صفحة ٣٣٥

(﴿كَلّا﴾) .

زَجْرٌ ورَدْعٌ عَنِ الأعْمالِ المَعْدُودَةِ قَبْلَهُ، وهي عَدَمُ إكْرامِهِمُ اليَتِيمَ وعَدَمُ حَضِّهِمْ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ، وأكْلِهِمُ التُّراثَ الَّذِي هو مالُ غَيْرِ آكِلِهِ، وعَنْ حُبِّ المالِ حُبًّا جَمًّا.

* * *

( ﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ ﴿يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾ ﴿ولا يُوَثِقُ وثاقَهُ أحَدٌ﴾ .

اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ مِن تَهْدِيدِهِمْ بِعَذابِ الدُّنْيا الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ﴾ [الفجر: ٦] الآياتِ، إلى الوَعِيدِ بِعَذابِ الآخِرَةِ، فَإنِ اسْتَخَفُّوا بِما حَلَّ بِالأُمَمِ قَبْلَهم أوْ أُمْهِلُوا فَأُخِّرَ عَنْهُمُ العَذابُ في الدُّنْيا، فَإنَّ عَذابًا لا مَحِيصَ لَهم عَنْهُ يَنْتَظِرُهم يَوْمَ القِيامَةِ حِينَ يَتَذَكَّرُونَ قَسْرًا فَلا يَنْفَعُهُمُ التَّذَكُّرُ، ويَنْدَمُونَ ولاتَ ساعَةَ مَندَمٍ.

فَحاصِلُ الكَلامِ السّابِقِ أنَّ الإنْسانَ الكافِرَ مَغْرُورٌ يَنُوطُ الحَوادِثَ بِغَيْرِ أسْبابِها، ويَتَوَهَّمُها عَلى غَيْرِ ما بِها ولا يُصْغِي إلى دَعْوَةِ الرُّسُلِ فَيَسْتَمِرُّ طُولَ حَياتِهِ في عَمايَةٍ، وقَدْ زُجِرُوا عَنْ ذَلِكَ زَجْرًا مُؤَكَّدًا.

وأُتْبِعَ زَجْرُهم إنْذارًا بِأنَّهم يَحِينُ لَهم يَوْمٌ يُفِيقُونَ فِيهِ مِن غَفْلَتِهِمْ حِينَ لا تَنْفَعُ الإفاقَةُ.

والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ هو قَوْلُهُ: (﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾) وقَوْلُهُ: (﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: ٢٧]) وأمّا ما سَبَقَ مِن قَوْلِهِ: (﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ﴾) إلى قَوْلِهِ: (﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾) فَهو تَوْطِئَةٌ وتَشْوِيقٌ لِسَماعِ ما يَجِيءُ بَعْدَهُ وتَهْوِيلٌ لِشَأْنِ ذَلِكَ اليَوْمِ، وهو الوَقْتُ الَّذِي عُرِّفَ بِإضافَةِ جُمْلَةِ (دُكَّتِ الأرْضُ) وما بَعْدَها مِنَ الجُمَلِ، وقَدْ عُرِّفَ بِأشْراطِ حُلُولِهِ وبِما يَقَعُ فِيهِ مِن هَوْلِ العِقابِ.

صفحة ٣٣٦

والدَّكُّ: الحَطْمُ والكَسْرُ.

والمُرادُ بِالأرْضِ الكُرَةُ الَّتِي عَلَيْها النّاسُ، ودَكُّها حَطْمُها وتَفَرُّقُ أجْزائِها النّاشِئُ عَنْ فَسادِ الكَوْنِ الكائِنَةِ عَلَيْهِ الآنَ، وذَلِكَ بِما يُحْدِثُهُ اللَّهُ فِيها مِن زَلازِلَ كَما في قَوْلِهِ: (﴿إذا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزالَها﴾ [الزلزلة: ١]) الآيَةَ.

