﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها وتَرَكُوكَ قائِمًا قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجارَةِ واللَّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ .

عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩] الآيَةَ. عُطِفَ التَّوْبِيخُ عَلى تَرْكِ المَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الأمْرِ وسُلِكَتْ في المَعْطُوفَةِ طَرِيقَةُ الِالتِفاتِ لِخِطابِ النَّبِيءِ ﷺ إيذانًا بِأنِّهم أحْرِياءُ أنْ يُصْرَفَ لِلْخِطابِ عَنْهم فَحُرِمُوا مِن عِزِّ الحُضُورِ. وأُخْبِرَ عَنْهم بِحالِ الغائِبِينَ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ.

ومُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُقالَ: وإذا رَأيْتُمْ تِجارَةً أوْ لَهْوًا فَلا تَنْفَضُّوا إلَيْها. ومِن

صفحة ٢٢٨

مُقْتَضَياتِ تَخْرِيجِ الكَلامِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ هُنا أنْ يَكُونَ هَذا التَّوْبِيخُ غَيْرَ شامِلٍ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ فَإنَّ نَفَرًا مِنهم بَقُوا مَعَ النَّبِيءِ ﷺ حِينَ خُطْبَتِهِ ولَمْ يَخْرُجُوا لِلتِّجارَةِ ولا لِلَّهْوِ.

وفِي الصَّحِيحِ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «بَيْنَما نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيءِ ﷺ وهو يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إذْ أقْبَلَتْ عِيرٌ مِنَ الشّامِ تَحْمِلُ طَعامًا فانْفَتَلَ النّاسُ إلَيْها حَتّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ إلّا اثْنا عَشَرَ رَجُلًا أنا فِيهِمْ» . وفي رِوايَةٍ وفِيهِمْ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي في الجُمُعَةِ ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها وتَرَكُوكَ قائِمًا﴾ اهـ. وقَدْ ذَكَرُوا في رِواياتٍ أُخْرى أنَّهُ بَقِيَ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ، وطَلْحَةُ، والزُّبَيْرُ، وسَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وأبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرّاحِ، وسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وبِلالٌ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَمّارُ بْنُ ياسِرٍ، وجابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَهَؤُلاءِ أرْبَعَةَ عَشَرَ. وذَكَرَ الدّارَقُطْنِيُّ في حَدِيثِ جابِرٍ: أنَّهُ قالَ «لَيْسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلّا أرْبَعُونَ رَجُلًا» .

وعَنْ مُجاهِدٍ ومُقاتِلٍ: «كانَ النَّبِيءُ ﷺ يَخْطُبُ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الكَلْبِيُّ (بِتِجارَةٍ فَتَلَقّاهُ أهْلُهُ بِالدُّفُوفِ فَخَرَجَ النّاسُ») . وفي رِوايَةٍ أنَّ أهْلَ المَدِينَةِ أصابَهم جُوعٌ وغَلاءٌ شَدِيدٌ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بِتِجارَةٍ مِن زَيْتِ الشّامِ. وفي رِوايَةٍ (وطَعامٍ وغَيْرِ ذَلِكَ فَخَرَجَ النّاسُ مِنَ المَسْجِدِ خَشْيَةَ أنْ يُسْبَقُوا إلى ذَلِكَ) . وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كانَتِ الجَوارِي إذا نُكِحْنَ يُمَرَّرْنَ بِالمَزامِيرِ والطَّبْلِ فانْفَضُّوا إلَيْها، فَلِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها وتَرَكُوكَ قائِمًا﴾، فَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنهم ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَلا شَكَّ أنَّ خُرُوجَهم كانَ تارَةً لِأجْلِ مَجِيءِ العِيرِ وتارَةً لِحُضُورِ اللَّهْوِ.

ورُوِيَ أنَّ العِيرَ نَزَلَتْ بِمَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ: أحْجارُ الزَّيْتِ فَتَوَهَّمَ الرّاوِي فَقالَ: بِتِجارَةِ الزَّيْتِ.

