﴿فَأنْذَرْتُكم نارًا تَلَظّى﴾ ﴿لا يَصْلاها إلّا الأشْقى﴾ ﴿الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ ﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾ ﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾ ﴿وما لِأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ ﴿إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى﴾ ﴿ولَسَوْفَ يَرْضى﴾ .

يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الفاءُ لِمُجَرَّدِ التَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ إذا كانَ فِعْلُ (أنْذَرْتُكم) مُسْتَعْمَلًا في ماضِيهِ حَقِيقَةً وكانَ المُرادُ الإنْذارَ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (﴿وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى﴾ [الليل: ٨] ﴿وكَذَّبَ بِالحُسْنى﴾ [الليل: ٩] ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾ [الليل: ١٠]) إلى قَوْلِهِ تَعالى: (تَرَدّى) . وهَذِهِ الفاءُ يُشْبِهُ مَعْناها مَعْنى فاءِ الفَصِيحَةِ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى مُراعاةِ مَضْمُونِ الكَلامِ الَّذِي قَبْلَها وهو تَفْرِيعُ إنْذارٍ مُفَصَّلٍ عَلى إنْذارٍ مُجْمَلٍ.

ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الفاءُ لِلتَّفْرِيعِ المَعْنَوِيِّ فَيَكُونُ فِعْلُ (﴿أنْذَرْتُكُمْ﴾ [فصلت: ١٣]) مُرادًا بِهِ الحالُ، وإنَّما صِيغَ في صِيغَةِ المُضِيِّ لِتَقْرِيبِ زَمانِ الماضِي مِنَ الحالِ كَما في: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، وقَوْلِهِمْ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إلّا ما فَعَلْتَ كَذا، أيْ: أعْزِمُ عَلَيْكَ، ومِثْلَ ما في صِيَغِ العُقُودِ: كَبِعْتُ وهو تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى﴾ [الليل: ١٢]) والمَعْنى: هَدْيُكم، فَأنْذَرْتُكم إبْلاغًا في الهُدى.

وتَنْكِيرُ (نارًا) لِلتَّهْوِيلِ، وجُمْلَةُ (تَلَظّى) نَعْتٌ. و(تَلَظّى): تَلْتَهِبُ مِن شِدَّةِ الِاشْتِعالِ. وهو مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّظى مَصْدَرِ: لَظِيَتِ النّارُ كَرَضِيَتْ، إذا التَهَبَتْ، وأصْلُ (تَلَظّى): تَتَلَظّى بِتاءَيْنِ حُذِفَتْ إحْداهُما لِلِاخْتِصارِ.

صفحة ٣٩٠

وجُمْلَةُ (﴿لا يَصْلاها إلّا الأشْقى﴾) صِفَةٌ ثانِيَةٌ أوْ حالٌ مِن (نارًا) بَعْدَ أنْ وُصِفَتْ. وهَذِهِ نارٌ خاصَّةٌ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فَهي الَّتِي في قَوْلِهِ: (﴿فاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٤]) والقَرِينَةُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾) الآيَةَ.

وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ أنَّ أبا إسْحاقَ الزَّجّاجَ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي مِن أجْلِها قالَ أهْلُ الإرْجاءِ بِالإرْجاءِ فَزَعَمُوا: أنْ لا يَدْخُلَ النّارَ إلّا كافِرٌ، ولَيْسَ الأمْرُ كَما ظَنُّوا: هَذِهِ نارٌ مَوْصُوفَةٌ بِعَيْنِها لا يَصْلى هَذِهِ النّارَ إلّا الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى، ولِأهْلِ النّارِ مَنازِلُ فَمِنها أنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ اهـ.

والمَعْنى: لا يَصْلاها إلّا أنْتُمْ.

