Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿وما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩] فَهو داخِلٌ في خَبَرِ القَسَمِ جَوابًا ثانِيًا عَنِ القَسَمِ، والمَعْنى: وما هو أيِ: القُرْآنُ بِقَوْلِ مَجْنُونٍ كَما تَزْعُمُونَ. فَبَعْدَ أنْ أثْنى اللَّهُ عَلى القُرْآنِ بِأنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وكانَ قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ ثَناءً عَلى النَّبِيءِ ﷺ بِأنَّهُ صادِقٌ فِيما بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى، أعْقَبَهُ بِإبْطالِ بُهْتانِ المُشْرِكِينَ فِيما اخْتَلَقُوهُ عَلى النَّبِيءِ ﷺ مِن قَوْلِهِمْ مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ وقَوْلِهِمْ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبإ: ٨]، فَأبْطَلَ قَوْلَهم إبْطالًا مُؤَكَّدًا ومُؤَيَّدًا، فَتَأْكِيدُهُ بِالقَسَمِ وبِزِيادَةِ الباءِ بَعْدَ النَّفْيِ، وتَأْيِيدُهُ بِما أوْمَأ إلَيْهِ وصْفُهُ بِأنَّ الَّذِي بَلَّغَهُ صاحِبُهم، فَإنَّ وصْفَ صاحِبٍ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ خُلُقَهُ وعَقْلَهُ ويَعْلَمُونَ أنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، إذْ شَأْنُ الصّاحِبِ أنْ لا تَخْفى دَقائِقُ أحْوالِهِ عَلى أصْحابِهِ.
والمَعْنى: نَفْيُ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مِن وساوِسِ المَجانِينِ، فَسَلامَةُ مُبَلِّغِهِ مِنَ الجُنُونِ تَقْتَضِي سَلامَةَ قَوْلِهِ عَنْ أنْ يَكُونَ وسْوَسَةً.
ويَجْرِي عَلى ما تَقَدَّمَ مِنَ القَوْلِ بِأنَّ المُرادَ بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ ﷺ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صاحِبُكم هُنا إظْهارًا في مَقامِ الإضْمارِ لِلتَّعْرِيضِ بِأنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهم بِصِحَّةِ العَقْلِ وأصالَةِ الرَّأْيِ.
والصّاحِبُ حَقِيقَتُهُ: ذُو الصُّحْبَةِ، وهي المُلازَمَةُ في أحْوالِ التَّجَمُّعِ والِانْفِرادِ لِلْمُؤانَسَةِ والمُوافَقَةِ، ومِنهُ قِيلَ لِلزَّوْجِ: صاحِبَةٌ، ولِلْمُسافِرِ مَعَ غَيْرِهِ صاحِبٌ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
بَكى صاحِبِي لَمّا رَأى الدَّرْبَ دُونَهُ
صفحة ١٥٨
وقالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ يُوسُفَ: ﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ [يوسف: ٣٩] وقالَ الحَرِيرِيُّ في المَقامَةِ الحادِيَةِ والعِشْرِينَ: ”ولا لَكم مِنِّي إلّا صُحْبَةُ السَّفِينَةِ“ .وقَدْ يَتَوَسَّعُونَ في إطْلاقِهِ عَلى المُخالِطِ في أحْوالٍ كَثِيرَةٍ ولَوْ في الشَّرِّ، كَقَوْلِ الحَجّاجِ يُخاطِبُ الخَوارِجَ: ”ألَسْتُمْ أصْحابِي بِالأهْوازِ حِينَ رُمْتُمُ الغَدْرَ واسْتَبْطَنْتُمُ الكُفْرَ“ . وقَوْلِ الفَضْلِ اللَّهَبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحِبِهِ ∗∗∗ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكم وتَقْلُونا
والمَعْنى: أنَّ الَّذِي تُخاصِمُونَهُ وتُكَذِّبُونَهُ وتَصِفُونَهُ بِالجُنُونِ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وأنَّكم مُخالِطُوهُ ومُلازِمُوهُ وتَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ، فَما قَوْلُكم عَلَيْهِ إنَّهُ مَجْنُونٌ إلّا لِقَصْدِ البُهْتانِ وإساءَةِ السُّمْعَةِ.