و(دَكًّا دَكًّا) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أوَّلُهُما مَنصُوبًا عَلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ المُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ. ولَعَلَّ تَأْكِيدَهُ هُنا؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ أوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيها دَكُّ الجِبالِ، وإذْ قَدْ كانَ أمْرًا خارِقًا لِلْعادَةِ كانَ المَقامُ مُقْتَضِيًا تَحْقِيقَ وُقُوعِهِ حَقِيقَةً دُونَ مَجازٍ ولا مُبالَغَةٍ، فَأُكِّدَ مَرَّتَيْنِ هُنا ولَمْ يُؤَكَّدْ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ: (﴿فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤]) في سُورَةِ الحاقَّةِ فَـ (دَكًّا) الأوَّلُ مَقْصُودٌ بِهِ رَفْعُ احْتِمالِ المَجازِ عَنْ (دُكَّتا) الدَّكُّ أيْ: هو دَكٌّ حَقِيقِيٌّ، و(دَكًّا) الثّانِي مَنصُوبًا عَلى التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِـ (دَكًّا) الأوَّلِ لِزِيادَةِ تَحْقِيقِ إرادَةِ مَدْلُولِ الدَّكِّ الحَقِيقِيِّ؛ لِأنَّ دَكَّ الأرْضِ العَظِيمَةِ أمْرٌ عَجِيبٌ، فَلِغَرابَتِهِ اقْتَضى إثْباتُهُ زِيادَةَ تَحْقِيقٍ لِمَعْناهُ الحَقِيقِيِّ.

وعَلى هَذا دَرَجَ الرَّضِيُّ، قالَ: ”ويُسْتَثْنى مِن مَنعِ تَأْكِيدِ النَّكِراتِ (أيْ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا) شَيْءٌ واحِدٌ وهو جَوازُ تَأْكِيدِها إذا كانَتِ النَّكِرَةُ حُكْمًا لا مَحْكُومًا عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ ﷺ: «“ فَنِكاحُها باطِلٌ باطِلٌ باطِلٌ ”» . ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾) فَهو مِثْلُ: ضَرَبَ ضَرَبَ زَيْدٌ“ اهـ.

وهَذا يُلائِمُ ما في وصْفِ دَكِّ الأرْضِ في سُورَةِ الحاقَّةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: (﴿وحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤]) ودَفْعِ المُنافاةِ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ ما في سُورَةِ الحاقَّةِ.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ المَصْدَرَيْنِ في تَأْوِيلِ مُفْرَدٍ مَنصُوبٍ عَلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ المُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ. وتَأْوِيلُهُ أنَّهُ دَكٌّ يَعْقُبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَما تَقُولُ: قَرَأْتُ الكِتابَ بابًا بابًا، وبِهَذا المَعْنى فَسَّرَ صاحِبُ الكَشّافِ وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ مِن بَعْدِهِ، وبَعْضُ المُفَسِّرِينَ سَكَتَ عَنْ بَيانِهِ، قالَ الطِّيبِيُّ: ”قالَ ابْنُ الحاجِبِ: لَعَلَّهُ قالَهُ في أمالِيهِ عَلى المُقَدِّمَةِ الكافِيَةِ - وفي نُسْخَتِي مِنها نَقْصٌ ولا أعْرِفُ غَيْرَها بِتُونُسَ ولا يُوجَدُ هَذا الكَلامُ في إيضاحِ المُفَصَّلِ -: بَيَّنْتُ لَهُ حِسابَهَ بابًا بابًا، أيْ: مُفَصَّلًا. والعَرَبُ تُكَرِّرُ

صفحة ٣٣٧

الشَّيْءَ مَرَّتَيْنِ فَتَسْتَوْعِبُ تَفْصِيلَ جِنْسِهِ بِاعْتِبارِ المَعْنى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ المُكَرَّرِ، فَإذا قُلْتَ: بَيَّنْتُ لَهُ الكِتابَ بابًا بابًا، فَمَعْناهُ: بَيَّنْتُهُ لَهُ مُفَصَّلًا بِاعْتِبارِ أبْوابِهِ اهـ.

قُلْتُ: هَذا الوَجْهُ أوْفى بِحَقِّ البَلاغَةِ، فَإنَّهُ مَعْنًى زائِدٌ عَلى التَّوْكِيدِ، والتَّوْكِيدُ حاصِلٌ بِالمَصْدَرِ الأوَّلِ.

وفِي تَفْسِيرِ الفَخْرِ: وقِيلَ: فَبُسِطَتا بَسْطَةً واحِدَةً فَصارَتا أرْضًا لا تَرى فِيها أمْتًا، وتَبِعَهُ البَيْضاوِيُّ يَعْنِي أنَّ الدَّكَّ كِنايَةٌ عَنِ التَّسْوِيَةِ؛ لِأنَّ التَّسْوِيَةَ مِن لَوازِمِ الدَّكِّ، أيْ: صارَتِ الجِبالُ مَعَ الأرْضِ مُسْتَوِياتٍ لَمْ يَبْقَ فِيها نُتُوءٌ.

