Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
﴿ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ افْتِتاحُ السُّورَةِ بِاسْمِ الوَيْلِ مُؤْذِنٌ بِأنَّها تَشْتَمِلُ عَلى وعِيدٍ بِلَفْظِ ويْلٍ مِن بَراعَةِ الِاسْتِهْلالِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١] . وقَدْ أخَذَ أبُو بَكْرِ بْنُ الخازِنِ مِن عَكْسِهِ قَوْلَهُ في طالِعِ قَصِيدَةٍ بِتَهْنِئَتِهِ بِمَوْلُودٍ:
بُشْرى فَقَدْ أنْجَزَ الإقْبالُ ما وعَدا
والتَّطْفِيفُ: النَّقْصُ عَنْ حَقِّ المِقْدارِ في المَوْزُونِ أوِ المَكِيلِ، وهو مَصْدَرُ طَفَّفَ إذْ بَلَغَ الطُّفافَةَ. والطُّفافُ بِضَمِّ الطّاءِ وتَخْفِيفِ الفاءِ ما قَصُرَ عَنْ مَلْءِ الإناءِ مِن شَرابٍ أوْ طَعامٍ، ويُقالُ: الطَفُّ بِفَتْحِ الطّاءِ دُونَ هاءِ تَأْنِيثٍ، وتُطْلَقُ هَذِهِ الثَّلاثَةُ عَلى ما تَجاوَزَ حَرْفَ المِكْيالِ مِمّا يُمْلَأُ بِهِ، وإنَّما يَكُونُ شَيْئًا قَلِيلًا زائِدًا عَلى ما مَلَأ الإناءَ، فَمِن ثَمَّ سُمِّيَتْ طُفافَةً، أيْ: قَلِيلُ زِيادَةٍ.ولا نَعْرِفُ لَهُ فِعْلًا مُجَرَّدًا إذْ لَمْ يُنْقَلْ إلّا بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ، وفِعْلُهُ: طَفَّفَ، كَأنَّهم راعَوْا في صِيغَةِ التَّفْعِيلِ مَعْنى التَّكَلُّفِ والمُحاوَلَةِ؛ لِأنَّ المُطَفِّفَ يُحاوِلُ أنْ يَنْقُصَ الكَيْلَ دُونَ أنْ يَشْعُرَ بِهِ المُكْتالُ، ويُقابِلُهُ الوَفاءُ.
و(ويْلٌ) كَلِمَةُ دُعاءٍ بِسُوءِ الحالِ، وهي في القُرْآنِ وعِيدٌ بِالعِقابِ وتَقْرِيعٌ، والوَيْلُ: اسْمٌ ولَيْسَ بِمَصْدَرٍ لِعَدَمِ وُجُودِ فِعْلٍ لَهُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وهُوَ مِن عَمَلِ المُتَصَدِّينَ لِلتَّجْرِ يَغْتَنِمُونَ حاجَةَ النّاسِ إلى الِابْتِياعِ مِنهم وإلى البَيْعِ لَهم؛ لِأنَّ التُّجّارَ هم أصْحابُ رُءُوسِ الأمْوالِ وبِيَدِهِمُ المَكايِيلُ والمَوازِينُ، وكانَ
صفحة ١٩٠
أهْلُ مَكَّةَ تُجّارًا، وكانَ في يَثْرِبَ تُجارٌ أيْضًا وفِيهِمُ اليَهُودُ مِثْلُ: أبِي رافِعٍ وكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ تاجِرَيْ أهْلِ الحِجازِ، وكانَتْ تِجارَتُهم في التَّمْرِ والحُبُوبِ، وكانَ أهْلُ مَكَّةَ يَتَعامَلُونَ بِالوَزْنِ؛ لِأنَّهم يَتَّجِرُونَ في أصْنافِ السِّلَعِ ويَزِنُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ وأهْلُ يَثْرِبَ يَتَعامَلُونَ بِالكَيْلِ.والآيَةُ تُؤْذِنُ بِأنَّ التَّطْفِيفَ كانَ مُتَفَشِّيًا في المَدِينَةِ في أوَّلِ مُدَّةِ الهِجْرَةِ، واخْتِلاطُ المُسْلِمِينَ بِالمُنافِقِينَ يُسَبِّبُ ذَلِكَ.
واجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ أهْلَ يَثْرِبَ كانُوا مِن أخْبَثِ النّاسِ كَيْلًا فَقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ فَأحْسَنُوا الكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. رَواهُ ابْنُ ماجَهْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
وكانَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالتَّطْفِيفِ في المَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنّى أبا جُهَيْنَةَ واسْمُهُ عَمْرٌو، كانَ لَهُ صاعانِ يَأْخُذُ بِأحَدِهِما ويُعْطِي بِالآخَرِ.
