﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ .

افْتِتاحُ السُّورَةِ بِالإخْبارِ عَنْ تَسْبِيحِ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ لِلَّهِ تَعالى بَراعَةُ اسْتِهْلالٍ لِأنَّ الغَرَضَ الأوَّلَ مِنَ السُّورَةِ التَّحْرِيضُ عَلى شُهُودِ الجُمُعَةِ والنَّهْيُ عَنِ الأشْغالِ الَّتِي تَشْغَلُ عَنْ شُهُودِها وزَجْرُ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ انْصَرَفُوا عَنْ صَلاةِ الجُمُعَةِ حِرْصًا عَلى الِابْتِياعِ مَن عِيرٍ ورَدَتِ المَدِينَةَ في وقْتِ حُضُورِهِمْ لِصَلاةِ الجُمُعَةِ.

ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ أهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ يُجَدِّدُونَ تَسْبِيحَ اللَّهِ ولا يَفْتُرُونَ عَنْهُ أُوثِرَ المُضارِعُ في قَوْلِهِ (يُسَبِّحُ) .

ومَعانِي هَذِهِ الآيَةِ تَقَدَّمَتْ مُفَرَّقَةً في أوائِلِ سُورَةِ الحَدِيدِ وسُورَةِ الحَشْرِ.

سِوى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ جاءَ فِيها فِعْلُ التَّسْبِيحِ مُضارِعًا وجِيءَ بِهِ في سِواها ماضِيًا لِمُناسَبَةٍ فِيها وهي: أنَّ الغَرَضَ مِنها التَّنْوِيهُ بِصَلاةِ الجُمُعَةِ والتَّنْدِيدُ عَلى نَفَرٍ قُطِعُوا عَنْ صَلاتِهِمْ وخَرَجُوا لِتِجارَةٍ أوْ لَهْوٍ فَمُناسِبٌ أنْ يُحْكى تَسْبِيحُ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ بِما فِيهِ دَلالَةٌ عَلى اسْتِمْرارِ تَسْبِيحِهِمْ وتَجَدُّدِهِ تَعْرِيضًا بِالَّذِينَ لَمْ يُتِمُّوا صَلاةَ الجُمُعَةِ.

صفحة ٢٠٧

ومَعانِي صِفاتِ اللَّهِ تَعالى المَذْكُورَةُ هُنا تَقَدَّمَتْ في خَواتِمِ سُورَةِ الحَشْرِ.

ومُناسَبَةُ الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفاتِ هُنا أنَّ العَظِيمَ لا يَنْصَرِفُ عَنْ مَجْلِسِهِ مَن كانَ عِنْدَهُ إلّا عِنْدَ انْفِضاضِ مَجْلِسِهِ أوْ إيذانِهِ بِانْصِرافِهِمْ.

والقُدُّوسُ: المُنَزَّهُ عَنِ النَّقْصِ وهو يَرْغَبُ في حَضْرَتِهِ. والعَزِيزُ: يَعْتَزُّ المُلْتَفُّونَ حَوْلَهُ. فَمُفارَقَتُهم حَضَرَتِهِ تَفْرِيطٌ في العِزَّةِ. وكَذَلِكَ الحَكِيمُ إذا فارَقَ أحَدٌ حَضْرَتَهُ فاتَهُ في كُلِّ آنٍ شَيْءٌ مِنَ الحِكْمَةِ كَما فاتَ الَّذِينَ انْفَضُّوا إلى العِيرِ ما خَطَبَ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ إذْ تَرَكُوهُ قائِمًا في الخُطْبَةِ.