هي سَبَبُ نُزُولِ السُّورَةِ وسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ.

وكانَ فَرْضُ صَلاةِ الجُمُعَةِ مُتَقَدِّمًا عَلى وقْتِ نُزُولِ السُّورَةِ فَإنَّ النَّبِيءَ ﷺ فَرَضَها في خُطْبَةٍ خَطَبَ بِها لِلنّاسِ وصَلّاها في أوَّلِ يَوْمِ جُمُعَةٍ بَعْدَ يَوْمِ الهِجْرَةِ في دارٍ لِبَنِي سالِمِ بْنِ عَوْفٍ. وثَبَتَ أنَّ أهْلَ المَدِينَةِ صَلَّوْها قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ كَما سَيَأْتِي. فَكانَ فَرْضُها ثابِتًا بِالسُّنَّةِ قَوْلًا وفِعْلًا. وما ذُكِرَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩] ورَدَ مَوْرِدَ التَّأْكِيدِ لِحُضُورِ صَلاةِ الجُمُعَةِ وتَرْكِ البَيْعِ، والتَّحْذِيرِ مِنَ الِانْصِرافِ عِنْدَ الصَّلاةِ قَبْلَ تَمامِها كَما سَيَأْتِي.

وقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ السّادِسَةُ بَعْدَ المِائَةِ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وقَبْلَ سُورَةِ التَّغابُنِ.

وظاهِرُ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ يَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ دُفْعَةً واحِدَةً غَيْرُ مُنَجِّمَةٍ.

وعُدَّتْ آيُها إحْدى عَشْرَةَ آيَةً بِاتِّفاقِ العادِّينَ مِن قُرّاءِ الأمْصارِ.

* * *

أوَّلُ أغْراضِها ما نَزَلَتْ لِأجْلِهِ وهو التَّحْذِيرُ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنْ صَلاةِ الجُمُعَةِ

صفحة ٢٠٦

والأمْرُ بِتَرْكِ ما يَشْغَلُ عَنْها في وقْتِ أدائِها. وقُدِّمَ لِذَلِكَ: التَّنْوِيهُ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى والتَّنْوِيهُ بِالرَّسُولِ ﷺ . وأنَّهُ رَسُولٌ إلى العَرَبِ ومَن سَيَلْحَقُ بِهِمْ.

وأنَّ رِسالَتَهُ لَهم فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.

وفِي هَذا تَوْطِئَةٌ لِذَمِّ اليَهُودِ لَأنَّهم حَسَدُوا المُسْلِمِينَ عَلى تَشْرِيفِهِمْ بِهَذا الدِّينِ.

ومِن جُمْلَةِ ما حَسَدُوهم عَلَيْهِ ونَقَمُوهُ أنْ جُعِلَ يَوْمُ الجُمُعَةِ اليَوْمَ الفاضِلَ في الأُسْبُوعِ بَعْدَ أنْ كانَ يَوْمَ السَّبْتِ وهو المَعْرُوفُ في تِلْكَ البِلادِ.

وإبْطالُ زَعْمِهِمْ أنَّهم أوْلِياءُ اللَّهِ.

وتَوْبِيخُ قَوْمٍ انْصَرَفُوا عَنْها لِمَجِيءِ عِيرِ تِجارَةٍ مِنَ الشّامِ.