Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا﴾ ﴿السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وعْدُهُ مَفْعُولًا﴾ الِاسْتِفْهامُ بِـ (كَيْفَ) مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيزِ والتَّوْبِيخِ وهو مُتَفَرِّعٌ بِالفاءِ عَلى ما تَضَمَّنَهُ الخِطابُ السّابِقُ مِنَ التَّهْدِيدِ عَلى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ ﷺ وما أُدْمِجَ فِيهِ مِنَ التَّسْجِيلِ بِأنَّ الرَّسُولَ ﷺ شاهِدٌ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ بَعْدَ الشَّهادَةِ إلّا المُؤاخَذَةُ بِما شَهِدَ بِهِ. وقَدِ انْتَقَلَ بِهِمْ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالأخْذِ في الدُّنْيا المُسْتَفادِ مِن تَمْثِيلِ حالِهِمْ بِحالِ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسى إلى الوَعِيدِ بِعِقابٍ أشَدَّ وهو عَذابُ يَوْمِ القِيامَةِ وقَدْ نَشَأ هَذا الِاسْتِفْهامُ عَنِ اعْتِبارِهِمْ أهْلَ اتِّعاظٍ وخَوْفٍ مِنَ الوَعِيدِ بِما حَلَّ بِأمْثالِهِمْ مِمّا شَأْنُهُ أنْ يُثِيرَ فِيهِمْ تَفْكِيرًا مِنَ النَّجاةِ مِنَ الوُقُوعِ فِيما هُدِّدُوا بِهِ، وأنَّهم إنْ كانُوا أهْلَ جَلادَةٍ عَلى تَحَمُّلِ عَذابِ الدُّنْيا فَماذا يَصْنَعُونَ في اتِّقاءِ عَذابِ الآخِرَةِ، فَدَلَّتْ فاءُ التَّفْرِيعِ واسْمُ الِاسْتِفْهامِ عَلى هَذا المَعْنى.
فالمَعْنى: هَبْكم أقْدَمْتُمْ عَلى تَحَمُّلِ عَذابِ الدُّنْيا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ عَذابَ الآخِرَةِ،
صفحة ٢٧٥
فَفِعْلُ الشَّرْطِ مِن قَوْلِهِ (﴿إنْ كَفَرْتُمْ﴾) مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى الدَّوامِ عَلى الكُفْرِ؛ لِأنَّ ما يَقْتَضِيهِ الشَّرْطُ مِنَ الِاسْتِقْبالِ قَرِينَةٌ عَلى إرادَةِ مَعْنى الدَّوامِ مِن فِعْلِ (كَفَرْتُمْ) وإلّا فَإنَّ كُفْرَهم حاصِلٌ مِن قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ.و(يَوْمًا) مَنصُوبٌ عَلى المَفْعُولِ بِهِ لِـ (تَتَّقُونَ) . واتِّقاءُ اليَوْمِ اتِّقاءُ ما يَقَعُ فِيهِ مِن عَذابٍ أيْ: عَلى الكُفْرِ.
