صفحة ٣٨١

( ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾ ﴿وصَدَّقَ بِالحُسْنى﴾ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾ ﴿وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى﴾ ﴿وكَذَّبَ بِالحُسْنى﴾ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾ ﴿وما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذا تَرَدّى﴾ .

(فَأمّا) تَفْرِيعٌ وتَفْصِيلٌ لِلْإجْمالِ في قَوْلِهِ: (﴿إنَّ سَعْيَكم لَشَتّى﴾ [الليل: ٤]) فَحَرْفُ (أمّا) يُفِيدُ الشَّرْطَ والتَّفْصِيلَ وهو يَتَضَمَّنُ أداةَ شَرْطٍ وفِعْلَ شَرْطٍ لِأنَّهُ بِمَعْنى: مَهْما يَكُنْ مِن شَيْءٍ، والتَّفْصِيلُ: التَّفْكِيكُ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ اشْتَرَكَتْ آحادُهُ في حالَةٍ وانْفَرَدَ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ بِحالَةٍ هي الَّتِي يُعْتَنى بِتَمْيِيزِها. وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ [الفجر: ١٥]) في سُورَةِ الفَجْرِ.

والمُحْتاجُ لِلتَّفْصِيلِ هُنا هو السَّعْيُ المَذْكُورُ، ولَكِنْ جُعِلَ التَّفْصِيلُ بِبَيانِ السّاعِينَ بِقَوْلِهِ: (﴿فَأمّا مَن أعْطى﴾) لِأنَّ المُهِمَّ هو اخْتِلافُ أحْوالِ السّاعِينَ ويُلازِمُهُمُ السَّعْيُ، فَإيقاعُهم في التَّفْصِيلِ بِحَسَبِ مَساعِيهِمْ يُساوِي إيقاعَ المَساعِي في التَّفْصِيلِ، وهَذا تَفَنُّنٌ مِن أفانِينِ الكَلامِ الفَصِيحِ يَحْصُلُ مِنهُ مَعْنَيانِ، كَقَوْلِ النّابِغَةِ:

وقَدْ خِفْتُ حَتّى ما تَزِيدُ مَخافَتِي عَلى وعِلٍ في ذِي المَطارَةِ عاقِلِ

أيْ: عَلى مَخافَةِ وعِلٍ.

ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ١٧٧]) إلَخْ، في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وقَوْلُهُ تَعالى: (﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ١٩]) الآيَةَ، أيْ: كَإيمانِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ.

وانْحَصَرَ تَفْصِيلُ (شَتّى) في فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُيَسَّرٍ لِلْيُسْرى وفَرِيقٍ مُيَسَّرٍ لِلْعُسْرى؛ لِأنَّ الحالَيْنِ هُما المُهِمُّ في مَقامِ الحَثِّ عَلى الخَيْرِ، والتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ، ويَنْدَرِجُ فِيهِما مُخْتَلِفُ الأعْمالِ كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتًا لِيُرَوْا أعْمالَهُمْ﴾ [الزلزلة: ٦] ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٨]) في سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ. ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ تَفْصِيلُ (شَتّى) هم مَن أعْطى واتَّقى وصَدَّقَ بِالحُسْنى، ومَن بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بِالحُسْنى، وذَلِكَ عَدَدٌ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَيانًا لِشَتّى.

صفحة ٣٨٢

و(مَن) في قَوْلِهِ: (﴿مَن أعْطى﴾) إلَخْ، وقَوْلِهِ (﴿مَن بَخِلَ﴾) إلَخْ، يَعُمُّ كُلَّ مَن يَفْعَلُ الإعْطاءَ ويَتَّقِي ويُصَدِّقُ بِالحُسْنى. ورُوِيَ أنَّ هَذا نَزَلَ بِسَبَبِ أنَّ أبا بَكْرٍ اشْتَرى بِلالًا مِن أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وأعْتَقَهُ لِيُنْجِيَهُ مِن تَعْذِيبِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن يَذْكُرُ أبا سُفْيانَ بْنَ حَرْبٍ عِوَضَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وهو وهَمٌ.

وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَضِيَّةِ أبِي الدَّحْداحِ مَعَ رَجُلٍ مُنافِقٍ سَتَأْتِي. وهَذا الأخِيرُ مُقْتَضٍ أنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وسَبَبُ النُّزُولِ لا يَخُصُّ العُمُومَ.

وحُذِفَ مَفْعُولُ (أعْطى) لِأنَّ فِعْلَ الإعْطاءِ إذا أُرِيدَ بِهِ إعْطاءُ المالِ بِدُونِ عِوَضٍ، يُنَزَّلُ مَنزِلَةَ اللّازِمِ لِاشْتِهارِ اسْتِعْمالِهِ في إعْطاءِ المالِ ولِذَلِكَ يُسَمّى المالُ المَوْهُوبُ عَطاءً، والمَقْصُودُ إعْطاءُ الزَّكاةِ.

وكَذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ اتَّقى لِأنَّهُ يُعْلَمُ أنَّ المُقَدَّرَ اتَّقى اللَّهَ.

وهَذِهِ الخِلالُ الثَّلاثُ مِن خِلالِ الإيمانِ، فالمَعْنى: فَأمّا مَن كانَ مِنَ المُؤْمِنِينَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾ [المدثر: ٤٣] ﴿ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ﴾ [المدثر: ٤٤]) أيْ: لَمْ نَكُ مِن أهْلِ الإيمانِ.

وكَذَلِكَ فِعْلُ (بَخِلَ) لَمْ يُذَكَرْ مُتَعَلَّقُهُ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ البُخْلُ بِالمالِ.

و(اسْتَغْنى) جُعِلَ مُقابِلًا لِـ (اتَّقى) فالمُرادُ بِهِ الِاسْتِغْناءُ عَنِ امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ ودَعْوَتِهِ؛ لِأنَّ المُصِرَّ عَلى الكُفْرِ المُعْرِضَ عَنِ الدَّعْوَةِ يَعُدُّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنِ اللَّهِ مُكْتَفِيًا بِوَلايَةِ الأصْنامِ وقَوْمِهِ، فالسِّينُ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ في الفِعْلِ، مِثْلَ سِينِ اسْتَجابَ بِمَعْنى أجابَ. وقَدْ يُرادُ بِهِ زِيادَةُ طَلَبِ الغِنى بِالبُخْلِ بِالمالِ، فَتَكُونُ السِّينُ والتّاءُ لِلطَّلَبِ، وهَذِهِ الخِلالُ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ.

والحُسْنى: تَأْنِيثُ الأحْسَنِ فَهي بِالأصالَةِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ، وتَأْنِيثُها مُشْعِرٌ بِأنَّ مَوْصُوفَها المُقَدَّرَ يُعْتَبَرُ مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ، ويَحْتَمِلُ أُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ المَثُوبَةِ أوِ النَّصْرِ أوِ العِدَةِ أوِ العاقِبَةِ.

وقَدْ يَصِيرُ هَذا الوَصْفُ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ، فَقِيلَ: الحُسْنى الجَنَّةُ، وقِيلَ: كَلِمَةُ

صفحة ٣٨٣

الشَّهادَةِ، وقِيلَ: الصَّلاةُ، وقِيلَ: الزَّكاةُ. وعَلى الوُجُوهِ كُلِّها فالتَّصْدِيقُ بِها الِاعْتِرافُ بِوُقُوعِها ويُكَنّى بِهِ عَنِ الرَّغْبَةِ في تَحْصِيلِها.

وحاصِلُ الِاحْتِمالاتِ يَحُومُ حَوْلَ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللَّهِ بِما هو حَسَنٌ مِن مَثُوبَةٍ أوْ نَصْرٍ أوْ إخْلافِ ما تَلِفَ، فَيَرْجِعُ هَذا التَّصْدِيقُ إلى الإيمانِ.

ويَتَضَمَّنُ أنَّهُ يَعْمَلُ الأعْمالَ الَّتِي يَحْصُلُ بِها الفَوْزُ بِالحُسْنى.

