﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾

يَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا أوِ اعْتِراضًا في آخِرِ الكَلامِ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ حالًا، والمَقْصُودُ التَّكْمِيلُ والِاحْتِراسُ في مَعْنى لِمَن شاءَ مِنكم أنْ يَسْتَقِيمَ، أيْ: ولِمَن شاءَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ العالَمِينَ، وتَقَدَّمَ في آخِرِ سُورَةِ الإنْسانِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ [المزمل: ١٩] ﴿فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [المزمل: ١٩] ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان: ٣٠] .

والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ وصْفُ اللَّهِ تَعالى بِـ رَبُّ العالَمِينَ وهو مُفِيدٌ التَّعْلِيلَ لِارْتِباطِ مَشِيئَةِ مَن شاءَ الِاسْتِقامَةَ مِنَ العالِمَيْنِ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ؛ ذَلِكَ لِأنَّهُ رَبُّ العالَمِينَ فَهو الخالِقُ فِيهِمْ دَواعِيَ المَشِيئَةِ وأسْبابَ حُصُولِها المُتَسَلْسِلَةَ وهو الَّذِي أرْشَدَهم لِلِاسْتِقامَةِ عَلى الحَقِّ، وبِهَذا الوَصْفِ ظَهَرَ مَزِيدُ الِاتِّصالِ بَيْنَ مَشِيئَةِ النّاسِ الِاسْتِقامَةَ بِالقُرْآنِ وبَيْنَ كَوْنِ القُرْآنِ ذِكْرًا لِلْعالَمِينَ.

وأمّا آيَةُ سُورَةِ الإنْسانِ فَقَدْ ذُيِّلَتْ بِـ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان: ٣٠] أيْ: فَهو بِعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ يَنُوطُ مَشِيئَتَهُ لَهم الِاسْتِقامَةَ بِمَواضِعِ صَلاحِيَتِهِمْ لَها فَيُفِيدُ أنَّ مَن لَمْ يَشَأْ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا قَدْ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعالى مِن مَشِيئَتِهِ الخَيْرَ بِعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ كِنايَةً عَنْ شَقائِهِمْ.

صفحة ١٦٨

وما نافِيَةٌ، والِاسْتِثْناءُ مِن مَصادِرَ مَحْذُوفَةٍ دَلَّ عَلَيْها قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠] وتَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ في سُورَةِ الإنْسانِ.

وفِي هَذِهِ الآيَةِ وآيَةِ سُورَةِ الإنْسانِ إفْصاحٌ عَنْ شَرَفِ أهْلِ الِاسْتِقامَةِ بِكَوْنِهِمْ بِمَحَلِّ العِنايَةِ مِن رَبِّهِمْ إذا شاءَ لَهم الِاسْتِقامَةَ وهَيَّأهم لَها، وهَذِهِ العِنايَةُ بِمَعْنًى عَظِيمٍ تَحَيَّرَ أهْلُ العِلْمِ في الكَشْفِ عَنْهُ، فَمِنهم مَن تَطَوَّحَ بِهِ إلى الجَبْرِ ومِنهم مَنِ ارْتَمى في وهْدَةِ القَدَرِ، ومِنهم مَنِ اعْتَدَلَ فَجَزَمَ بِقُوَّةٍ لِلْعِبادِ حادِثَةٍ يَكُونُ بِها اخْتِيارُهم لِسُلُوكِ الخَيْرِ أوِ الشَّرِّ فَسَمّاها بَعْضُ هَؤُلاءِ قُدْرَةً حادِثَةً وبَعْضُهم سَمّاها كَسْبًا، وحَمَلُوا ما خالَفَ ذَلِكَ مِن ظَواهِرِ الآياتِ والأخْبارِ عَلى مَقامِ تَعْلِيمِ اللَّهِ عِبادَهُ التَّأدُّبَ مَعَ جَلالِهِ.

وهَذا أقْصى ما بَلَغَتْ إلَيْهِ الأفْهامُ القَوِيمَةُ في مَجامِلِ مُتَعارِضِ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ والأحادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، ومِن ورائِهِ سِلْكٌ دَقِيقٌ يَشُدُّهُ قَدْ تَقْصُرُ عَنْهُ الأفْهامُ.

* * *

صفحة ١٦٩

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الِانْفِطارِسُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ (سُورَةَ الِانْفِطارِ) في المَصاحِفِ ومُعْظَمِ التَّفاسِيرِ.

وفِي حَدِيثٍ رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ كَأنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ ﴿إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١]، و﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١]، و﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ [الإنشقاق»: ١] . قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وقَدْ عَرَّفْتُ ما فِيهِ مِنَ الِاحْتِمالِ في أوَّلِ سُورَةِ التَّكْوِيرِ.

وسُمِّيَتْ في بَعْضِ التَّفاسِيرِ (سُورَةُ ﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١]) وبِهَذا الِاسْمِ عَنْوَنَها البُخارِيُّ في كِتابِ التَّفْسِيرِ مِن صَحِيحِهِ. ولَمْ يَعُدَّها صاحِبُ الإتْقانِ مَعَ السُّورِ ذاتِ أكْثَرَ مِنِ اسْمٍ وهو الِانْفِطارُ.

ووَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ جُمْلَةِ (﴿إذا السَّماءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الإنفطار: ١]) في أوَّلِها فَعُرِفَتْ بِها.

وسُمِّيَتْ في قَلِيلٍ مِنَ التَّفاسِيرِ (سُورَةُ انْفَطَرَتْ)، وقِيلَ: تُسَمّى (سُورَةُ المُنْفَطِرَةِ) أيِ: السَّماءِ المُنْفَطِرَةِ.

وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.

وهِيَ مَعْدُودَةٌ الثّانِيَةَ والثَمانِينَ في عِدادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النّازِعاتِ وقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِقاقِ.

وعَدَدُ آيِها تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً.

* * *

واشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلى: إثْباتِ البَعْثِ، وذِكْرِ أهْوالٍ تَتَقَدَّمُهُ.

صفحة ١٧٠

وإيقاظِ المُشْرِكِينَ لِلنَّظَرِ في الأُمُورِ الَّتِي صَرَفَتْهم عَنِ الِاعْتِرافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى وعَنِ النَّظَرِ في دَلائِلِ وُقُوعِ البَعْثِ والجَزاءِ.

والأعْلامِ بِأنَّ الأعْمالَ مُحْصاةٌ، وبَيانِ جَزاءِ الأعْمالِ خَيْرِها وشَرِّها.

وإنْذارِ النّاسِ بِأنْ لا يَحْسَبُوا شَيْئًا يُنْجِيهِمْ مِن جَزاءِ اللَّهِ إيّاهم عَلى سَيِّئِ أعْمالِهِمْ.