فَجُمْلَةُ ﴿الَّذِينَ إذا اكْتالُوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ إدْماجٌ، مَسُوقَةٌ لِكَشْفِ عادَةٍ ذَمِيمَةٍ فِيهِمْ هي الحِرْصُ عَلى تَوْفِيرِ مِقْدارِ ما يَبْتاعُونَهُ بِدُونِ حَقٍّ لَهم فِيهِ، والمَقْصُودُ الجُمْلَةُ المَعْطُوفَةُ عَلَيْها وهي جُمْلَةُ ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ فَهم مَذْمُومُونَ بِمَجْمُوعِ ضِمْنِ الجُمْلَتَيْنِ.
والِاكْتِيالُ: افْتِعالٌ مِنَ الكَيْلِ، وهو يُسْتَعْمَلُ في تَسَلُّمِ ما يُكالُ عَلى طَرِيقَةِ اسْتِعْمالِ أفْعالِ: ابْتاعَ، وارْتَهَنَ، واشْتَرى، في مَعْنى أخْذِ المَبِيعِ، وأخْذِ الشَّيْءِ المَرْهُونِ وأخْذِ السِّلْعَةِ المُشْتَراةِ، فَهو مُطاوِعُ كالَ، كَما أنَّ ابْتاعَ مُطاوِعُ باعَ، وارْتَهَنَ مُطاوِعُ رَهَنَ، واشْتَرى مُطاوِعُ شَرى، قالَ تَعالى: ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا أخانا نَكْتَلْ﴾ [يوسف: ٦٣] أيْ: نَأْخُذْ طَعامًا مَكِيلًا، ثُمَّ تُنُوسِيَ مِنهُ مَعْنى المُطاوَعَةِ.
وحَقُّ فِعْلِ اكْتالَ أنْ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ هو المَكِيلُ، فَيُقالُ: اكْتالَ فُلانٌ طَعامًا مِثْلُ ابْتاعَ، ويُعَدّى إلى ما زادَ عَلى المَفْعُولِ بِحَرْفِ الجَرِّ مِثْلَ مِنَ الِابْتِدائِيَّةِ فَيُقالُ: اكْتالَ طَعامًا مِن فُلانٍ، وإنَّما عُدِّيَ في الآيَةِ بِحَرْفِ عَلى لِتَضْمِينِ اكْتالُوا مَعْنى التَّحامُلِ، أيْ: إلْقاءُ المَشَقَّةِ عَلى الغَيْرِ وظُلْمُهُ، ذَلِكَ أنَّ شَأْنَ التّاجِرِ وخُلُقَهُ أنْ يَتَطَلَّبَ تَوْفِيرَ الرِّبْحِ وأنَّهُ مَظِنَّةُ السَّعَةِ ووُجُودُ المالِ بِيَدِهِ فَهو
صفحة ١٩١
يَسْتَعْمِلُ حاجَةَ مَن يَأْتِيهِ بِالسِّلْعَةِ، وعَنِ الفَرّاءِ مِن وعَلى يَتَعاقَبانِ في هَذا المَوْضِعِ؛ لِأنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ فَإذا قالَ اكْتَلْتُ عَلَيْكَ، فَكَأنَّهُ قالَ: أخَذْتُ ما عَلَيْكَ، وإذا قالَ: اكْتَلْتُ مِنكَ فَكَقَوْلِهِ: اسْتَوْفَيْتُ مِنكَ.فَمَعْنى ﴿اكْتالُوا عَلى النّاسِ﴾ اشْتَرَوْا مِنَ النّاسِ ما يُباعُ بِالكَيْلِ، فَحَذَفَ المَفْعُولَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ في فِعْلِ اكْتالُوا أيِ: اكْتالُوا مَكِيلًا، ومَعْنى كالُوهم باعُوا لِلنّاسِ مَكِيلًا فَحَذَفَ المَفْعُولَ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ.
فالواوانِ مِن ﴿كالُوهم أوْ وزَنُوهُمْ﴾ عائِدانِ إلى اسْمِ المَوْصُولِ والضَّمِيرانِ المُنْفَصِلانِ عائِدانِ إلى النّاسِ.
