صفحة ٢٤٩

﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ .

اسْتِئْنافٌ ثانٍ عَلى أُسْلُوبِ التَّعْدادِ والتَّكْرِيرِ ولِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ. ومِثْلُهُ يَكْثُرُ في مَقامِ التَّوْبِيخِ. وهَذا وصْفٌ لِخُبْثِ نَواياهم إذْ أرادُوا التَّهْدِيدَ وإفْسادَ إخْلاصِ الأنْصارِ وأُخُوَّتِهِمْ مَعَ المُهاجِرِينَ بِإلْقاءِ هَذا الخاطِرِ في نُفُوسِ الأنْصارِ بَذْرًا لِلْفِتْنَةِ والتَّفْرِقَةِ وانْتِهازًا لِخُصُومَةٍ طَفِيفَةٍ حَدَثَتْ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مِن مَوالِيَ الفَرِيقَيْنِ، وهَذا القَوْلُ المَحْكِيُّ هُنا صَدَرَ مِن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ كَسَعَ حَلِيفُ المُهاجِرِينَ حَلِيفَ الأنْصارِ كَما تَقَدَّمَ في ذِكْرِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ٧]، فَإسْنادُ القَوْلِ إلى ضَمِيرِ المُنافِقِينَ هُنا كَإسْنادِهِ هُناكَ.

وصِيغَةُ المُضارِعِ في حِكايَةِ هَذِهِ المَقالَةِ لِاسْتِحْضارِ الحالَةِ العَجِيبَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٤] . والمَدِينَةُ هي مَدِينَتُهُمُ المَعْهُودَةُ وهي يَثْرِبُ.

والأعَزُّ: القَوِيُّ العِزَّةُ وهو الَّذِي لا يُقْهَرُ ولا يُغْلَبُ عَلى تَفاوُتٍ في مِقْدارِ العِزَّةِ إذْ هي مِنَ الأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ. والعِزَّةُ تَحْصُلُ بِوَفْرَةِ العَدَدِ وسِعَةِ المالِ والعُدَّةِ، وأرادَ بِ ﴿الأعَزُّ﴾ فَرِيقَ الأنْصارِ فَإنَّهم أهْلُ المَدِينَةِ وأهْلُ الأمْوالِ وهم أكْثَرُ عَدَدًا مِنَ المُهاجِرِينَ فَأرادَ لَيُخْرِجَنَّ الأنْصارَ مِن مَدِينَتِهِمْ مَن جاءَها مِنَ المُهاجِرِينَ.

وقَدْ أبْطَلَ اللَّهُ كَلامَهم بِقَوْلِهِ ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وهو جَوابٌ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُسَمّى القَوْلَ بِالمُوجَبِ في عِلْمِ الجَدَلِ وهي مِمّا يُسَمّى بِالتَّسْلِيمِ الجَدَلِيِّ في عِلْمِ آدابِ البَحْثِ.

والمَعْنى: إنْ كانَ الأعَزُّ يُخْرُجُ الأذَلَّ فَإنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ الفَرِيقُ الأعَزُّ. وعِزَّتُهم بِكَوْنِ الرَّسُولِ ﷺ فِيهِمْ وبِتَأْيِيدِ اللَّهِ رَسُولَهُ ﷺ وأوْلِياءَهُ لِأنَّ عِزَّةَ اللَّهِ هي العِزَّةُ الحَقُّ المُطْلَقَةُ، وعَزَّةُ غَيْرِهِ ناقِصَةٌ، فَلا جَرَمَ أنَّ أوْلِياءَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ لا يُقْهَرُونَ إذا أرادَ اللَّهُ نَصْرَهم ووَعْدَهم بِهِ. فَإنْ كانَ إخْراجٌ مِنَ المَدِينَةِ فَإنَّما يُخْرَجُ مِنها أنْتُمْ يا أهْلَ النِّفاقِ.

صفحة ٢٥٠

وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ في ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ﴾ لِقَصْدِ القَصْرِ وهو قَصْرُ قَلْبٍ، أيْ العِزَّةُ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ لا لَكم كَما تَحْسَبُونَ.

وإعادَةُ اللّامِ في قَوْلِهِ ﴿ولِرَسُولِهِ﴾ مَعَ أنَّ حَرْفَ العَطْفِ مُغْنٍ عَنْها لِتَأْكِيدِ عِزَّةِ الرَّسُولِ ﷺ وأنَّها بِسَبَبِ عِزَّةِ اللَّهِ ووَعْدِهِ إيّاهُ، وإعادَةُ اللّامِ أيْضًا في قَوْلِهِ ﴿ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ لِلتَّأْكِيدِ أيْضًا إذْ قَدْ تَخْفى عِزَّتُهم وأكْثَرُهم في حالِ قِلَّةٍ وحاجَةٍ.

والقَوْلُ في الِاسْتِدْراكِ بِقَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ نَظِيرُ القَوْلِ آنِفًا في قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٧] .

وعُدِلَ عَنِ الإضْمارِ في قَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ . وقَدْ سَبَقَ اسْمُهم في نَظِيرِها قَبْلَها لِتَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلالَةِ بِذاتِها فَتَسِيرُ سَيْرَ المَثَلِ.

وإنَّما نُفِيَ عَنْهم هُنا العِلْمُ تَجْهِيلًا بِسُوءِ التَّأمُّلِ في أماراتِ الظُّهُورِ والِانْحِطاطِ فَلَمْ يَفْطَنُوا لِلْإقْبالِ الَّذِي في أحْوالِ المُسْلِمِينَ وازْدِيادِ سُلْطانِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا وتَناقُصٍ مِن أعْدائِهِمْ فَإنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مُشاهَدٌ فَكَيْفَ يَظُنُّ المُنافِقُونَ أنَّ عِزَّتَهم أقْوى مِن عِزَّةِ قَبائِلِ العَرَبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ بِأيْدِي المُسْلِمِينَ كُلَّما غَزَوهم مِن يَوْمِ بَدْرٍ فَما بَعْدَهُ.