﴿إنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ﴾ ﴿كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ﴾

يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا مِن تَمامِ ما يُقالُ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمُ (﴿انْطَلِقُوا إلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المرسلات: ٢٩])، فَإنَّهم بَعْدَ أنْ حَصَلَ لَهُمُ اليَأْسُ مِمّا يُنَفِّسُ عَنْهم ما يَلْقَوْنَ مِنَ العَذابِ، وقِيلَ لَهم: انْطَلِقُوا إلى دُخانِ جَهَنَّمَ رُبَّما شاهَدُوا ساعَتَئِذٍ جَهَنَّمَ تَقْذِفُ

صفحة ٤٣٧

بِشَرَرِها فَيُرَوِّعُهُمُ المَنظَرُ، أوْ يُشاهِدُونَها عَنْ بُعْدٍ لا تَتَّضِحُ مِنهُ الأشْياءُ وتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مَخائِلُ تَوَقُّعِهِمْ أنَّهم بالِغُونَ إلَيْهِ فَيُزادُونَ رَوْعًا وتَهْوِيلًا، فَيُقالُ لَهم: إنَّ جَهَنَّمَ تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اعْتِراضًا في أثْناءِ حِكايَةِ حالِهِمْ، أوْ في خِتامِ حِكايَةِ حالِهِمْ.

فَضَمِيرُ (إنَّها) عائِدٌ إلى جَهَنَّمَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْها قَوْلُهُ (﴿ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المرسلات: ٢٩]) كَما يُقالُ لِلَّذِي يُساقُ إلى القَتْلِ وقَدْ رَأى رَجُلًا بِيَدِهِ سَيْفٌ فاضْطَرَبَ لِرُؤْيَتِهِ فَيُقالُ لَهُ: إنَّهُ الجَلّادُ.

وإجْراءُ تِلْكَ الأوْصافِ في الإخْبارِ عَنْها لِزِيادَةِ التَّرْوِيعِ والتَّهْوِيلِ، فَإنْ كانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ الشَّرَرَ لِقُرْبِهِمْ مِنهُ فَوَصَفَهُ لَهم لِتَأْكِيدِ التَّرْوِيعِ والتَّهْوِيلِ بِتَظاهُرِ السَّمْعِ مَعَ الرُّؤْيَةِ. وإنْ كانُوا عَلى بُعْدٍ مِنهُ فالوَصْفُ لِلْكَشْفِ عَنْ حالِهِ الفَظِيعَةِ.

وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ (إنَّ) لِلِاهْتِمامِ بِهِ لِأنَّهم حِينَئِذٍ لا يَشُكُّونَ في ذَلِكَ سَواءٌ رَأوْهُ أوْ أُخْبِرُوا بِهِ.

والشَّرَرُ: اسْمُ جَمْعِ شَرَرَةٍ: وهي القِطْعَةُ المُشْتَعِلَةُ مِن دَقِيقِ الحَطَبِ يَدْفَعُها لَهَبُ النّارِ في الهَواءِ مِن شِدَّةِ التِهابِ النّارِ.

والقَصْرُ: البِناءُ العالِي. والتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، أيْ كالقُصُورِ لِأنَّهُ شُبِّهَ بِهِ جَمْعٌ، وهَذا التَّعْرِيفُ مِثْلُ تَعْرِيفِ الكِتابِ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ﴾ [الحديد: ٢٥])، أيِ الكُتُبَ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الكِتابُ أكْثَرُ مِنَ الكُتُبِ، أيْ كُلِّ شَرَرَةٍ كَقَصْرٍ، وهَذا تَشْبِيهٌ في عِظَمِ حَجْمِهِ.

وقَوْلُهُ (﴿كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ﴾) تَشْبِيهٌ في حَجْمِهِ ولَوْنِهِ وحَرَكَتِهِ في تَطايُرِهِ بِجِمالاتٍ صُفْرٍ. وضَمِيرُ ”كَأنَّهُ“ عائِدٌ إلى شَرَرٍ.

والجِمالاتُ: بِكَسْرِ الجِيمِ جَمْعُ جِمالَةٍ وهي اسْمُ جَمْعِ طائِفَةٍ مِنَ الجِمالِ، أيْ: تُشْبِهُ طَوائِفَ مِنَ الجِمالِ مُتَوَزِّعَةً فِرَقًا، وهَذا تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ لِأنَّهُ تَشْبِيهٌ في هَيْئَةِ الحَجْمِ مَعَ لَوْنِهِ مَعَ حَرَكَتِهِ. والصُّفْرَةُ: لَوْنُ الشَّرَرِ إذا ابْتَعَدَ عَنْ لَهِيبِ نارِهِ.