ولِذَلِكَ قُوبِلَ في الشِّقِّ الآخَرِ بِقَوْلِهِ: (﴿وكَذَّبَ بِالحُسْنى﴾) .

والتَّيْسِيرُ: جَعْلُ شَيْءٍ يَسِيرَ الحُصُولِ، ومَفْعُولُ فِعْلِ التَّيْسِيرِ هو الشَّيْءُ الَّذِي يُجْعَلُ يَسِيرًا، أيْ غَيْرَ شَدِيدٍ، والمَجْرُورُ بِاللّامِ بَعْدَهُ هو الَّذِي يُسَهَّلُ الشَّيْءُ الصَّعْبُ لِأجْلِهِ، وهو الَّذِي يَنْتَفِعُ بِسُهُولَةِ الأمْرِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿ويَسِّرْ لِي أمْرِي﴾ [طه: ٢٦]) وقَوْلِهِ: (﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر: ١٧]) .

واليُسْرى في قَوْلِهِ: (لِلْيُسْرى) هي ما لا مَشَقَّةَ فِيهِ. وتَأْنِيثُها: إمّا بِتَأْوِيلِ الحالَةِ، أيِ: الحالَةِ الَّتِي لا تَشُقُّ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ، وهي حالَةُ النَّعِيمِ، أوْ عَلى تَأْوِيلِها بِالمَكانَةِ. وقَدْ فُسِّرَتِ اليُسْرى بِالجَنَّةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ ومُجاهِدٍ. ويَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَعانِيَ كَثِيرَةً تَنْدَرِجُ في مَعانِي النّافِعِ الَّذِي لا يَشُقُّ عَلى صاحِبِهِ، أيِ: المُلائِمُ.

والعُسْرى: إمّا الحالَةُ وهي حالَةُ العُسْرِ والشِّدَّةِ، وإمّا مَكانَتُهُ وهي جَهَنَّمُ، لِأنَّها مَكانُ العُسْرِ والشَّدائِدِ عَلى أهْلِها، قالَ تَعالى: (﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ [المدثر: ٩] ﴿عَلى الكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: ١٠]) فَمَعْنى (نُيَسِّرُهُ): نُدَرِّجُهُ في عَمَلَيِ السَّعادَةِ والشَّقاوَةِ، وبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فالأعْمالُ اليُسْرى هي الصّالِحَةُ، وُصِفَتْ بِاليُسْرى بِاعْتِبارِ عاقِبَتِها لِصاحِبِها، وتَكُونُ العُسْرى الأعْمالَ السَّيِّئَةَ بِاعْتِبارِ عاقِبَتِها عَلى صاحِبِها، فَتَأْنِيثُهُما بِاعْتِبارِ أنَّ كِلْتَيْهِما صِفَةُ طائِفَةٍ مِنَ الأعْمالِ.

وحَرْفُ التَّنْفِيسِ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ مُرادًا مِنهُ الِاسْتِمْرارُ مِنَ الآنَ إلى آخِرِ الحَياةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿قالَ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾ [يوسف: ٩٨]) .

وحَرْفُ (ألْ) في (اليُسْرى) وفي (العُسْرى) لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ أوْ لِلْعَهْدِ عَلى اخْتِلافِ المَعانِي.

صفحة ٣٨٤

وإذْ قَدْ جاءَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى عَكْسِ المُتَبادَرِ، إذْ جُعِلَ ضَمِيرُ الغَيْبَةِ في (نُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) العائِدُ إلى (﴿مَن أعْطى واتَّقى﴾) هو المُيَسَّرَ، وجُعِلَ ضَمِيرُ الغَيْبَةِ في (نُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) العائِدُ إلى (﴿مَن بَخِلَ واسْتَغْنى﴾) هو المُيَسَّرَ، أيِ: الَّذِي صارَ الفِعْلُ صَعْبُ الحُصُولِ حاصِلًا لَهُ، وإذْ وقَعَ المَجْرُورانِ بِاللّامِ: (اليُسْرى) و(العُسْرى)، وهُما لا يَنْتَفِعانِ بِسُهُولَةِ مَن أعْطى أوْ مَن بَخِلَ، تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ نَظْمِ الآيَةِ بِإحْدى طَرِيقَتَيْنِ:

