Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ .
بَعْدَ أنْ أفاقَهم مِن ضَلالَتِهِمْ أرْشَدَهم إلى حَقِيقَةِ القُرْآنِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ المُؤَكِّدَةِ لِجُمْلَةِ ﴿وما هو بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ [التكوير: ٢٥] ولِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنِ العاطِفِ، ذَلِكَ أنَّ القَصْرَ المُسْتَفادَ مِنَ النَّفْيِ والِاسْتِثْناءِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ يُفِيدُ قَصْرَ القُرْآنِ عَلى صِفَةِ الذِّكْرِ، أيْ: لا غَيْرَ ذَلِكَ وهو قَصْرٌ إضافِيٌّ قُصِدَ مِنهُ إبْطالُ أنْ يَكُونَ قَوْلَ شاعِرٍ، أوْ قَوْلَ كاهِنٍ، أوْ قَوْلَ مَجْنُونٍ، فَمِن جُمْلَةِ ما أفادَهُ القَصْرُ نَفْيُ أنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، وبِذَلِكَ كانَ فِيهِ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ ﴿وما هو بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ [التكوير: ٢٥] .
والذِّكْرُ اسْمٌ يَجْمَعُ مَعانِيَ الدُّعاءِ والوَعْظِ بِحُسْنِ الأعْمالِ والزَّجْرَ عَنِ الباطِلِ وعَنِ الضَّلالِ، أيْ: ما القُرْآنُ إلّا تَذْكِيرٌ لِجَمِيعِ النّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهِ في صَلاحِ اعْتِقادِهِمْ، وطاعَةِ اللَّهِ رَبِّهِمْ، وتَهْذِيبِ أخْلاقِهِمْ، وآدابِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، والمُحافَظَةِ عَلى حُقُوقِهِمْ، ودَوامِ انْتِظامِ جَماعَتِهِمْ، وكَيْفَ يُعامِلُونَ غَيْرَهم مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
فَـ العالَمِينَ يَعُمُّ كُلَّ البَشَرِ لِأنَّهم مَدْعُوُّونَ لِلِاهْتِداءِ بِهِ ومُسْتَفِيدُونَ مِمّا جاءَ فِيهِ.
فَإنْ قُلْتَ: القُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلى أحادِيثِ الأنْبِياءِ والأُمَمِ وهو أيْضًا مُعْجِزَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ فَكَيْفَ قُصِرَ عَلى كَوْنِهِ ذِكْرًا ؟ !
قُلْتُ: القَصْرُ الإضافِيُّ لا يُقْصَدُ مِنهُ إلّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ بِالمَوْصُوفِ بِالنِّسْبَةِ إلى صِفَةٍ أُخْرى خاصَّةٍ، عَلى أنَّكَ لَكَ أنْ تَجْعَلَ القَصْرَ حَقِيقِيًّا مُفِيدًا قَصْرَ القُرْآنِ
صفحة ١٦٦
عَلى الذِّكْرِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفاتِ، فَإنَّ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ القِصَصِ والأخْبارِ مَقْصُودٌ بِهِ المَوْعِظَةُ والعِبْرَةُ كَما بَيَّنْتُ ذَلِكَ في المُقَدِّمَةِ السّابِعَةِ.وأمّا إعْجازُهُ فَلَهُ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ في التَّذْكِيرِ؛ لِأنَّ إعْجازَهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِكَلامٍ مِن صُنْعِ البَشَرِ، وإذا عُلِمَ ذَلِكَ وقَعَ اليَقِينُ بِأنَّهُ حَقٌّ.
وأُبْدِلَ مِن لِلْعالَمِينَ قَوْلُهُ: ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وأُعِيدَ مَعَ البَدَلِ حَرْفُ الجَرِّ العامِلُ مِثْلُهُ في المُبْدَلِ مِنهُ لِتَأْكِيدِ العامِلِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ﴾ [الأنعام: ٩٩] وقَوْلِهِ: ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَن آمَنَ مِنهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥] وتَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْعامِ. والخِطابُ في قَوْلِهِ: مِنكم لِلَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ [التكوير: ٢٦] وإذا كانَ القُرْآنُ ذِكْرًا لَهم وهم مِن جُمْلَةِ العالِمَيْنِ كانَ ذِكْرُ ﴿لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ﴾ مِن بَقِيَّةِ العالَمِينَ أيْضًا بِحُكْمِ قِياسِ المُساواةِ، فَفي الكَلامِ كِنايَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
وفائِدَةُ هَذا الإبْدالِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ الَّذِينَ تَذَكَّرُوا بِالقُرْآنِ وهُمُ المُسْلِمُونَ قَدْ شاءُوا الِاسْتِقامَةَ لِأنْفُسِهِمْ فَنَصَحُوا أنْفُسَهم، وهو ثَناءٌ عَلَيْهِمْ.