ووَصْفُ اليَوْمِ بِأنَّهُ ﴿يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا﴾ وصْفٌ لَهُ بِاعْتِبارِ ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ الأهْوالِ والأحْزانِ،؛ لِأنَّهُ شاعَ أنَّ الهَمَّ مِمّا يُسْرِعُ بِهِ الشَّيْبُ، فَلَمّا أُرِيدَ وصْفُ هَمِّ ذَلِكَ اليَوْمِ بِالشِّدَّةِ البالِغَةِ أقْواها أُسْنِدَ إلَيْهِ يَشِيبُ الوِلْدانُ الَّذِينَ شَعْرُهم في أوَّلِ سَوادِهِ. وهَذِهِ مُبالَغَةٌ عَجِيبَةٌ، وهي مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ فِيما أحْسَبُ، لِأنِّي لَمْ أرَ هَذا المَعْنى في كَلامِ العَرَبِ، وأمّا البَيْتُ الَّذِي يُذْكَرُ في شَواهِدِ النَّحْوِ وهو:
إذَنْ واللَّهِ نَرْمِيهم بِحَرْبٍ تُشِيبُ الطِّفْلَ مِن قَبْلِ المَشِيبِ
فَلا ثُبُوتَ لِنِسْبَتِهِ إلى مَن كانُوا قَبْلَ نُزُولِ القُرْآنِ ولا يُعْرَفُ قائِلُهُ، ونَسَبَهُ بَعْضُ المُؤَلِّفِينَ إلى حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ. وقالَ العَيْنِيُّ: لَمْ أجِدْهُ في دِيوانِهِ. وقَدْ أخَذَ المَعْنى الصَّمَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ القُشَيْرِيُّ في قَوْلِهِ:دَعانِي مِن نَجْدٍ فَإنَّ سِنِينَهُ ∗∗∗ لَعِبْنَ بِنا شِيبًا وشَيَّبْنَنا مُرْدا
وهُوَ مِن شُعَراءِ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ، وإسْنادُ ﴿يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا﴾ إلى اليَوْمِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ بِمَرْتَبَتَيْنِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ زَمَنُ الأهْوالِ الَّتِي تَشِيبُ لِمِثْلِها الأطْفالُ، والأهْوالُ سَبَبٌ لِلشَّيْبِ عُرْفًا.والشَّيْبُ كِنايَةٌ عَنْ هَذا الهَوْلِ فاجْتَمَعَ في الآيَةِ مَجازانِ عَقْلِيّانِ، وكِنايَةٌ ومُبالَغَةٌ في قَوْلِهِ ﴿يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا﴾ .
وجُمْلَةُ ﴿السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ.
والباءُ بِمَعْنى في، وهو ارْتِقاءٌ في وصْفِ اليَوْمِ بِحُدُوثِ الأهْوالِ فِيهِ فَإنَّ انْفِطارَ السَّماءِ أشَدُّ هَوْلًا ورُعْبًا مِمّا كُنِّيَ عَنْهُ بِجُمْلَةِ ﴿يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيبًا﴾ . أيِ: السَّماءُ عَلى عِظَمِها وسُمْكِها تَنْفَطِرُ لِذَلِكَ اليَوْمِ فَما ظَنُّكم بِأنْفُسِكم وأمْثالِكم مِنَ الخَلائِقِ فِيهِ.
صفحة ٢٧٦
والِانْفِطارُ: التَّشَقُّقُ الَّذِي يَحْدُثُ في السَّماءِ لِنُزُولِ المَلائِكَةِ وصُعُودِهِمْ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ﴾ [المعارج: ٤] في سُورَةِ المَعارِجِ.وذِكْرُ انْفِطارِ السَّماءِ في ذَلِكَ اليَوْمِ زِيادَةٌ في تَهْوِيلِ أحْوالِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ المُهَدَّدِينَ رُعْبًا وإنْ لَمْ يَكُنِ انْفِطارُ السَّماءِ مِن آثارِ أعْمالِهِمْ ولا لَهُ أثَرٌ في زِيادَةِ نَكالِهِمْ.
ويَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ جُمْلَةُ ﴿السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ مُسْتَأْنَفَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ﴾ إلَخْ وجُمْلَةِ ﴿كانَ وعْدُهُ مَفْعُولًا﴾ والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ويَكُونُ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِالباءِ عائِدًا إلى الكُفْرِ المَأْخُوذِ مِن فِعْلِ (كَفَرْتُمْ) .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الإخْبارُ بِانْفِطارِ السَّماءِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ أيْ: كالمُنْفَطِرِ بِهِ فَيَكُونُ المَعْنى كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ [مريم: ٨٨] ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ [مريم: ٨٩] ﴿يَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ [مريم: ٩٠]) .