ولَكَ أنْ تَجْعَلَ صِفَةَ (واحِدَةً) مَجازًا في تَفَرُّدِ الدَّكَّةِ بِالشِّدَّةِ الَّتِي لا ثانِيَ مِثْلَها، أيْ: دَكَّةٌ لا نَظِيرَ لَها بَيْنَ الدَّكّاتِ في الشِّدَّةِ مِن بابِ قَوْلِهِمْ: هو وحِيدُ قَوْمِهِ، ووَحِيدُ دَهْرِهِ، فَلا يُعارِضُ قَوْلَهُ: (دَكًّا دَكًّا) بِهَذا التَّفْسِيرِ. وفِيهِ تَكَلُّفٌ إذْ لَمْ يُسْمَعْ بِصِيغَةِ فاعِلٍ فَلَمْ يُسْمَعْ: هو واحِدُ قَوْمِهِ.

وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: (﴿والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾) فَـ (صَفًّا) الأوَّلُ حالٌ مِنَ (المَلَكُ) .

و(صَفًّا) الثّانِي لَمْ يَخْتَلِفِ المُفَسِّرُونَ في أنَّهُ مِنَ التَّكْرِيرِ المُرادِ بِهِ التَّرْتِيبُ والتَّصْنِيفُ، أيْ: صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، أوْ خَلْفَ صَفٍّ، أوْ صِنْفًا مِنَ المَلائِكَةِ دُونَ صِنْفٍ، قِيلَ: مَلائِكَةُ كُلِّ سَماءٍ يَكُونُونَ صَفًّا حَوْلَ الأرْضِ عَلى حِدَةٍ.

قالَ الرَّضِيُّ:“ وأمّا تَكْرِيرُ المُنَكَّرِ في قَوْلِكَ: قَرَأْتُ الكِتابَ سُورَةً سُورَةً، وقَوْلِهِ تَعالى: (﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾) فَلَيْسَ في الحَقِيقَةِ تَأْكِيدًا، إذْ لَيْسَ الثّانِي لِتَقْرِيرِ ما سَبَقَ، بَلْ هو لِتَكْرِيرِ المَعْنى؛ لِأنَّ الثّانِيَ غَيْرُ الأوَّلِ مَعْنًى. والمَعْنى: جَمِيعُ السُّوَرِ وصُفُوفًا مُخْتَلِفَةً ”اهـ. وشَذَّ مِنَ المُفَسِّرِينَ مَن سَكْتَ عَنْهُ، ولا يَحْتَمِلُ حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُؤَكِّدٌ لِعامِلِهِ إذْ لا مَعْنى لِلتَّأْكِيدِ.

وإسْنادُ المَجِيءِ إلى اللَّهِ إمّا مَجازٌ عَقْلِيٌّ، أيْ: جاءَ قَضاؤُهُ، وإمّا اسْتِعارَةٌ بِتَشْبِيهِ ابْتِداءِ حِسابِهِ بِالمَجِيءِ.

صفحة ٣٣٨

وأمّا إسْنادُهُ إلى المَلَكِ فَإمّا حَقِيقَةٌ أوْ عَلى مَعْنى الحُضُورِ، وأيًّا ما كانَ فاسْتِعْمالُ (جاءَ) مِنِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في مَجازِهِ وحَقِيقَتِهِ، أوْ في مَجازَيْهِ.

والمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ وتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الجِنْسِ فَيُرادِفُهُ الِاسْتِغْراقُ، أيْ: والمَلائِكَةُ.

والصَّفُّ: مَصْدَرُ صَفَّ الأشْياءَ إذا جَعَلَ الواحِدَ حَذْوَ الآخَرِ، ويُطْلَقُ عَلى الأشْياءِ المَصْفُوفَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف: ٤]) وقَوْلُهُ: (﴿فَأجْمِعُوا كَيْدَكم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ [طه: ٦٤]) في سُورَةِ طه.

