﴿إذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقًا وهْيَ تَفُورُ﴾ ﴿تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾ [الملك: ٨] الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِبَيانِ ذَمِّ مَصِيرِهِمْ في جَهَنَّمَ، أيْ مِن جُمْلَةِ مَذامِّ مَصِيرِهِمْ مَذَمَّةَ ما يَسْمَعُونَهُ فِيها مِن أصْواتٍ مُؤْلِمَةٍ مُخِيفَةٍ.

و(إذا) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ (سَمِعُوا) يَدُلُّ عَلى الاقْتِرانِ بَيْنَ زَمَنِ الإلْقاءِ وزَمَنِ سَماعِ الشَّهِيقِ.

والشَّهِيقُ: تَرَدُّدُ الأنْفاسِ في الصَّدْرِ لا تَسْتَطِيعُ الصُّعُودَ لِبُكاءٍ ونَحْوِهِ أُطْلِقَ عَلى صَوْتِ التِهابِ نارِ جَهَنَّمَ الشَّهِيقُ تَفْظِيعًا لَهُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿سَمِعُوا لَها﴾ يَقْتَضِي أنَّ الشَّهِيقَ شَهِيقُها؛ لِأنَّ أصْلَ اللّامِ أنْ تَكُونَ لِشِبْهِ المِلْكِ.

وجُمْلَةُ ﴿وهِيَ تَفُورُ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ (فِيها) وتَفُورُ: تَغْلِي وتَرْتَفِعُ ألْسِنَةُ لَهِيبِها.

صفحة ٢٤

والغَيْظُ أشَدُّ الغَضَبِ. وقَوْلُهُ ﴿تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾ [الملك: ٨] خَبَرٌ ثانٍ عَنْ ضَمِيرِ (وهي) مَثَّلَتْ حالَةَ فَوَرانِها وتَصاعُدِ ألْسِنَةِ لَهِيبِها ورَطْمِها ما فِيها والتِهامِ مَن يُلْقَوْنَ إلَيْها، بِحالِ مُغْتاظٍ شَدِيدِ الغَيْظِ لا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمّا غاظَهُ إلّا سَلَّطَ عَلَيْهِ ما يَسْتَطِيعُ مِنَ الأضْرارِ.

واسْتُعْمِلَ المُرَكَّبُ الدّالُّ عَلى الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها مَعَ مُرادِفاتِهِ كَقَوْلِهِمْ: يَكادُ فُلانُ يَتَمَيَّزُ غَيْظًا ويَتَقَصَّفُ غَضَبًا، أيْ يَكادُ تَتَفَرَّقُ أجْزاؤُهُ فَيَتَمَيَّزُ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ وهَذا مِنَ التَّمْثِيلِيَّةِ المَكْنِيَةِ وقَدْ وضَّحْناها في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

ونَظِيرُ هَذِهِ الاسْتِعارَةِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكهف: ٧٧] في سُورَةِ الكَهْفِ إذْ مُثِّلَ الجِدارُ بِشَخْصٍ لَهُ إرادَةٌ.

و(تَمَيَّزُ) أصْلُهُ تَتَمَيَّزُ، أيْ تَنْفَصِلُ، أيْ تَتَجَزَّأُ أجْزاءً تَخْيِيلًا لِشِدَّةِ الاضْطِرابِ بِأنَّ أجْزاءَها قارَبَتْ أنْ تَتَقَطَّعَ، وهَذا كَقَوْلِهِمْ: غَضِبَ فُلانٌ فَطارَتْ مِنهُ شُقَّةٌ في الأرْضِ وشُقَّةٌ في السَّماءِ.