وقَدْ أُتْبِعَ (الأشْقى) بِصِفَةِ (﴿الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى﴾) لِزِيادَةِ التَّنْصِيصِ عَلى أنَّهُمُ المَقْصُودُ بِذَلِكَ، فَإنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهم كَذَّبُوا الرَّسُولَ ﷺ وتَوَلَّوْا، أيْ: أعْرَضُوا عَنِ القُرْآنِ، وقَدِ انْحَصَرَ ذَلِكَ الوَصْفُ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ، فَقَدْ كانَ النّاسُ في زَمَنِ ظُهُورِ الإسْلامِ أحَدَ فَرِيقَيْنِ: إمّا كافِرٌ، وإمّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، ولَمْ يَكُنِ الَّذِينَ أسْلَمُوا يَغْشَوْنَ الكَبائِرَ لِأنَّهم أقْبَلُوا عَلى الإسْلامِ بِشَراشِرِهِمْ، ولِذَلِكَ عُطِفَ (﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾) إلَخْ؛ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ القَصْرِ وتَكْمِيلًا لِلْمُقابَلَةِ.

والأشْقى والأتْقى مُرادٌ بِهِما: الشَّدِيدُ الشَّقاءِ والشَّدِيدُ التَّقْوى ومِثْلُهُ كَثِيرٌ في الكَلامِ.

وذَكَرَ القُرْطُبِيُّ: أنَّ مالِكًا قالَ: صَلّى بِنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ فَقَرَأ (﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١]) فَلَمّا بَلَغَ (﴿فَأنْذَرْتُكم نارًا تَلَظّى﴾) وقَعَ عَلَيْهِ البُكاءُ فَلَمْ يَقْدِرْ يَتَعَدّاها مِنَ البُكاءِ، فَتَرَكَها وقَرَأ سُورَةً أُخْرى.

ووَصْفُ الأشْقى بِصِلَةِ (﴿الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى﴾) ووَصْفُ الأتْقى بِصِلَةِ (﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾) لِلْإيذانِ بِأنَّ لِلصِّلَةِ تَسَبُّبًا في الحُكْمِ.

وبَيْنَ (الأشْقى) و(الأتْقى) مُحَسِّنُ الجِناسِ المُضارِعِ.

صفحة ٣٩١

وجُمْلَةُ (يَتَزَكّى) حالٌ مِن ضَمِيرِ (يُؤْتِي)، وفائِدَةُ الحالِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ يُؤْتِي مالَهُ بِقَصْدِ النَّفْعِ والزِّيادَةِ مِنَ الثَّوابِ تَعْرِيضًا بِالمُشْرِكَيْنِ الَّذِينَ يُؤْتُونَ المالَ لِلْفَخْرِ والرِّياءِ والمَفاسِدِ والفُجُورِ.

والتَّزَكِّي: تَكَلُّفُ الزَّكاءِ، وهو النَّماءُ مِنَ الخَيْرِ.

والمالُ: اسْمُ جِنْسٍ لِما يَخْتَصُّ بِهِ أحَدُ النّاسِ مِن أشْياءَ يَنْتَفِعُ بِذاتِها أوْ بِخَراجِها وغَلَّتِها مِثْلَ الأنْعامِ والأرْضِينَ والآبارِ الخاصَّةِ والأشْجارِ المُخْتَصِّ بِهِ أرْبابُها.

ويُطْلَقُ عِنْدَ بَعْضِ العَرَبِ مِثْلِ أهْلِ يَثْرِبَ عَلى النَّخِيلِ.

ولَيْسَ في إضافَةِ اسْمِ الجِنْسِ ما يُفِيدُ العُمُومَ، فَلا تَدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّهُ آتى جَمِيعَ مالِهِ.

وقَوْلُهُ: (﴿وما لِأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾) الآيَةَ، اتَّفَقَ أهْلُ التَّأْوِيلِ عَلى أنَّ أوَّلَ مَقْصُودٍ بِهَذِهِ الصِّلَةِ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمّا أعْتَقَ بِلالًا قالَ المُشْرِكُونَ: ما فَعَلَ ذَلِكَ أبُو بَكْرٍ إلّا لِيَدٍ كانَتْ لِبِلالٍ عِنْدَهُ. وهو قَوْلٌ مِن بُهْتانِهِمْ يُعَلِّلُونَ بِهِ أنْفُسَهم كَراهِيَةً لِأنْ يَكُونَ أبُو بَكْرٍ فَعَلَ ذَلِكَ مَحَبَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبَهم بِقَوْلِهِ: (﴿وما لِأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾) مُرادًا بِهِ بَعْضُ مَن شَمِلَهُ عُمُومُ (﴿الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى﴾) وهَذا شَبِيهٌ بِذِكْرِ بَعْضِ أفْرادِ العامِّ وهو لا يُخَصِّصُ العُمُومَ، ولَكِنَّ هَذِهِ لَمّا كانَتْ حالَةً غَيْرَ كَثِيرَةٍ في أسْبابِ إيتاءِ المالِ تَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ بِها حالَةٌ خاصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِخِلافِ نَحْوِ قَوْلِهِ: (﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى﴾ [البقرة: ١٧٧]) وقَوْلِهِ: (﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٩]) .

و(عِنْدَهُ) ظَرْفُ مَكانٍ وهو مُسْتَعْمَلٌ هُنا مَجازًا في تَمَكُّنِ المَعْنى مِنَ المُضافِ إلَيْهِ عَنْهُ كَتَمَكُّنِ الكائِنِ في المَكانِ القَرِيبِ، قالَ الحارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

مَن لَنا عِنْدَهُ مِنَ الخَـيْرِ آيا تٌ ثَلاثٌ في كُلِّهِنَّ القَضاءُ

و(مِن نِعْمَةٍ) اسْمُ (ما) النّافِيَةِ جُرَّ بِـ (مِن) الزّائِدَةِ الَّتِي تُزادُ في النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، والِاسْتِثْناءُ في (﴿إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ﴾) مُنْقَطِعٌ، أيْ: لَكِنِ ابْتِغاءً لِوَجْهِ اللَّهِ.

صفحة ٣٩٢

والِابْتِغاءُ: الطَّلَبُ بِجِدٍّ لِأنَّهُ أبْلَغُ مِنَ البَغْيِ.

والوَجْهُ مُسْتَعْمَلٌ مُرادًا بِهِ الذّاتُ كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧]) ومَعْنى ابْتِغاءِ الذّاتِ ابْتِغاءُ رِضى اللَّهِ.

وقَوْلُهُ: (﴿ولَسَوْفَ يَرْضى﴾) وعْدٌ بِالثَّوابِ الجَزِيلِ الَّذِي يُرْضِي صاحِبَهُ. وهَذا تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ: (﴿وسَيُجَنَّبُها الأتْقى﴾)؛ لِأنَّ ذَلِكَ ما أفادَ إلّا أنَّهُ ناجٍ مِن عَذابِ النّارِ لِاقْتِضاءِ المَقامِ الِاقْتِصارَ عَلى ذَلِكَ لِقَصْدِ المُقابَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ: (﴿لا يَصْلاها إلّا الأشْقى﴾) فَتَمَّمَ هُنا بِذِكْرِ ما أعَدَّ لَهُ مِنَ الخَيْراتِ.

وحَرْفُ (سَوْفَ) لِتَحْقِيقِ الوَعْدِ في المُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: (﴿قالَ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾ [يوسف: ٩٨]) أيْ: يَتَغَلْغَلُ رِضاهُ في أزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلِ المَدِيدِ.

واللّامُ لامُ الِابْتِداءِ لِتَأْكِيدِ الخَبَرِ.

وهَذِهِ مِن جَوامِعِ الكَلِمِ؛ لِأنَّها يَنْدَرِجُ تَحْتَها كُلُّ ما يَرْغَبُ فِيهِ الرّاغِبُونَ. وبِهَذِهِ السُّورَةِ انْتَهَتْ سُوَرُ وسَطِ المُفَصَّلِ.

* * *

صفحة ٣٩٣

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الضُّحى

سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ في أكْثَرِ المَصاحِفِ وفي كَثِيرٍ مِن كُتُبِ التَّفْسِيرِ وفي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ (سُورَةَ الضُّحى) بِدُونِ الواوِ.

وسُمِّيَتْ في كَثِيرٍ مِنَ التَّفاسِيرِ وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ (سُورَةَ والضُّحى) بِإثْباتِ الواوِ.

ولَمْ يَبْلُغْنا عَنِ الصَّحابَةِ خَبَرٌ صَحِيحٌ في تَسْمِيَتِها.

وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ.

وسَبَبُ نُزُولِها ما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ يَزِيدُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ عَنِ الأسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيانَ البَجَلِيِّ قالَ: ”«دَمِيَتْ إصْبَعُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فاشْتَكى، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثًا فَجاءَتِ امْرَأةٌ وهي أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أبِي لَهَبٍ كَما في رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ذَكَرَها ابْنُ عَطِيَّةَ فَقالَتْ: يا مُحَمَّدُ، إنِّي لَأرْجُو أنْ يَكُونَ شَيْطانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أرَهُ قَرَبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أوْ ثَلاثٍ. فَأنْزَلَ اللَّهُ (﴿والضُّحى﴾ [الضحى: ١] ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ [الضحى: ٢] ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ [الضحى»: ٣]) .

ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الأسْوَدِ عَنْ جُنْدُبٍ البَجَلِيِّ قالَ:“ «كُنْتُ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ في غارٍ فَدَمِيَتْ إصْبَعُهُ فَقالَ:

هَلْ أنْتِ إلّا إصْبَعٌ دَمِيتِ، وفي سَبِيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ

. قالَ: فَأبْطَأ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقالَ المُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ [الضحى»: ٣]) . وقالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ويَظْهَرُ أنَّ قَوْلَ أُمِّ جَمِيلٍ لَمْ يَسْمَعْهُ جُنْدُبٌ؛ لِأنَّ جُنْدُبًا كانَ مِن صِغارِ الصَّحابَةِ، وكانَ يَرْوِي عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وعَنْ حُذَيْفَةَ كَما قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ. ولَعَلَّهُ أسْلَمَ بَعْدَ الهِجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: ”«كُنْتُ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ في غارٍ» “ مُقارِنًا لِقَوْلِ المُشْرِكِينَ:

صفحة ٣٩٤

”وقَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ“ . ولَعَلَّ جُنْدُبًا رَوى حَدِيثَيْنِ جَمَعَهُما ابْنُ عُيَيْنَةَ. وقِيلَ: إنَّ كَلِمَةَ ”في غارٍ“ تَصْحِيفٌ، وأنَّ أصْلَها: ”كُنْتُ غازِيًا“ . ويَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ جَمَعَ حَدِيثَيْنِ.

وعُدَّتْ هَذِهِ السُّورَةُ حادِيَةَ عَشْرَةَ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الفَجْرِ وقَبْلَ سُورَةِ الِانْشِراحِ.

وعَدَدُ آيِها إحْدى عَشْرَةَ آيَةً.

وهِيَ أوَّلُ سُورَةٍ في قِصارِ المُفَصَّلِ.

* * *

إبْطالُ قَوْلِ المُشْرِكِينَ إذْ زَعَمُوا أنَّ ما يَأْتِي مِنَ الوَحْيِ لِلنَّبِيءِ ﷺ قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ.

وزادَهُ بِشارَةً بِأنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الأُولى عَلى مَعْنَيَيْنِ في الآخِرَةِ والأُولى، وأنَّهُ سَيُعْطِيهِ رَبُّهُ ما فِيهِ رِضاهُ، وذَلِكَ يَغِيظُ المُشْرِكِينَ.

ثُمَّ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِما حَفَّهُ بِهِ مِن ألْطافِهِ وعِنايَتِهِ في صِباهُ وفي فُتُوَّتِهِ وفي وقْتِ اكْتِهالِهِ، وأمَرَهُ بِالشُّكْرِ عَلى تِلْكَ النِّعَمِ بِما يُناسِبُها مِن نَفْعٍ لِعَبِيدِهِ وثَناءٍ عَلى اللَّهِ بِما هو أهْلُهُ.