الأُولى: إبْقاءُ فِعْلِ (نُيَسِّرُ) عَلى حَقِيقَتِهِ وجَعْلِ الكَلامِ جارِيًا عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ بِطَرِيقِ القَلْبِ بِأنْ يَكُونَ أصْلُ الكَلامِ: فَسَنُيَسِّرُ اليُسْرى لَهُ وسَنُيَسِّرُ العُسْرى لَهُ، ولا بُدَّ مِن مُقْتَضٍ لِلْقَلْبِ، فَيُصارُ إلى أنَّ المُقْتَضِيَ إفادَةُ المُبالَغَةِ في هَذا التَّيْسِيرِ حَتّى جُعِلَ المُيَسَّرُ مُيَسَّرًا لَهُ والمُيَسَّرُ لَهُ مُيَسَّرًا عَلى نَحْوِ ما وجَّهُوا بِهِ قَوْلَ العَرَبِ: عَرَضْتُ النّاقَةَ عَلى الحَوْضِ.

والثّانِيَةُ: أنْ يَكُونَ التَّيْسِيرُ مُسْتَعْمَلًا مَجازًا مُرْسَلًا في التَّهْيِئَةِ والإعْدادِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ بَيْنَ إعْدادِ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ وتَيَسُّرِهِ لَهُ، وتَكُونُ اللّامُ مِن قَوْلِهِ: (لِلْيُسْرى) و(لِلْعُسْرى) لامَ التَّعْلِيلِ، أيْ: نُيَسِّرُهُ لِأجْلِ اليُسْرى أوْ لِأجْلِ العُسْرى، فالمُرادُ بِاليُسْرى الجَنَّةُ وبِالعُسْرى جَهَنَّمُ، عَلى أنْ يَكُونَ الوَصْفانِ صارا عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى الجَنَّةِ وعَلى النّارِ، والتَّهْيِئَةُ لا تَكُونُ لَذّاتِ الجَنَّةِ وذاتِ النّارِ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضافٍ بَعْدَ اللّامِ يُناسِبُ التَّيْسِيرَ فَيُقَدَّرُ: لِدُخُولِ اليُسْرى ولِدُخُولِ العُسْرى، أيْ: سَنُعَجِّلُ لَهُ ذَلِكَ.

والمَعْنى: سَنَجْعَلُ دُخُولَ هَذا الجَنَّةَ سَرِيعًا ودُخُولَ الآخَرِ النّارَ سَرِيعًا، بِشَبَهِ المُيَسَّرِ مِن صُعُوبَةٍ؛ لِأنَّ شَأْنَ الصَّعْبِ الإبْطاءُ وشَأْنَ السَّهْلِ السُّرْعَةُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ [ق: ٤٤]) أيْ: سَرِيعٌ عاجِلٌ. ويَكُونُ عَلى هَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ: (﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾) مُشاكَلَةً بُنِيَتْ عَلى اسْتِعارَةٍ تَهَكُّمِيَّةٍ قَرِينَتُها قَوْلُهُ: (العُسْرى)، والَّذِي يَدْعُو إلى هَذا أنَّ فِعْلَ (نُيَسِّرُ) نَصَبَ ضَمِيرَ مَن (﴿أعْطى واتَّقى﴾ ﴿وصَدَّقَ﴾)، وضَمِيرَ مَن (﴿بَخِلَ واسْتَغْنى﴾ ﴿وكَذَّبَ﴾) فَهو تَيْسِيرٌ ناشِئٌ عَنْ حُصُولِ الأعْمالِ الَّتِي يَجْمَعُها مَعْنى (اتَّقى) أوْ مَعْنى (اسْتَغْنى) فالأعْمالُ سابِقَةٌ لا مَحالَةَ. والتَّيْسِيرُ مُسْتَقْبَلٌ بَعْدَ حُصُولِها فَهو

صفحة ٣٨٥

تَيْسِيرُ ما زادَ عَلى حُصُولِها، أيْ: تَيْسِيرُ الدَّوامِ عَلَيْها والِاسْتِزادَةِ مِنها.

ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ: أنْ يُجْعَلَ التَّيْسِيرُ عَلى حَقِيقَتِهِ ويُجْعَلَ اليُسْرى وصْفًا أيِ: الحالَةُ اليُسْرى، والعُسْرى أيِ: الحالَةُ غَيْرُ اليُسْرى. ولَيْسَ في التَّرْكِيبِ قَلْبٌ.

والتَّيْسِيرُ بِمَعْنى الدَّوامِ عَلى العَمَلِ، فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: ”«كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ في بَقِيعِ الغَرْقَدِ في جِنازَةٍ فَقالَ: ما مِنكم مِن أحَدٍ إلّا وقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ ومَقْعَدُهُ مِنَ النّارِ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ أفَلا نَتَّكِلُ ؟ فَقالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ، أمّا أهْلُ السَّعادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعادَةِ، وأمّا أهْلُ الشَّقاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقاءِ، ثُمَّ قَرَأ (﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾ ﴿وصَدَّقَ بِالحُسْنى﴾ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى﴾ ﴿وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى﴾ ﴿وكَذَّبَ بِالحُسْنى﴾ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» )“ اهـ.

فَصَدْرُ الحَدِيثِ لا عَلاقَةَ لَهُ بِما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ”«ما مِن أحَدٍ إلّا وقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ» “ إلَخْ، مَعْناهُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أنَّ أحَدًا سَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتّى يُوافِيَ عَلَيْهِ، أوْ سَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النّارِ حَتّى يُوافِيَ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: ”«وقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ» “ جُعِلَتِ الكِتابَةُ تَمْثِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِالمَعْلُوماتِ عِلْمًا مُوافِقًا لِما سَيَكُونُ لا زِيادَةَ فِيهِ ولا نَقْصَ، كالشَّيْءِ المَكْتُوبِ إذْ لا يَقْبَلُ زِيادَةً ولا نَقْصًا دُونَ المَقُولِ الَّذِي لا يُكْتَبُ فَهو لا يَنْضَبِطُ.

فَنَشَأ سُؤالُ مَن سَألَ عَنْ فائِدَةِ العَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ النّاسُ، ومَعْنى جَوابِهِ: أنَّ فائِدَةَ العَمَلِ الصّالِحِ أنَّهُ عُنْوانٌ عَلى العاقِبَةِ الحَسَنَةِ. وذُكِرَ مُقابِلُهُ وهو العَمَلُ السَّيِّئُ إتْمامًا لِلْفائِدَةِ ولا عَلاقَةَ لَهُ بِالجَوابِ.

ولَيْسَ مَجازُهُ مُماثِلًا لِما اسْتُعْمِلَ في هَذِهِ الآيَةِ لِأنَّهُ في الحَدِيثِ عُلِّقَ بِهِ عَمَلُ أهْلِ السَّعادَةِ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ تَيْسِيرًا لِلْعَمَلِ، أيْ: إعْدادًا وتَهْيِئَةً لِلْأعْمالِ صالِحِها أوْ سَيِّئِها.

فالَّذِي يَرْتَبِطُ بِالآيَةِ مِنَ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ هو أنَّ النَّبِيءَ ﷺ أعْقَبَ كَلامَهُ بِأنْ قَرَأ (﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾) الآيَةَ؛ لِأنَّهُ قَرَأها تَبْيِينًا واسْتِدْلالًا لِكَلامِهِ، فَكانَ لِلْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِالكَلامِ النَّبَوِيِّ، ومَحَلُّ الِاسْتِدْلالِ هو قَوْلُهُ تَعالى: (﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾) .

صفحة ٣٨٦

فالمَقْصُودُ مِنهُ إثْباتُ أنَّ مِن شُئُونِ اللَّهِ تَعالى تَيَسُّرًا لِلْعَبْدِ أنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِ السَّعادَةِ أوْ عَمَلِ الشَّقاءِ، سَواءٌ كانَ عَمَلُهُ أصْلًا لِلسَّعادَةِ كالإيمانِ أوْ لِلشَّقاوَةِ كالكُفْرِ، أمْ كانَ العَمَلُ مِمّا يَزِيدُ السَّعادَةَ ويَنْقُصُ مِنَ الشَّقاوَةِ وذَلِكَ بِمِقْدارِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ لِمَن كانَ مُؤْمِنًا؛ لِأنَّ ثُبُوتَ أحَدِ مَعْنَيَيِ التَّيْسِيرِ يَدُلُّ عَلى ثُبُوتِ جِنْسِهِ فَيَصْلُحُ دَلِيلًا لِثُبُوتِ التَّيْسِيرِ مِن أصْلِهِ.

أوْ يَكُونُ المَقْصُودُ مِن سَوْقِ الآيَةِ الِاسْتِدْلالَ عَلى قَوْلِهِ: (اعْمَلُوا)؛ لِأنَّ الآيَةَ ذَكَرَتْ عَمَلًا وذَكَرَتْ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرى وتَيْسِيرًا لِلْعُسْرى، فَيَكُونُ الحَدِيثُ إشارَةً إلى أنَّ العَمَلَ هو عَلامَةُ التَّيْسِيرِ، وتَكُونُ اليُسْرى مَعْنِيًّا بِها السَّعادَةُ والعُسْرى مَعْنِيًّا بِها الشَّقاوَةُ، وماصَدَقُ السَّعادَةِ الفَوْزُ بِالجَنَّةِ، وماصَدَقُ الشَّقاوَةِ الهُوِيُّ في النّارِ.

وإذْ كانَ الوَعْدُ بِتَيْسِيرِ اليُسْرى لِصاحِبِ تِلْكَ الصِّلاتِ الدّالَّةِ عَلى أعْمالِ الإعْطاءِ والتَّقْوى والتَّصْدِيقِ بِالحُسْنى، كانَ سُلُوكُ طَرِيقِ المَوْصُولِيَّةِ لِلْإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ وهو التَّيْسِيرُ، فَتَعَيَّنَ أنَّ التَّيْسِيرَ مُسَبَّبٌ عَنْ تِلْكَ الصِّلاتِ، أيْ: جَزاءٌ عَنْ فِعْلِها. فالمُتَيَسِّرُ: تَيْسِيرُ الدَّوامِ عَلَيْها، وتَكُونُ اليُسْرى صِفَةً لِلْأعْمالِ، وذَلِكَ مِنَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ. والأصْلُ: مُسْتَيْسِرٌ لَهُ أعْمالُهُ، وعُدِلَ عَنِ الإضْمارِ إلى وصْفِ اليُسْرى لِلثَّناءِ عَلى تِلْكَ الأعْمالِ بِأنَّها مُيَسَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى﴾ [الأعلى: ٨]) في سُورَةِ الأعْلى.

وخُلاصَةُ الحَدِيثِ أنَّهُ بَيانٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأعْمالِ عِبادِهِ قَبْلَ أنْ يَعْمَلُوها، وبَيْنَ تَعَلُّقِ خِطابِهِ إيّاهم بِشَرائِعِهِ، وأنَّ ما يَصْدُرُ عَنِ النّاسِ مِن أعْمالٍ ظاهِرَةٍ وباطِنَةٍ إلى خاتِمَةِ كُلِّ أحَدٍ ومُوافاتِهِ هو عُنْوانٌ لِلنّاسِ عَلى ما كانَ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، ويَلْتَقِي المَهْيَعانِ في أنَّ العَمَلَ هو وسِيلَةُ الحُصُولِ عَلى الجَنَّةِ أوِ الوُقُوعِ في جَهَنَّمَ.

وإنَّما خُصَّ الإعْطاءُ بِالذِّكْرِ في قَوْلِهِ: (﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى﴾) مَعَ شُمُولِ (اتَّقى) لِمُفادِهِ، وخُصَّ البُخْلُ بِالذِّكْرِ في قَوْلِهِ: (﴿وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى﴾) مَعَ شُمُولِ (اسْتَغْنى) لَهُ، لِتَحْرِيضِ المُسْلِمِينَ عَلى الإعْطاءِ، فالإعْطاءُ والتَّقْوى شِعارُ المُسْلِمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالحُسْنى، وضِدُّ الثَّلاثَةِ مِن شِعارِ المُشْرِكِينَ.