وفِي مَفْهُومِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالقُرْآنِ ما حالَ بَيْنَهم وبَيْنَ التَّذَكُّرِ بِهِ إلّا أنَّهم لَمْ يَشاءُوا أنْ يَسْتَقِيمُوا، بَلْ رَضُوا لِأنْفُسِهِمْ بِالِاعْوِجاجِ، أيْ: سُوءِ العَمَلِ والِاعْتِقادِ، لِيَعْلَمَ السّامِعُونَ أنَّ دَوامَ أُولَئِكَ عَلى الضَّلالِ لَيْسَ لِقُصُورِ القُرْآنِ عَنْ هَدْيِهِمْ بَلْ لِأنَّهم أبَوْا أنْ يَهْتَدُوا بِهِ، إمّا لِلْمُكابَرَةِ فَقَدْ كانُوا يَقُولُونَ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ [فصلت: ٥]، وإمّا لِلْإعْراضِ عَنْ تَلَقِّيهِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ لَعَلَّكم تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦] .
والِاسْتِقامَةُ مُسْتَعارَةٌ لِصَلاحِ العَمَلِ الباطِنِيِّ، وهو الِاعْتِقادُ، والظّاهِرِيِّ وهو الأفْعالُ والأقْوالُ تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِخَطٍّ مُسْتَقِيمٍ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ لَمْ يَشاءُوا أنْ يَسْتَقِيمُوا هُمُ الكافِرُونَ بِالقُرْآنِ وهُمُ المَسُوقُ لَهُمُ الكَلامُ، ويُلْحَقُ بِهِمْ عَلى مَقادِيرَ مُتَفاوِتَةٍ كُلُّ مَن فَرَّطَ في الِاهْتِداءِ بِشَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَإنَّهُ ما شاءَ أنْ يَسْتَقِيمَ لِما فَرَّطَ مِنهُ في أحْوالٍ أوْ أزْمانٍ أوْ أمْكِنَةٍ.
صفحة ١٦٧
وفِي هَذِهِ الآيَةِ إشارَةٌ بَيِّنَةٌ عَلى أنَّ مِنَ الخَطَأِ أنْ يُوزَنَ حالُ الدِّينِ الإسْلامِيِّ بِمِيزانِ أحْوالِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ أوْ مُعْظَمِهِمْ كَما يَفْعَلُهُ بَعْضُ أهْلِ الأنْظارِ القاصِرَةِ مِنَ الغَرْبِيِّينَ وغَيْرِهِمْ إذْ يَجْعَلُونَ وُجْهَةَ نَظَرِهِمُ التَّأمُّلَ في حالَةِ الأُمَمِ الإسْلامِيَّةِ ويَسْتَخْلِصُونَ مِنِ اسْتِقْرائِها أحْكامًا كُلِّيَّةً يَجْعَلُونَها قَضايا لِفَلْسَفَتِهِمْ في كُنْهِ الدِّيانَةِ الإسْلامِيَّةِ.وهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ في إثْباتِ المَشِيئَةِ لِلْإنْسانِ العاقِلِ فِيما يَأْتِي ويَدَعُ، وأنَّهُ لا عُذْرَ لَهُ إذا قالَ: هَذا أمْرٌ قُدِّرَ، وهَذا مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَإنَّ تِلْكَ كَلِماتٌ يَضَعُونَها في غَيْرِ مَحالِّها، وبِذَلِكَ يَبْطُلُ قَوْلُ الجَبْرِيَّةِ، ويَثْبُتُ لِلْعَبْدِ كَسْبٌ أوْ قُدْرَةٌ عَلى اخْتِلافِ التَّعْبِيرِ.