ووَصْفُ السَّماءِ بِمُنْفَطِرٍ بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ مَعَ أنَّ السَّماءَ في اللُّغَةِ مِنَ الأسْماءِ المُعْتَبَرَةِ مُؤَنَّثَةً في الشّائِعِ. قالَ الفَرّاءُ: السَّماءُ تُذَكَّرُ عَلى التَّأْوِيلِ بِالسَّقْفِ؛ لِأنَّ أصْلَ تَسْمِيَتِها سَماءً عَلى التَّشْبِيهِ بِالسَّقْفِ، أيْ: والسَّقْفُ مُذَكَّرٌ والسَّماءُ مُؤَنَّثٌ. وتَبِعَهُ الجَوْهَرِيُّ وابْنُ بَرِّيٍّ. وأنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلَ الشّاعِرِ:
فَلَوْ رَفَعَ السَّماءُ إلَيْهِ قَوْمًا ∗∗∗ لَحِقْنا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ
وأنْشَدَ ابْنُ بَرِّيٍّ أيْضًا في تَذْكِيرِ السَّماءِ بِمَعْنى السَّقْفِ قَوْلَ الآخَرِ:وقالَتْ سَماءُ البَيْتِ فَوْقَكَ مُخْلَقٌ ∗∗∗ ولَمّا تَيَسَّرَ اجْتِلاءُ الرَّكائِبِ
ولا نَدْرِي مِقْدارَ صِحَّةِ هَذَيْنِ الشّاهِدَيْنِ مِنَ العَرَبِيَّةِ عَلى أنَّهُ قَدْ يَكُونانِ مِن ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. وقِيلَ إذا كانَ الِاسْمُ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ جازَ إجْراءُ وصْفِهِ عَلى التَّذْكِيرِ فَلا تَلْحَقُهُ هاءُ التَّأْنِيثِ قِياسًا عَلى الفِعْلِ المُسْنَدِ لِلْمُؤَنَّثِ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ في جَوازِ اقْتِرانِهِ بِتاءِ التَّأْنِيثِ وتَجْرِيدِهِ مِنها، إجْراءً لِلْوَصْفِ مَجْرى الفِعْلِ وهو وجِيهٌ.ولَعَلَّ العُدُولَ في الآيَةِ عَنِ الِاسْتِعْمالِ الشّائِعِ في الكَلامِ الفَصِيحِ في إجْراءِ السَّماءِ عَلى التَّأْنِيثِ إلى التَّذْكِيرِ إيثارًا لِتَخْفِيفِ الوَصْفِ؛ لِأنَّهُ لَمّا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ
صفحة ٢٧٧
مُنْفَعِلٍ بِحَرْفَيْ زِيادَةٍ وهُما المِيمُ والنُّونُ كانَتِ الكَلِمَةُ مُعَرَّضَةً لِلثِّقَلِ إذا أُلْحِقَ بِها حَرْفٌ زائِدٌ آخَرُ ثالِثٌ، وهو هاءُ التَّأْنِيثِ فَيَحْصُلُ فِيها ثِقَلٌ يُجَنَّبُهُ الكَلامُ البالِغُ غايَةَ الفَصاحَةِ ألا تَرى أنَّها لَمْ تَجْرِ عَلى التَّذْكِيرِ في قَوْلِهِ ﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١] إذْ لَيْسَ في الفِعْلِ إلّا حَرْفٌ مَزِيدٌ واحِدٌ وهو النُّونُ إذْ لا اعْتِدادَ بِهَمْزَةِ الوَصْلِ لِأنَّها ساقِطَةٌ في حالَةِ الوَصْلِ، فَجاءَتْ بَعْدَها تاءُ التَّأْنِيثِ.وجُمْلَةُ ﴿كانَ وعْدُهُ مَفْعُولًا﴾ صِفَةٌ أُخْرى لِـ (يَوْمًا)، وهَذا الوَصْفُ إدْماجٌ لِلتَّصْرِيحِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ ذَلِكَ اليَوْمِ بَعْدَ الإنْذارِ بِهِ الَّذِي هو مُقْتَضٍ لِوُقُوعِهِ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ اسْتِقْصاءً في إبْلاغِ ذَلِكَ إلى عِلْمِهِمْ وفي قَطْعِ مَعْذِرَتِهِمْ.
وضَمِيرُ وعْدُهُ عائِدٌ إلى (يَوْمًا) المَوْصُوفِ، وإضافَةُ وعْدٍ إلَيْهِ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ عَلى التَّوَسُّعِ، أيِ: الوَعْدُ بِهِ، أيْ: بِوُقُوعِهِ.