صفحة ٤٣٨

وقَرَأ الجُمْهُورُ (جِمالاتٌ) بِكَسْرِ الجِيمِ وألِفٍ بَعْدَ اللّامِ فَهو جَمْعُ جِمالَةٍ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ وخَلَفٌ ”جِمالَةٌ“ بِكَسْرِ الجِيمِ بِدُونِ ألِفٍ بَعْدَ اللّامِ وهو جَمْعُ جَمَلٍ مِثْلَ حَجَرٍ وحِجارَةٍ.

وقَرَأهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ (جُمالاتٌ) بِضَمِّ الجِيمِ وألِفٍ بَعْدَ اللّامِ جَمْعَ جُمالَةٍ بِالضَّمِّ وهي حَبْلٌ تُشَدُّ بِهِ السَّفِينَةُ، ويُسَمّى القَلْسُ - بِقافٍ مَفْتُوحَةٍ ولامٍ ساكِنَةٍ - والتَّقْدِيرُ: كَأنَّ الواحِدَةَ مِنها جُمالَةٌ، و(صُفْرٌ) عَلى هَذِهِ القِراءَةِ نَعْتٌ لِـ (جُمالاتٌ) أوْ لِـ (شَرَرٍ) .

قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وقالَ أبُو العَلاءِ - يَعْنِي المَعَرِّي - في صِفَةِ نارِ قَوْمٍ مَدَحَهم بِالكَرَمِ:

حَمْراءَ ساطِعَةَ الذَّوائِبِ في الدُّجى تَرْمِي بِكُلِّ شَرارَةٍ كَـطِـرافِ

شَبَّهَ الشَّرارَةَ بِالطِّرافِ وهو بَيْتُ الأدْمِ في العِظَمِ والحُمْرَةِ وكَأنَّهُ قَصَدَ بِخُبْثِهِ أنْ يَزِيدَ عَلى تَشْبِيهِ القُرْآنِ ولِتَبَجُّحِهِ بِما سُوِّلَ لَهُ مِن تَوَهُّمِ الزِّيادَةِ جاءَ في صَدْرِ بَيْتِهِ بِقَوْلِهِ ”حَمْراءَ“ تَوْطِئَةً لَها ومُناداةً عَلَيْها وتَنْبِيهًا لِلسّامِعِينَ عَلى مَكانِها، ولَقَدْ عَمِيَ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ عَمى الدّارِينَ عَنْ قَوْلِهِ عِزَّ وعَلا (﴿كَأنَّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ﴾) فَإنَّهُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ كَبَيْتٍ أحْمَرَ وعَلى أنَّ في التَّشْبِيهِ بِالقَصْرِ وهو الحِصْنُ تَشْبِيهًا مِن جِهَتَيْنِ مِن جِهَةِ العِظَمِ ومِن جِهَةِ الطُّولِ في الهَواءِ فَأبْعَدَ اللَّهُ إغْرابَهُ في طِرافِهِ وما نَفَخَ شِدْقَيْهِ مِنِ اسْتِطْرافِهِ اهـ.

وأقُولُ: هَذا الكَلامُ ظَنُّ سُوءِ بِالمَعَرِّي لَمْ يُشَمَّ مِن كَلامِهِ، ولا نَسَبَهُ إلَيْهِ أحَدٌ مِن أهْلِ نَبْزِهِ ومَلامِهِ، زادَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ في طُنْبُورِ أصْحابِ النِّقْمَةِ، لِنَبْزِ المَعَرِّي ولَمْزِهِ نَغْمَةٌ.

قالَ الفَخْرُ: كانَ الأوْلى لِصاحِبِ الكَشّافِ أنْ لا يَذْكُرَ ذَلِكَ - أيْ لِأنَّهُ ظَنُّ سُوءٍ بِلا دَلِيلٍ - .

وقالَ الطِّيبِيُّ: ولَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَخْفى عَلى مِثْلِ المَعَرِّي: أنَّ الكَلامَ بِآخِرِهِ لِأنَّ اللَّهَ شَبَّهَ الشَّرارَةَ: أوَّلًا حِينَ تَنْفَصِلُ عَنِ النّارِ بِالقَصْرِ في العِظَمِ، وثانِيًا حِينَ تَأْخُذُ في الِارْتِفاعِ والِانْبِساطِ فَتَنْشَقُّ عَنْ أعْدادٍ لا نِهايَةَ لَها بِالجِمالاتِ في التَّفَرُّقِ

صفحة ٤٣٩

واللَّوْنِ والعِظَمِ والثِّقَلِ، ونُظِرَ في ذَلِكَ إلى الحَيَوانِ وأنَّ تِلْكَ الحَرَكاتِ اخْتِيارِيَّةٌ وكُلُّ ذَلِكَ مَفْقُودٌ في بَيْتِهِ.