وضَمِيرُ (إلَيْها) عائِدٌ إلى التِّجارَةِ لِأنَّها أهَمُّ عِنْدَهم مِنَ اللَّهْوِ ولِأنَّ الحَدَثَ الَّذِي نَزَلَتِ الآيَةُ عِنْدَهُ هو مَجِيءُ عِيرِ دِحْيَةَ مِنَ الشّامِ. واكْتَفى بِهِ عَنْ ضَمِيرِ اللَّهْوِ كَما في قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ، أوْ عَمْرِو بْنِ الحارِثِ بْنِ امْرِئِ القَيْسِ:

صفحة ٢٢٩

نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

ولَعَلَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي أفادَتْهُ (أوْ) في قَوْلِهِ ﴿أوْ لَهْوًا﴾ تَقْسِيمٌ لِأحْوالِ المُنْفَضِّينَ إذْ يَكُونُ بَعْضُهم مِن ذَوِي العائِلاتِ خَرَجُوا لِيَمْتارُوا لِأهْلِهِمْ، وبَعْضُهم مِنَ الشَّبابِ لا هِمَّةَ لَهم في المِيرَةِ ولَكِنْ أحَبُّوا حُضُورَ اللَّهْوِ.

و(إذا) ظَرْفٌ لِلزَّمانِ الماضِي مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنى الشَّرْطِ لِأنَّ هَذا الِانْفِضاضَ مَضى. ولَيْسَ المُرادُ أنَّهم سَيَعُودُونَ إلَيْهِ بَعْدَ ما نَزَلَ هَذا التَّوْبِيخُ وما قَبْلَهُ مِنَ الأمْرِ والتَّحْرِيضِ. ومَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ﴾ [النساء: ٨٣] وقَوْلُهُ ﴿ولا عَلى الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عَلَيْهِ تَوَلَّوْا﴾ [التوبة: ٩٢] الآيَةَ.

والِانْفِضاضُ: مُطاوِعُ فَضَّهُ إذا فَرَّقَهُ، وغَلَبَ إطْلاقُهُ عَلى غَيْرِ مَعْنى المُطاوَعَةِ، أيْ بِمَعْنًى مُطْلَقٍ كَما تَفَرَّقَ. قالَ تَعالى ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا﴾ [المنافقون: ٧] .

وقَوْلُهُ ﴿أوْ لَهْوًا﴾ فِيهِ لِلتَّقْسِيمِ، أيْ مِنهم مَنِ انْفَضَّ لِأجْلِ التِّجارَةِ، ومِنهم مَنِ انْفَضَّ لِأجْلِ اللَّهْوِ، وتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ إلَيْها تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ (تِجارَةٍ) لِأنَّ التِّجارَةَ كانَتِ الدّاعِيَ الأقْوى لِانْفِضاضِهِمْ.

وجُمْلَةُ (﴿وتَرَكُوكَ قائِمًا﴾) تَفْظِيعٌ لِفِعْلِهِمْ إذْ فَرَّطُوا في سَماعِ وعْظِ النَّبِيءِ ﷺ، أيْ تَرَكُوكَ قائِمًا عَلى المِنبَرِ. وذَلِكَ في خُطْبَةِ الجُمُعَةِ، والظّاهِرُ أنَّها جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، أيْ تَرَكُوكَ في حالِ المَوْعِظَةِ والإرْشادِ فَأضاعُوا عِلْمًا عَظِيمًا بِانْفِضاضِهِمْ إلى التِّجارَةِ واللَّهْوِ. وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ حُضُورِ الخُطْبَةِ في صَلاةِ الجُمُعَةِ إذْ لَمْ يَقُلْ: وتَرَكُوا الصَّلاةَ.

وأمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ ﷺ أنْ يَعِظَهم بِأنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوابِ عَلى حُضُورِ الجُمُعَةِ خَيْرٌ مِن فائِدَةِ التِّجارَةِ ولَذَّةِ اللَّهْوِ. وكَذَلِكَ ما أعَدَّ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ لِلَّذِينَ يُؤْثِرُونَ طاعَةَ اللَّهِ عَلى ما يُشْغِلُ عَنْها مِن وسائِلِ الِارْتِزاقِ جَزاءً لَهم عَلى إيثارِهِمْ جَزاءً في الدُّنْيا قَبْلَ جَزاءِ الآخِرَةِ، فَرُبَّ رِزْقٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الحَرِيصُ عَلَيْهِ وإنْ كانَ كَثِيرًا، ورُبَّ رِزْقٍ قَلِيلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ صاحِبُهُ ويَعُودُ عَلَيْهِ بِصَلاحٍ، قالَ تَعالى ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] .