وتَعْدِيَةُ كالُوا، ووَزَنُوا إلى الضَّمِيرَيْنِ عَلى حَذْفِ لامِ الجَرِّ. وأصْلُهُ: كالُوا لَهم ووَزَنُوا لَهم، كَما حُذِفَتِ اللّامُ في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿وإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٣] أيْ: تَسْتَرْضِعُوا لِأوْلادِكم، وقَوْلِهِمْ في المَثَلِ: ”الحَرِيصُ يَصِيدُكَ لا الجَوادُ“ أيِ: الحَرِيصُ يَصِيدُ لَكَ. وهو حَذْفٌ كَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: نَصَحْتُكَ وشَكَرْتُكَ، أصْلُهُما نَصَحْتُ لَكَ وشَكَرْتُ لَكَ؛ لِأنَّ فِعْلَ كالَ وفِعْلَ وزَنَ لا يَتَعَدَّيانِ بِأنْفُسِهِما إلّا إلى الشَّيْءِ المَكِيلِ أوِ المَوْزُونِ يُقالُ: كالَ لَهُ طَعامًا ووَزَنَ لَهُ فِضَّةً، ولِكَثْرَةِ دَوَرانِهِ عَلى اللِّسانِ خَفَّفُوهُ فَقالُوا: كالَهُ ووَزَنَهُ طَعامًا عَلى الحَذْفِ والإيصالِ.
قالَ الفَرّاءُ: هو مِن كَلامِ أهْلِ الحِجازِ ومَن جاوَرَهم مِن قَيْسٍ يَقُولُونَ: يَكِيلُنا، يَعْنِي: ويَقُولُونَ أيْضًا: كالَ لَهُ ووَزَنَ لَهُ. وهو يُرِيدُ أنَّ غَيْرَ أهْلِ الحِجازِ وقَيْسٍ لا يَقُولُونَ: كالَ لَهُ ووَزَنَ لَهُ، ولا يَقُولُونَ إلّا: كالَهُ ووَزَنَهُ، فَيَكُونُ فِعْلُ كالَ عِنْدَهم مِثْلُ باعَ.
والِاقْتِصارُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إذا اكْتالُوا﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ: وإذا اتَّزَنُوا كَما قالَ: ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهُمْ﴾ اكْتِفاءٌ بِذِكْرِ الوَزْنِ في الثّانِي تَجَنُّبًا لِفِعْلِ اتَّزَنُوا لِقِلَّةِ دَوَرانِهِ في الكَلامِ فَكانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الثِّقَلِ. ولِنُكْتَةٍ أُخْرى وهي أنَّ المُطَفِّفِينَ هم أهْلُ التَّجْرِ وهم يَأْخُذُونَ السِّلَعَ مِنَ الجالِبِينَ في الغالِبِ بِالكَيْلِ؛ لِأنَّ الجالِبِينَ يَجْلِبُونَ التَّمْرَ والحِنْطَةَ ونَحْوَهُما مِمّا يُكالُ ويَدْفَعُونَ لَهُمُ الأثْمانَ عَيْنًا بِما يُوزَنُ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ مَسْكُوكَيْنِ أوْ غَيْرَ مَسْكُوكَيْنِ، فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ في ابْتِياعِهِمْ مِنَ الجالِبِينَ عَلى
صفحة ١٩٢
الِاكْتِيالِ نَظَرًا إلى الغالِبِ، وذَكَرَ في بَيْعِهِمْ لِلْمُبْتاعِينَ الكَيْلَ والوَزْنَ لِأنَّهم يَبِيعُونَ الأشْياءَ كَيْلًا ويَقْبِضُونَ الأثْمانَ وزْنًا، وفي هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ التَّطْفِيفَ مِن عَمَلِ تُجّارِهِمْ.و(يَسْتَوْفُونَ) جَوابُ إذا والِاسْتِيفاءُ أخْذُ الشَّيْءِ وافِيًا، فالسِّينُ والتّاءُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ في الفِعْلِ مِثْلَ: اسْتَجابَ.
ومَعْنى يُخْسِرُونَ يُوقِعُونَ الَّذِينَ كالُوا لَهم أوْ وزَنُوا لَهم في الخَسارَةِ، والخَسارَةُ النَّقْصُ مِنَ المالِ في التَّبايُعِ.
وهَذِهِ الآيَةُ تَحْذِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّساهُلِ في التَّطْفِيفِ إذْ وجَدُوهُ فاشِيًا في المَدِينَةِ في أوَّلِ هِجْرَتِهِمْ وذَمٌّ لِلْمُشْرِكِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ وأهْلِ مَكَّةَ.
وحَسْبُهم أنَّ التَّطْفِيفَ يَجْمَعُ ظُلْمًا واخْتِلاسًا ولُؤْمًا، والعَرَبُ كانُوا يَتَعَيَّرُونَ بِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الخِلالِ مُتَفَرِّقَةً ويَتَبَرَّئُونَ مِنها، ثُمَّ يَأْتُونَها مُجْتَمِعَةً، وناهِيكَ بِذَلِكَ أفَنًا.