صفحة ٣٨٧

وفِي الآيَةِ مُحَسِّنُ الجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ، ومُحَسِّنُ الطِّباقِ، أرْبَعُ مَرّاتٍ بَيْنَ (أعْطى) و(بَخِلَ)، وبَيْنَ (اتَّقى) و(اسْتَغْنى)، وبَيْنَ (صَدَّقَ) و(كَذَّبَ)، وبَيْنَ (اليُسْرى) و(العُسْرى) .

وجُمْلَةُ (﴿وما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذا تَرَدّى﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾) أيْ: سَنُعَجِّلُ بِهِ إلى جَهَنَّمَ. فالتَّقْدِيرُ: إذا تَرَدّى فِيها.

والتَّرَدِّي: السُّقُوطُ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، يَعْنِي: لا يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ شَيْئًا مِن عَذابِ النّارِ.

و(ما) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ نافِيَةً. والتَّقْدِيرُ: وسَوْفَ لا يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذا سَقَطَ في جَهَنَّمَ، وتَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً وهو اسْتِفْهامُ إنْكارٍ وتَوْبِيخٍ. ويَجُوزُ عَلى هَذا الوَجْهِ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلِاسْتِئْنافِ. والمَعْنى: وما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ.

رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ”أنَّهُ كانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ المُنافِقِينَ نَخْلَةٌ مائِلَةٌ في دارِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ذِي عِيالٍ، فَإذا سَقَطَ مِنها ثَمَرٌ أكَلَهُ صِبْيَةٌ لِذَلِكَ المُسْلِمِ، فَكانَ صاحِبُ النَّخْلَةِ يَنْزِعُ مِن أيْدِيهِمُ الثَّمَرَةَ، فَشَكا المُسْلِمُ ذَلِكَ إلى النَّبِيءِ ﷺ فَكَلَّمَ النَّبِيءُ ﷺ صاحِبَ النَّخْلَةِ أنْ يَتْرُكَها لَهم ولَهُ بِها نَخْلَةٌ في الجَنَّةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وسَمِعَ ذَلِكَ أبُو الدَّحْداحِ الأنْصارِيُّ فاشْتَرى تِلْكَ النَّخْلَةَ مِن صاحِبِها بِحائِطٍ فِيهِ أرْبَعُونَ نَخْلَةً، وجاءَ إلى النَّبِيءِ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، اشْتَرِها مِنِّي بِنَخْلَةٍ في الجَنَّةِ، فَقالَ: نَعَمْ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَأعْطاها الرَّجُلَ صاحِبَ الصِّبْيَةِ، قالَ عِكْرِمَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١]) إلى قَوْلِهِ: (لِلْعُسْرى) وهو حَدِيثٌ غَرِيبٌ، ومِن أجْلِ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١]) قالَ جَماعَةٌ: السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ. وقَدْ بَيَّنّا في المُقَدِّمَةِ الخامِسَةِ أنَّهُ كَثِيرًا ما يَقَعُ في كَلامِ المُتَقَدِّمِينَ قَوْلُهم: فَأنْزَلَ اللَّهُ في كَذا قَوْلَهُ كَذا، أنَّهم يُرِيدُونَ

صفحة ٣٨٨

بِهِ أنَّ القِصَّةَ مِمّا تَشْمَلُهُ الآيَةُ. ورُوِيَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ:“ «كَمْ مِن عِذْقٍ رَداحٍ في الجَنَّةِ لِأبِي الدَّحْداحِ» . ولَمَّحَ إلَيْها بَشّارُ بْنُ بُرْدٍ في قَوْلِهِ:

إنَّ النُّحَيْلَةَ إذْ يَمِيلُ بِها الهَوى ∗∗∗ كالعِذْقِ مالَ عَلى أبِي الدَّحْداحِ