صفحة ٢٣٠

وقالَ حِكايَةً عَنْ خِطابِ نَوْعِ قَوْمِهِ ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ [نوح: ١٠] ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرارًا﴾ [نوح: ١١] ﴿ويُمْدِدْكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ﴾ [نوح: ١٢] ﴿ويَجْعَلْ لَكم جَنّاتٍ﴾ [نوح: ١٢] ﴿ويَجْعَلْ لَكم أنْهارًا﴾ [نوح: ١٢] .

وذُيِّلَ الكَلامُ بِقَوْلِهِ ﴿واللَّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ لِأنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ الرِّزْقَ لِمَن يَرْضى عَنْهُ سَلِيمًا مِنَ الأكْدارِ والآثامِ، ولِأنَّهُ يَرْزُقُ خَيْرَ الدُّنْيا وخَيْرَ الآخِرَةِ، لَيْسَ غَيْرُ اللَّهِ قادِرًا عَلى ذَلِكَ، والنّاسُ في هَذا المَقامِ دَرَجاتٌ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ وهو العالِمُ بِالسَّرائِرِ.

* * *

صفحة ٢٣١

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ المُنافِقُونَ

سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ في كُتُبِ السُّنَّةِ وكُتُبِ التَّفْسِيرِ (سُورَةُ المُنافِقِينَ) اعْتِبارًا بِذِكْرِ أحْوالِهِمْ وصِفاتِهِمْ فِيها.

ووَقَعَ هَذا الِاسْمُ في حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَوْلُهُ («فَلَمّا أصْبَحْنا قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُورَةَ المُنافِقِينَ» ) . وسَيَأْتِي قَرِيبًا، ورَوى الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ في صَلاةِ الجُمُعَةِ بِسُورَةِ الجُمُعَةِ فَيُحَرِّضُ بِها المُؤْمِنِينَ، وفي الثّانِيَةِ بِسُورَةِ المُنافِقِينَ فَيُقْرِعُ بِها المُنافِقِينَ» .

ووَقَعَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ وبَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ تَسْمِيَتُها (سُورَةَ المُنافِقُونَ) عَلى حِكايَةِ اللَّفْظِ الواقِعِ في أوَّلِها وكَذَلِكَ ثَبَتَ في كَثِيرٍ مِنَ المَصاحِفِ المَغْرِبِيَّةِ والمَشْرِقِيَّةِ.

وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.

واتَّفَقَ العادُّونَ عَلى عَدِّ آيِها إحْدى عَشْرَةَ آيَةً.

وقَدْ عُدَّتِ الثّانِيَةَ بَعْدَ المِائَةِ في عِدادِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الحَجِّ وقَبْلَ سُورَةِ المُجادِلَةِ.

والصَّحِيحُ أنَّها نَزَلَتْ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ ووَقَعَ في جامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّها نَزَلَتْ في غَزْوَةِ تَبُوكَ. ووَقَعَ فِيهِ أيْضًا عَنْ سُفْيانَ: أنَّ

صفحة ٢٣٢

ذَلِكَ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ وغَزْوَةُ بَنِي المُصْطَلِقِ سَنَةَ خَمْسٍ، وغَزْوَةُ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ.

ورَجَّحَ أهْلُ المَغازِي وابْنُ العَرَبِيِّ في العارِضَةِ وابْنُ كَثِيرٍ: أنَّها نَزَلَتْ في غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ وهو الأظْهَرُ. لِأنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: (لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ)، يُناسِبُ الوَقْتَ الَّذِي لَمْ يَضْعُفْ فِيهِ شَأْنُ المُنافِقِينَ وكانَ أمْرُهم كُلَّ يَوْمٍ في ضَعْفٍ وكانَتْ غَزْوَةَ تَبُوكَ في آخِرِ سِنِيِّ النُّبُوَّةِ وقَدْ ضَعُفَ أمْرُ المُنافِقِينَ.

وسَبَبُ نُزُولِها ما رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ «أنَّهُ قالَ: كُنّا في غَزاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ رَجُلًا جُهَنِيًّا حَلِيفًا لِلْأنْصارِ فَقالَ الجُهَنِيُّ: يا لِلْأنْصارِ، وقالَ المُهاجِرِيُّ: يا لِلْمُهاجِرِينَ: فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ما بالُ دَعْوى الجاهِلِيَّةِ، قالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ فَقالَ دَعُوها فَإنَّها مُنْتِنَةٌ (أيِ اتْرُكُوا دَعْوَةَ الجاهِلِيَّةِ: يَآلَ كَذا) فَسَمِعَ هَذا الخَبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقالَ: أقَدْ فَعَلُوها أما واللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلُّ. وقالَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِهِ، قالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: فَسَمِعَتُ ذَلِكَ فَأخْبَرْتُ بِهِ عَمِّي فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيءِ ﷺ فَدَعانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وأصْحابِهِ فَحَلَفُوا ما قالُوا، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ وصَدَّقَهُ فَأصابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مَثْلُهُ فَقالَ عَمِّي ما أرَدْتَ إلّا أنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ»، وفي رِوايَةٍ: «إلى أنْ كَذَّبَكَ، فَلَمّا أصْبَحْنا قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ المُنافِقِينَ وقالَ لِي: إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ» .

