﴿وأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ .

عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ (يَغْفِرْ لَكم) (ويُدْخِلْكم) عَطْفَ الِاسْمِيَّةِ عَلى الفِعْلِيَّةِ. وجِيءَ بِالإسْمِيَّةِ لِإفادَةِ الثُّبُوتِ والتَّحَقُّقِ. فَ (أُخْرى) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ

صفحة ١٩٦

عَلَيْهِ قَوْلُهُ (أدُلُّكم) مِن قَوْلِهِ (يَغْفِرْ لَكم) . والتَّقْدِيرُ: أُخْرى لَكم، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ الخَبَرَ قَوْلَهُ (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) .

وجِيءَ بِهِ وصْفًا مُؤَنَّثًا بِتَأْوِيلِ نِعْمَةٍ، أوْ فَضِيلَةٍ، أوْ خَصْلَةٍ مِمّا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ (يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم) إلى آخِرِهِ مِن مَعْنى النِّعْمَةِ والخَصْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها﴾ [الفتح: ٢١] في سُورَةِ الفَتْحِ.

ووَصَفَ (أُخْرى) بِجُمْلَةِ (تُحِبُّونَها) إشارَةً إلى الِامْتِنانِ عَلَيْهِمْ بِإعْطائِهِمْ ما يُحِبُّونَ في الحَياةِ الدُّنْيا قَبْلَ إعْطاءِ نَعِيمِ الآخِرَةِ. وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ [البقرة: ١٤٤] .

و(نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) بَدَلٌ مِن (أُخْرى)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ أُخْرى. والمُرادُ بِهِ النَّصْرُ العَظِيمِ، وهو نَصْرُ فَتْحِ مَكَّةَ فَإنَّهُ كانَ نَصْرًا عَلى أشَدِّ أعْدائِهِمُ الَّذِينَ فَتَنُوهم وآذَوْهم وأخْرَجُوهم مِن دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ وألَّبُوا عَلَيْهِمُ العَرَبَ والأحْزابَ. ورامُوا تَشْوِيهَ سُمْعَتِهِمْ، وقَدِ انْضَمَّ إلَيْهِ نَصْرُ الدِّينِ بِإسْلامِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كانُوا مِن قَبْلُ أيِمَّةَ الكُفْرِ ومَساعِيرَ الفِتْنَةِ، فَأصْبَحُوا مُؤْمِنِينَ إخْوانًا وصَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ بِقَوْلِهِ ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكم وبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنهم مَوَدَّةً﴾ [الممتحنة: ٧] وقَوْلِهِ ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ كُنْتُمْ أعْداءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا﴾ [آل عمران: ١٠٣] .

وذِكْرُ اسْمِ الجَلالَةِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ إظْهارًا في مَقامِ الإضْمارِ عَلى احْتِمالِ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ (هَلْ أدُلُّكم) كَلامًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جارِيًا عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ إنْ كانَ الخِطابُ أُمِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَقْدِيرِ (قُلْ) .

ووَصْفُ الفَتْحِ بِـ (قَرِيبٌ) تَعْجِيلٌ بِالمَسَرَّةِ.

وهَذِهِ الآيَةُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ الرّاجِعَةِ إلى الإخْبارِ بِالغَيْبِ.

* * *

﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ .

يَجُوزُ أنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلى مَجْمُوعِ الكَلامِ الَّذِي قَبْلَها ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ

صفحة ١٩٧

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ﴾ [الصف: ١٠] عَلى احْتِمالِ أنَّ ما قَبْلَها كَلامٌ صادِرٌ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى، عَطْفُ غَرَضٍ عَلى غَرَضٍ فَيَكُونُ الأمْرُ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ بِأنْ يُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ. ولا يَتَأتّى في هَذِهِ الجُمْلَةِ فَرْضُ عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ إذْ لَيْسَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ بَلْ جُمْلَةٍ عَلى مَجْمُوعِ جُمَلٍ عَلى نَحْوِ ما اخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥] الآيَةُ في أوائِلِ سُورَةِ البَقَرَةِ وما بَيَّنَهُ مِن كَلامِ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ في حاشِيَةِ الكَشّافِ.

وأمّا عَلى احْتِمالِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ﴾ [الصف: ١٠] إلى آخِرِهِ مَسُوقًا لِأمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأنْ يَقُولَ ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ﴾ [الصف: ١٠] بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ قُلْ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ﴾ [الصف: ١٠]، إلى آخِرِهِ، فَيَكُونُ الأمْرُ في وبَشِّرِ التِفاتًا مِن قَبِيلِ التَّجْرِيدِ. والمَعْنى: وأُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ.

وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في عَطْفِ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أنَّ لَهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ [البقرة: ٢٥]) في أوائِلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.

والَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي الآنَ أنَّ الاخْتِلافَ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ بِالخَبَرِيَّةِ والإنْشائِيَّةِ اخْتِلافٌ لَفْظِيٌّ لا يُؤَثِّرُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ اتِّصالًا ولا انْقِطاعًا لِأنَّ الِاتِّصالَ والِانْقِطاعَ أمْرانِ مَعْنَوِيّانِ وتابِعانِ لِلْأغْراضِ فالعِبْرَةُ بِالمُناسَبَةِ المَعْنَوِيَّةِ دُونَ الصِّيغَةِ اللَّفْظِيَّةِ وفي هَذا مَقْنَعٌ حَيْثُ فاتَنِي التَّعَرُّضُ لِهَذا الوَجْهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ.