﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكم إلّا عَذابًا﴾

الفاءُ لِلتَّفْرِيعِ والتَّسَبُّبِ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصادًا﴾ [النبإ: ٢١] وما اتَّصَلَ بِها، ولَمّا غُيِّرَ أُسْلُوبُ الخَبَرِ إلى الخِطابِ بَعْدَ أنْ كانَ جارِيًا بِطَرِيقِ الغَيْبَةِ - ولَمْ يَكُنْ مَضْمُونُ الخَبَرِ مِمّا يَجْرِي في الدُّنْيا فَيُظَنُّ أنَّهُ خِطابُ تَهْدِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ - تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ المُفَرَّعُ قَوْلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ (ذُوقُوا) الَّذِي لا يُقالُ إلّا يَوْمَ الجَزاءِ،

صفحة ٤٢

فالتَّقْدِيرُ: فَيُقالُ لَهم ذُوقُوا إلى آخِرِهِ، ولِهَذا فَلَيْسَ في ضَمِيرِ الخِطابِ التِفاتٌ، فالمُفَرَّعُ بِالفاءِ هو فِعْلُ القَوْلِ المَحْذُوفِ.

والأمْرُ في ذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ في التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ.

وفُرِّعَ عَلى (فَذُوقُوا) ما يَزِيدُ تَنْكِيدَهم وتَحْسِيرَهم بِإعْلامِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ سَيَزِيدُهم عَذابًا فَوْقَ ما هم فِيهِ.

والزِّيادَةُ: ضَمُّ شَيْءٍ إلى غَيْرِهِ مِن جِنْسٍ واحِدٍ أوْ غَرَضٍ واحِدٍ، قالَ تَعالى: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] وقالَ ﴿ولا تَزِدِ الظّالِمِينَ إلّا تَبارًا﴾ [نوح: ٢٨]، أيْ: لا تَزِدْهم - عَلى ما هم فِيهِ مِنَ المَساوِي - إلّا الإهْلاكَ.

فالزِّيادَةُ المَنفِيَّةُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَنْ نَزِيدَكم إلّا عَذابًا﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ زِيادَةَ نَوْعٍ آخَرَ مِن عَذابٍ يَكُونُ حاصِلًا لَهم كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ [النحل: ٨٨] .

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ زِيادَةً مِن نَوْعِ ما هم فِيهِ مِنَ العَذابِ بِتَكْرِيرِهِ في المُسْتَقْبَلِ.

والمَعْنى: فَسَنَزِيدُكم عَذابًا زِيادَةً مُسْتَمِرَّةً في أزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلِ، فَصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذا المَعْنى بِهَذا التَّرْكِيبِ الدَّقِيقِ؛ إذِ ابْتُدِئَ بِنَفْيِ الزِّيادَةِ بِحَرْفِ تَأْبِيدِ النَّفْيِ وأُرْدِفَ الِاسْتِثْناءُ المُقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ المُسْتَثْنى مِنهُ لِلْمُسْتَثْنى فَصارَتْ دِلالَةُ الِاسْتِثْناءِ عَلى مَعْنى: سَنَزِيدُكم عَذابًا مُؤَبَّدًا. وهَذا مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ وهو أُسْلُوبٌ طَرِيفٌ مِنَ التَّأْكِيدِ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ إعادَةُ لَفْظٍ، فَإنَّ زِيادَةَ العَذابِ تَأْكِيدٌ لِلْعَذابِ الحاصِلِ.

ولَمّا كانَ المَقْصُودُ الوَعِيدَ بِزِيادَةِ العَذابِ في المُسْتَقْبَلِ جِيءَ في أُسْلُوبِ نَفْيِهِ بِحَرْفِ نَفْيِ المُسْتَقْبَلِ، وهو (لَنْ) المُفِيدُ تَأْكِيدَ النِّسْبَةِ المَنفِيَّةِ وهي ما دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ النَّفْيِ والِاسْتِثْناءِ، فَإنَّ قَيْدَ تَأْبِيدِ نَفْيِ الزِّيادَةِ - الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ (لَنْ) في جانِبِ المُسْتَثْنى مِنهُ - يَسْرِي إلى إثْباتِ زِيادَةِ العَذابِ في جانِبِ المُسْتَثْنى، فَيَكُونُ مَعْنى جُمْلَةِ الِاسْتِثْناءِ: سَنَزِيدُكم عَذابًا أبَدًا، وهو مَعْنى الخُلُودِ في العَذابِ. وفي هَذا الأُسْلُوبِ ابْتِداءٌ مُطْمِعٌ بِانْتِهاءٍ مُؤْيِسٍ، وذَلِكَ أشَدُّ حُزْنًا وغَمًّا بِما يُوهِمُهم أنَّ ما أُلْقُوا فِيهِ هو مُنْتَهى التَّعْذِيبِ حَتّى إذا ولَجَ ذَلِكَ أسْماعَهم فَحَزِنُوا لَهُ أُتْبِعَ بِأنَّهم

صفحة ٤٣

يَنْتَظِرُهم عَذابٌ آخَرُ أشَدُّ، فَكانَ ذَلِكَ حُزْنًا فَوْقَ حَزْنٍ، فَهَذا مِنوالُ هَذا النَّظْمِ وهو مُؤَذِّنٌ بِشِدَّةِ الغَضَبِ.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، وأبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ، وأبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ أشَدُّ ما نَزَلَ في أهْلِ النّارِ، وقَدْ أُسْنِدَ هَذا إلى النَّبِيءِ ﷺ مِن حَدِيثٍ عَنْ أبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ: «سَألْتُ النَّبِيءَ ﷺ عَنْ أشَدِّ آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ عَلى أهْلِ النّارِ ؟ فَقالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعالى ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكم إلّا عَذابًا» . وفي سَنَدِهِ جِسْرُ بْنُ فَرْقَدٍ وهو ضَعِيفٌ جِدًّا.

وفِي ابْنِ عَطِيَّةَ: أنَّ أبا هُرَيْرَةَ رَواهُ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ، ولَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سَنَدَهُ، وتَعَدُّدُ طُرُقِهِ يَكْسِبُهُ قُوَّةً.