﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ﴾ ﴿فِرْعَوْنَ وثَمُودَ﴾

مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: ١٢] فالخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ لِلِاسْتِدْلالِ عَلى كَوْنِ بَطْشِهِ تَعالى شَدِيدًا بِبَطْشَيْنِ بَطَشَهُما بِفِرْعَوْنَ وثَمُودَ بَعْدَ أنْ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ هو يُبْدِئُ ويُعِيدُ﴾ [البروج: ١٣] فَذَلِكَ تَعْلِيلٌ، وهَذا تَمْثِيلٌ ودَلِيلٌ.

والِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ في إرادَةٍ لِتَهْوِيلِ حَدِيثِ الجُنُودِ بِأنَّهُ يُسْألُ عَنْ عِلْمِهِ. وفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأنَّهم قَدْ يَحِلُّ بِهِمْ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ ﴿وأنَّهُ أهْلَكَ عادًا الأُولى وثَمُودَ فَما أبْقى﴾ [النجم: ٥٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى﴾ [النجم: ٥٥] .

والخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُرادُ مَوْعِظَتُهُ مِنَ المُشْرِكِينَ كِنايَةً عَنِ التَّذْكِيرِ بِخَبَرِهِمْ؛ لِأنَّ حالَ المُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمُ الرّاكِبِينَ رُءُوسَهم في العِنادِ، كَحالِ مَن لا يَعْلَمُ خَبَرَهم فَيُسْألُ هَلْ بَلَغَهُ خَبَرُهم أوْ لا، أوْ خِطابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ تَعْجِيبًا مِن حالِ المُشْرِكِينَ في إعْراضِهِمْ عَنِ الِاتِّعاظِ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلًا في التَّعْجِيبِ.

والإتْيانُ: مُسْتَعارٌ لِبُلُوغِ الخَبَرِ، والحَدِيثُ: الخَبَرُ. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ النّازِعاتِ.

والجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ وهو العَسْكَرُ المُتَجَمِّعُ لِلْقِتالِ، وأُطْلِقَ عَلى الأُمَمِ الَّتِي

صفحة ٢٥١

تَجَمَّعَتْ لِمُقاوَمَةِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزابِ﴾ [ص: ١١] واسْتُعِيرَ الجُنْدُ لِلْمَلَأِ بِقَوْلِهِ: ﴿وانْطَلَقَ المَلَأُ مِنهُمْ﴾ [ص: ٦] ثُمَّ رُشِّحَتِ الِاسْتِعارَةُ بِاسْتِعارَةِ مَهْزُومٍ وهو المَغْلُوبُ في الحَرْبِ فاسْتُعِيرَ لِلْمُهْلَكِ المُسْتَأْصَلِ مِن دُونِ حَرْبٍ.

وأُبْدِلَ فِرْعَوْنُ وثَمُودُ مِنَ الجُنُودِ بَدَلًا مُطابِقًا لِأنَّهُ أُرِيدَ العِبْرَةُ بِهَؤُلاءِ.

وفِرْعَوْنُ: اسْمٌ لِمَلِكِ مِصْرَ مِنِ القِبْطِ وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ﴾ [الأعراف: ١٠٣] في سُورَةِ الأعْرافِ.

والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ لِأنَّ فِرْعَوْنَ لَيْسَ بِجُنْدٍ ولَكِنَّهُ مُضافٌ إلَيْهِ الجُنْدُ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وآذَوْهُ، فَحُذِفَ المُضافُ لِنُكْتَةِ المُزاوَجَةِ بَيْنَ اسْمَيْنِ عَلَمَيْنِ مُفْرِدَيْنِ في الإبْدالِ مِنَ الجُنُودِ.

وضُرِبَ المَثَلُ بِفِرْعَوْنَ لِأبِي جَهْلٍ وكانَ يُلَقَّبُ عِنْدَ المُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وضُرِبَ المَثَلُ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْمِ فِرْعَوْنَ لِأنَّهم أكْبَرُ أُمَّةٍ تَألَّبَتْ عَلى رَسُولٍ مِن رُسُلِ اللَّهِ بَعَثَهُ اللَّهُ لِإعْتاقِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن ذُلِّ العُبُودِيَّةِ لِفِرْعَوْنَ، وناوَوْهُ لِأنَّهُ دَعا إلى عِبادَةِ الرَّبِّ الحَقِّ فَغاظَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ الزّاعِمَ أنَّهُ إلَهُ القِبْطِ وابْنُ آلِهَتِهِمْ.

وتَخْصِيصُ ثَمُودَ بِالذِّكْرِ مِن بَقِيَّةِ الأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنَ العَرَبِ مِثْلَ عادٍ وقَوْمِ تُبَّعٍ، ومِن غَيْرِهِمْ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وقَوْمِ شُعَيْبٍ، لِما اقْتَضَتْهُ الفاصِلَةُ السّابِعَةُ الجارِيَةُ عَلى حَرْفِ الدّالِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: ١٢] فَإنَّ ذَلِكَ لَمّا اسْتَقامَتْ بِهِ الفاصِلَةُ ولَمْ يَكُنْ في ذِكْرِهِ تَكَلُّفٌ كانَ مِن مَحاسِنِ نَظْمِ الكَلامِ إيثارُهُ.

وتَقَدَّمَ ذِكْرُ ثَمُودَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا﴾ [الأعراف: ٧٣] في سُورَةِ الأعْرافِ. وهو اسْمٌ عَرَبِيٌّ، ولَكِنْ يُطْلَقُ عَلى القَبِيلَةِ الَّتِي يَنْتَهِي نَسَبُها إلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِتَأْوِيلِ القَبِيلَةِ كَما هُنا.