واسْتِعْمالُ (﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾) كاسْتِعْمالِ مَجِيءِ المَلَكِ، أيْ: أُحْضِرَتْ جَهَنَّمُ وفُتِحَتْ أبْوابُها فَكَأنَّها جاءَ بِها جاءٍ، والمَعْنى: أُظْهِرَتْ لَهم جَهَنَّمُ، قالَ تَعالى: (﴿حَتّى إذا جاءُوها فُتِحَتْ أبْوابُها﴾ [الزمر: ٧١]) وقالَ: (﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦] ووَرَدَ في حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ «“ أنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعِينَ ألْفَ زِمامٍ مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها ”» وهو تَفْسِيرٌ لِمَعْنى ( ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾) . وأُمُورُ الآخِرَةِ مِن خَوارِقِ العاداتِ.

وإنَّما اقْتُصِرَ عَلى ذِكْرِ جَهَنَّمَ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ في هَذِهِ السُّورَةِ وعِيدُ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا، وإلّا فَإنَّ الجَنَّةَ أيْضًا مُحَضَرَةٌ يَوْمَئِذٍ، قالَ تَعالى: ( ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الشعراء: ٩٠] ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ [الشعراء: ٩١] .

و(يَوْمَئِذٍ) الأوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (جِيءَ) . والتَّقْدِيرُ: وجِيءَ يَوْمَ تُدَكُّ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا. . . إلى آخِرِهِ.

و(يَوْمَئِذٍ) الثّانِي بَدَلٌ مِن (إذا دُكَّتِ الأرْضُ) والمَعْنى: يَوْمَ تُدَكُّ الأرْضُ دَكًّا. . . إلى آخِرِهِ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ. والعامِلُ في البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ مَعًا فِعْلُ (يَتَذَكَّرُ) . وتَقْدِيمُهُ لِلِاهْتِمامِ مَعَ ما في الإطْنابِ مِنَ التَّشْوِيقِ لِيَحْصُلَ الإجْمالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ مَعَ حُسْنِ إعادَةِ ما هو بِمَعْنى (إذا) لِزِيادَةِ الرَّبْطِ لِطُولِ الفَصْلِ بِالجُمَلِ الَّتِي أُضِيفَ إلَيْها (إذا) .

والإنْسانُ: هو الإنْسانُ الكافِرُ، وهو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ [الفجر: ١٥]) الآيَةَ، فَهو إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ لِبُعْدِ مَعادِ الضَّمِيرِ.

صفحة ٣٣٩

وجُمْلَةُ (وأنّى لَهُ الذِّكْرى) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ (يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ) وجُمْلَةِ (يَقُولُ) إلَخْ.

و(أنّى) اسْمُ اسْتِفْهامٍ بِمَعْنى أيْنَ لَهُ الذِّكْرى، وهو اسْتِفْهامٌ مُسْتَعْمَلٌ في الإنْكارِ والنَّفْيِ، والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، والتَّقْدِيرُ: وأيْنَ لَهُ نَفْعُ الذِّكْرى.

وجُمْلَةُ (يَقُولُ يا لَيْتَنِي) إلَخْ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلًا بِاللِّسانِ تَحَسُّرًا وتَنَدُّمًا، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ حالًا مِنَ (الإنْسانُ) أوْ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ (يَتَذَكَّرُ) فَإنَّ تَذَكُّرَهُ مُشْتَمِلٌ عَلى تَحَسُّرٍ ونَدامَةٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ في نَفْسِهِ فَتَكُونُ الجُمْلَةُ بَيانًا لِجُمْلَةِ (يَتَذَكَّرُ) .

ومَفْعُولُ (قَدَّمْتُ) مَحْذُوفٌ لِلْإيجازِ.

واللّامُ في قَوْلِهِ: (لِحَياتِي) تَحْتَمِلُ مَعْنى التَّوْقِيتِ، أيْ: قَدَّمْتُ عِنْدَ أزْمانِ حَياتِي، فَيَكُونُ المُرادُ الحَياةَ الأوْلى الَّتِي قَبْلَ المَوْتِ، وتَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ اللّامُ لِلْعِلَّةِ، أيْ: قَدَّمْتُ الأعْمالَ الصّالِحَةَ لِأجْلِ أنْ أحْيا في هَذِهِ الدّارِ. والمُرادُ: الحَياةُ الكامِلَةُ السّالِمَةُ مِنَ العَذابِ؛ لِأنَّ حَياتَهم في العَذابِ حَياةُ غِشاوَةٍ وغِيابٍ، قالَ تَعالى: (﴿ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى﴾ [الأعلى: ١٣]) .

وحَرْفُ النِّداءِ في قَوْلِهِ: (يا لَيْتَنِي) لِلتَّنْبِيهِ اهْتِمامًا بِهَذا التَّمَنِّي في يَوْمِ وُقُوعٍ.