وفِي رِوايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ في هَذا الحَدِيثِ: أنَّ المُهاجِرِيَّ أعْرابِيٌّ وأنَّ الأنْصارِيَّ مِن أصْحابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ، وأنَّ المُهاجِرِيَّ ضَرَبَ الأنْصارِيَّ عَلى رَأْسِهِ بِخَشَبَةٍ فَشَجَّهُ، وأنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قالَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا مِن حَوْلِهِ يَعْنِي الأعْرابَ، وذَكَرَ أهْلَ السَّيَرِ أنَّ المُهاجِرِيَّ مِن غِفارٍ اسْمُهُ جَهْجاهٌ أجِيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ. وأنَّ الأنْصارِيَّ جُهَنِيٌّ اسْمُهُ سِنانٌ حَلِيفٌ لِابْنِ

صفحة ٢٣٣

أُبَيٍّ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الحادِثَةُ واحِدَةً. واضْطَرَبُ الرّاوِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ في صِفَتِها؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ حادِثَتانِ في غَزاةٍ واحِدَةٍ.

وذَكَرَ الواحِدِيُّ في أسْبابِ النُّزُولِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أرْسَلَ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وقالَ لَهُ: أنْتَ صاحِبُ هَذا الكَلامِ الَّذِي بَلَغَنِي، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: والَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ ما قُلْتُ شَيْئًا مِن هَذا وإنَّ زَيْدًا لَكاذِبٌ» .

والظّاهِرُ أنَّ المَقالَةَ الأُولى قالَها ابْنُ أُبَيٍّ في سَوْرَةِ غَضَبٍ تَهْيِيجًا لِقَوْمِهِ ثُمَّ خَشِيَ انْكِشافَ نِفاقِهِ فَأنْكَرَها.

وأمّا المَقالَةُ الثّانِيَةُ فَإنَّما أدْرَجَها زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ في حَدِيثِهِ وإنَّما قالَها ابْنُ أُبَيٍّ في سُورَةِ النّاصِحِ كَما سَيَأْتِي في تَفْسِيرِ حِكايَتِها.

وعَلى الأصَحِّ فَهي قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الأحْزابِ، وعَلى القَوْلِ بِأنَّها نَزَلَتْ في غَزْوَةِ تَبُوكَ تَكُونُ نَزَلَتْ مَعَ سُورَةِ (بَراءَةٌ) أوْ قَبْلَها بِقَلِيلٍ وهو بَعِيدٌ.

* * *

فَضْحُ أحْوالِ المُنافِقِينَ بِعَدِّ كَثِيرٍ مِن دَخائِلِهِمْ وتَوَلُّدِ بَعْضِها عَنْ بَعْضِ مِن كَذِبٍ، وخَيْسٍ بِعَهْدِ اللَّهِ، واضْطِرابٍ في العَقِيدَةِ، ومِن سَفالَةِ نُفُوسٍ في أجْسامٍ تَغُرُّ وتُعْجِبُ، ومِن تَصْمِيمٍ عَلى الإعْراضِ عَنْ طَلَبِ الحَقِّ والهُدى، وعَلى صَدِّ النّاسِ عَنْهُ، وكانَ كُلُّ قِسْمٍ مِن آياتِ السُّورَةِ المُفْتَتَحِ بِ (إذا) خُصَّ بِغَرَضٍ مِن هَذِهِ الأغْراضِ. وقَدْ عَلِمْتُ أنَّ ذَلِكَ جَرَّتْ إلَيْهِ الإشارَةُ إلى تَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فِيما حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَصُّلِ مِمّا قالَهُ.

وخُتِمَتْ بِمَوْعِظَةِ المُؤْمِنِينَ وحَثِّهِمْ عَلى الإنْفاقِ والِادِّخارِ لِلْآخِرَةِ قَبْلَ حُلُولِ الأجَلِ.