فَهَذا مَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مَعَ ما قَبْلَها وما بَعْدَها، والقَصْدُ مِن ذَلِكَ إثْباتُ صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ ولا يَخْطُرُ بِالبالِ أنَّها مَسُوقَةٌ في مَعْرِضِ المُوازَنَةِ والمُفاضَلَةِ بَيْنَ جِبْرِيلَ ومُحَمَّدٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ - والشَّهادَةُ لَهُما بِمَزاياهُما حَتّى يُشَمَّ مِن وفْرَةِ الصِّفاتِ المُجْراةِ عَلى جِبْرِيلَ أنَّهُ أفْضَلُ مِن مُحَمَّدٍ ﷺ ولا أنَّ المُبالَغَةَ في أوْصافِ جِبْرِيلَ مَعَ الِاقْتِصادِ في أوْصافِ مُحَمَّدٍ ﷺ تُؤْذِنُ بِتَفْضِيلِ أوَّلِهِما عَلى الثّانِي.
ومِن أسْمَجِ الكَلامِ وأضْعَفِ الِاسْتِدْلالِ قَوْلُ صاحِبِ الكَشّافِ: ”وناهِيكَ بِهَذا دَلِيلًا عَلى جَلالَةِ مَكانَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومُبايَنَةِ مَنزِلَتِهِ لِمَنزِلَةِ أفْضَلِ الإنْسِ مُحَمَّدٍ ﷺ إذا وازَنْتَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ وقايَسْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩] ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠] ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ [التكوير: ٢١]، وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾“ ا ه.
وكَيْفَ انْصَرَفَ نَظَرُهُ عَنْ سِياقِ الآيَةِ في الرَّدِّ عَلى أقْوالِ المُشْرِكِينَ في النَّبِيءِ ﷺ ولَمْ يَقُولُوا في جِبْرِيلَ شَيْئًا؛ لِأنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ رامَ أنْ يَنْتَزِعَ مِنَ الآيَةِ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ أصْحابِ الِاعْتِزالِ مِن تَفْضِيلِ المَلائِكَةِ عَلى الأنْبِياءِ، وهي مَسْألَةٌ لَها مَجالٌ آخَرُ، عَلى أنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ الصِّفاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلى رَسُولٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩] إلى قَوْلِهِ: أمِينٍ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ انْصِرافُها إلى جِبْرِيلَ،
صفحة ١٥٩
فَإنَّها مُحْتَمِلَةُ الِانْصِرافِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ . وقَدْ يَطْغى عَلَيْهِ حُبُّ الِاسْتِدْلالِ لِعَقائِدِ أهْلِ الِاعْتِزالِ طُغْيانًا يَرْمِي بِفَهْمِهِ في مَهاوِي الضَّآلَةِ، وهَلْ يَسْمَحُ بالُ ذِي مُسْكَةٍ مِن عِلْمٍ بِمَجارِي كَلامِ العُقَلاءِ أنْ يَتَصَدّى مُتَصَدٍّ لِبَيانِ فَضْلِ أحَدٍ بِأنْ يَنْفِيَ عَنْهُ أنَّهُ مَجْنُونٌ، وهَذا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلى تَفْسِيرِ ﴿رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [التكوير: ١٩] بِجِبْرِيلَ، فَأمّا إنْ أُرِيدَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أوْ هو وجِبْرِيلُ - عَلَيْهِما السَّلامُ - فَهَذا مُقْتَلَعٌ مِن جِذْرِهِ.ولا يَخْفى أنَّ العُدُولَ عَنِ اسْمِ النَّبِيءِ العَلَمِ إلى صاحِبُكم لِما يُؤْذِنُ بِهِ صاحِبُكم مِن كَوْنِهِمْ عَلى عِلْمٍ بِأحْوالِهِ، وأمّا العُدُولُ عَنْ ضَمِيرِهِ إنْ كانَ المُرادُ بِـ رَسُولٍ خُصُوصَ النَّبِيءِ ﷺ فَمِنَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ لِلْوَجْهِ المَذْكُورِ وإذا أُرِيدَ بِ رَسُولٍ كِلاهُما فَذِكْرُ صاحِبُكم لِتَخْصِيصِ الكَلامِ بِهِ.