والفاءُ في قَوْلِهِ: (﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾) رابِطَةٌ لِجُمْلَةِ (لا يُعَذِّبُ) إلَخْ، بِجُمْلَةِ (دُكَّتِ الأرْضُ) لِما في (إذا) مِن مَعْنى الشَّرْطِ.

والعَذابُ: اسْمُ مَصْدَرِ (عَذَّبَ) .

والوَثاقُ: اسْمُ مَصْدَرِ (أوْثَقَ) .

وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُعَذِّبُ) بِكَسْرِ الذّالِ و(يُوثِقُ) بِكَسْرِ الثّاءِ عَلى أنَّ (أحَدٌ) في المَوْضِعَيْنِ فاعِلُ (يُعَذِّبُ، ويَوْثِقُ)، وأنَّ (عَذابَهُ) مِن إضافَةِ المَصَدَرِ إلى مَفْعُولِهِ فَضَمِيرُ (عَذابَهُ) عائِدٌ إلى الإنْسانِ في قَوْلِهِ: (﴿يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾) وهو مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ عَلى مَعْنى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، أيْ: عَذابًا مِثْلَ عَذابِهِ، وانْتِفاءُ المُماثَلَةِ في الشِّدَّةِ، أيْ: يُعَذِّبُ عَذابًا هو أشَدُّ عَذابٍ يُعَذَّبُهُ العُصاةُ، أيْ:

صفحة ٣٤٠

عَذابًا لا نَظِيرَ لَهُ في أصْنافِ عَذابِ المُعَذَّبِينَ، عَلى مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لا أُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥]) والمُرادُ: في شِدَّتِهِ.

وهَذا بِالنِّسْبَةِ لِبَنِي الإنْسانِ، وأمّا عَذابُ الشَّياطِينِ فَهو أشَدُّ لِأنَّهم أشَدُّ كُفْرًا، و(أحَدٌ) يُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ لِاسْتِغْراقِ جِنْسِ الإنْسانِ فَـ (أحَدٌ) في سِياقِ النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ أحَدٍ، قالَ تَعالى: (﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا والأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الإنفطار: ١٩]) فانْحَصَرَ الأحَدُ المُعَذِّبُ بِكَسْرِ الذّالِ في فَرْدٍ وهو اللَّهُ تَعالى.

وقَرَأهُ الكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ ذالِ (يُعَذَّبُ) وفَتْحِ ثاءِ (يُوثَقُ) مَبْنِيَّيْنِ لِلنّائِبِ. وعَنْ أبِي قِلابَةَ قالَ:“ حَدَّثَنِي مَن أقْرَأْهُ النَّبِيءُ ﷺ أنَّهُ قَرَأ (يُعَذَّبُ، ويُوثَقُ) بِفَتْحِ الذّالِ وفَتْحِ الثّاءِ " . قالَ الطَّبَرِيُّ: وإسْنادُهُ واهٍ، وأقُولُ: أغْنى عَنْ تَصْحِيحِ إسْنادِهِ تَواتُرُ القِراءَةِ بِهِ في بَعْضِ الرِّواياتِ العَشْرِ وكُلُّها مُتَواتِرٌ.

والمَعْنى: لا يُعَذَّبُ أحَدٌ مِثْلَ عَذابِ ما يُعَذَّبُ بِهِ ذَلِكَ الإنْسانُ المُتَحَسِّرُ يَوْمَئِذٍ، ولا يُوَثَقُ أحَدٌ مِثْلَ وثاقِهِ. فَـ (أحَدٌ) هُنا بِمَنزِلَةِ (أحَدًا) في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لا أُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥]) .

والوَثاقُ بِفَتْحِ الواوِ: اسْمُ مَصْدَرِ أوْثَقَ، وهو الرَّبْطُ ويُجْعَلُ لِلْأسِيرِ والمَقُودِ إلى القَتْلِ. فَيُجْعَلُ لِأهْلِ النّارِ وثاقٌ يُساقُونَ بِهِ إلى النّارِ، قالَ تَعالى: (﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ في الحَمِيمِ﴾ [غافر: ٧١]) الآيَةَ.

وانْتِصابُ (وثاقَهُ) كانْتِصابِ (عَذابَهُ) عَلى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِمَعْنى التَّشْبِيهِ.