﴿ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أبَدًا بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ .

اعْتِراضٌ بَيْنَ جُمْلَتَيِ القَوْلَيْنِ قُصِدَ بِهِ تَحَدِّيهِمْ لِإقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ أنَّهم لَيْسُوا أوْلِياءً لِلَّهِ.

ولَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا مَعْذِرَةً لَهم مِن عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ المَوْتَ وإنَّما المَقْصُودُ زِيادَةُ الكَشْفِ عَنْ بُطْلانِ قَوْلِهِمْ ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وإثْباتِ أنَّهم في شَكٍّ مِن ذَلِكَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِدْلالُ القُرْآنِ عَلَيْهِمْ بِتَحَقُقِهِمْ أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهم بِذُنُوبِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكم بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: ١٨] . وقَدْ مَرَّ ذَلِكَ في تَفْسِيرِ سُورَةِ العُقُودِ.

والباءُ في ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ﴾ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ (يَتَمَنَّوْنَهُ) المَنفِيِ فَما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ هو سَبَبُ انْتِفاءِ تَمَنِّيهِمُ المَوْتَ ألْقى في نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِمّا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ فَكانَ سَبَبُ صَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي المَوْتِ لِتَقَدُمِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

صفحة ٢١٨

وما مَوْصُولَةٌ وعائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ وحَذْفُهُ أغْلَبِيٌّ في أمْثالِهِ.

والأيْدِي مَجازٌ في اكْتِسابِ الأعْمالِ لِأنَّ اليَدَ يَلْزَمُها الِاكْتِسابُ غالِبًا. وماصَدَقَ (ما قَدَّمَتْهُ أيْدِيهم) سَيِّئاتُهم ومَعاصِيهم بِقَرِينَةِ المَقامِ.

وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ وما ذَكَرْتُهُ هُنا أتَمُّ مِمّا هُنالِكَ فَأجْمَعُ بَيْنَهُما.

والتَّقْدِيمُ: أصْلُهُ جَعَلُ الشَّيْءِ مُقَدَّمًا، أيْ سابِقًا غَيْرَهُ في مَكانٍ يَقْعُوهُ فِيهِ غَيْرُهُ. واسْتُعِيرَ هُنا لِما سَلَفَ مِنَ العَمَلِ تَشْبِيهًا لَهُ بِشَيْءٍ يَسْبِقُهُ المَرْءُ إلى مَكانٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ.

وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾، أيْ: عَلِيمٌ بِأحْوالِهِمْ وبِأحْوالِ أمْثالِهِمْ مِنَ الظّالِمِينَ فَشَمَلَ لَفْظُ الظّالِمِينَ اليَهُودَ فَإنَّهم مِنَ الظّالِمِينَ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى ظُلْمِهِمْ في الآيَةِ قَبْلَها. وقَدْ وصَفَ اليَهُودَ بِالظّالِمِينَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٤٠] والمَقْصُودُ أنَّ إحْجامَهم عَنْ تَمَنِّي المَوْتِ لِما في نُفُوسِهِمْ مِن خَوْفِ العِقابِ عَلى ما فَعَلُوهُ في الدُّنْيا، فَكُنِّيَ بِعِلْمِ اللَّهِ بِأحْوالِهِمْ عَنْ عَدَمِ انْفِلاتِهِمْ مِنَ الجَزاءِ عَلَيْها فَفي هَذا وعِيدٌ لَهُمْ