﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ .

الفاءُ فَصِيحَةٌ تُفْصِحُ عَنْ كَلامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ التَّقْرِيرِيُّ هُنا، أيْ: إذا عَلِمْتَ هَذا وتَقَرَّرَ، تَعْلَمُ أنْ اليُسْرَ مُصاحِبٌ لِلْعُسْرِ، وإذْ كانَ اليُسْرُ نَقِيضَ العُسْرِ كانَتْ مُصاحَبَةُ اليُسْرِ لِلْعُسْرِ مُقْتَضِيَةً نَقْضَ تَأْثِيرِ العُسْرِ ومُبْطِلَةً لِعَمَلِهِ، فَهو كِنايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ إدْراكِ العِنايَةِ الإلَهِيَّةِ بِهِ فِيما سَبَقَ، وتَعْرِيضٌ بِالوَعْدِ بِاسْتِمْرارِ ذَلِكَ في كُلِّ أحْوالِهِ.

وسِياقُ الكَلامِ وعْدٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأنْ يُيَسِّرَ اللَّهُ لَهُ المَصاعِبَ كُلَّما عَرَضَتْ لَهُ، فاليُسْرُ لا يَتَخَلَّفُ عَنِ اللَّحاقِ بِتِلْكَ المَصاعِبِ، وذَلِكَ مِن خَصائِصِ كَلِمَةِ (مَعَ) الدّالَّةِ عَلى المُصاحَبَةِ.

وكَلِمَةُ (مَعَ) هُنا مُسْتَعْمَلَةٌ في غَيْرِ حَقِيقَةِ مَعْناها؛ لِأنَّ العُسْرَ واليُسْرَ نَقِيضانِ فَمُقارَنَتُهُما مَعًا مُسْتَحِيلَةٌ، فَتَعَيَّنَ أنَّ المَعِيَّةَ مُسْتَعارَةٌ لِقُرْبِ حُصُولِ اليُسْرِ عَقِبَ حُلُولِ العُسْرِ أوْ ظُهُورِ بَوادِرِهِ، بِقَرِينَةِ اسْتِحالَةِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ لِلْمَعِيَّةِ. وبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ التَّعارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: ٧]) في سُورَةِ الطَّلاقِ.

فَهَذِهِ الآيَةُ في عُسْرٍ خاصٍّ يَعْرِضُ لِلنَّبِيءِ ﷺ وآيَةُ سُورَةِ الطَّلاقِ عامَّةٌ، ولِلْبَعْدِيَّةِ فِيها مَراتِبُ مُتَفاوِتَةٌ.

فالتَّعْرِيفُ في ”العُسْرِ“ تَعْرِيفُ العَهْدِ، أيِ: العُسْرُ الَّذِي عَهِدْتَهُ وعَلِمْتَهُ، وهو مِن قَبِيلِ ما يُسَمِّيهِ نُحاةُ الكُوفَةِ بِأنَّ (ألْ) فِيهِ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿فَإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى﴾ [النازعات: ٤١]) أيْ: فَإنَّ مَعَ عُسْرِكَ يُسْرًا، فَتَكُونُ السُّورَةُ كُلُّها مَقْصُورَةً عَلى بَيانِ كَرامَةِ النَّبِيءِ ﷺ عِنْدَ رَبِّهِ تَعالى.

صفحة ٤١٤

وعَدَ اللَّهُ تَعالى نَبِيئَهُ ﷺ بِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ الأُمُورَ العَسِرَةَ عَلَيْهِ يَسِرَةً لَهُ وهو ما سَبَقَ وعْدَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: (﴿ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى﴾ [الأعلى: ٨]) .

وحَرْفُ (إنَّ) لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ.

وإنَّما لَمْ يُسْتَغْنَ بِها عَنِ الفاءِ كَما يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ: (إنَّ) تُغْنِي غَناءَ فاءِ التَّسَبُّبِ؛ لِأنَّ الفاءَ هُنا أُرِيدَ بِها الفَصِيحَةُ مَعَ التَّسَبُّبِ فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلى حَرْفِ (إنَّ) لَفاتَ مَعْنى الفَصِيحَةِ.

وتَنْكِيرُ (يُسْرًا) لِلتَّعْظِيمِ، أيْ: مَعَ العُسْرِ العارِضِ لَكَ تَيْسِيرًا عَظِيمًا يَغْلِبُ العُسْرَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا وعْدًا لِلنَّبِيءِ ﷺ ولِأُمَّتِهِ؛ لِأنَّ ما يَعْرِضُ لَهُ مِن عُسْرٍ إنَّما يَعْرِضُ لَهُ في شُئُونِ دَعْوَتِهِ لِلدِّينِ ولِصالِحِ المُسْلِمِينَ.

ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ ومَعْمَرٍ عَنِ الحَسَنِ عَنِ النَّبِيءِ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾) قالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: ”«أبْشِرُوا أتاكُمُ اليُسْرُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» “ فاقْتَضى أنَّ الآيَةَ غَيْرُ خاصَّةٍ بِالنَّبِيءِ ﷺ بَلْ تَعُمُّهُ وأُمَّتَهُ. وفي المُوَطَّأِ ”أنَّ أبا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرّاحِ كَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وما يَتَخَوَّفُ مِنهم، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: أمّا بَعْدُ: فَإنَّهُ مَهْما يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِن مَنزِلِ شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا، وإنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ“ .

ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَزّارُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عائِذِ بْنِ شُرَيْحٍ قالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ يَقُولُ: ”«كانَ النَّبِيءُ ﷺ جالِسًا وحِيالَهُ حَجَرٌ، فَقالَ: لَوْ جاءَ العُسْرُ فَدَخَلَ هَذا الحَجَرَ لَجاءَ اليُسْرُ حَتّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا» ) قالَ البَزّارُ: لا نَعْلَمُ رَواهُ عَنْ أنَسٍ إلّا عائِذَ بْنَ شُرَيْحٍ، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ قالَ أبُو حاتِمٍ الرّازِيُّ: في حَدِيثِ عائِذِ بْنِ شُرَيْحٍ ضَعْفٌ.

ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾) مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ (﴿ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤]) وجُمْلَةِ (﴿فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ﴾ [الشرح: ٧]) تَنْبِيهًا عَلى أنَّ اللَّهَ لِطَيْفٌ بِعِبادِهِ، فَقَدَّرَ أنْ لا يَخْلُوَ عُسْرٌ مِن مُخالَطَةِ يُسْرٍ وأنَّهُ لَوْلا ذَلِكَ لَهَلَكَ النّاسُ، قالَ تَعالى: (﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ﴾ [النحل: ٦١]) .

صفحة ٤١٥

ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى:“ خَلَقْتُ عُسْرًا واحِدًا وخَلَقْتُ يُسْرَيْنِ، ولَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ”اهـ.

والعُسْرُ: المَشَقَّةُ في تَحْصِيلِ المَرْغُوبِ والعَمَلِ المَقْصُودِ.

واليُسْرُ ضِدُّهُ وهو: سُهُولَةُ تَحْصِيلِ المَرْغُوبِ وعَدَمُ التَّعَبِ فِيهِ.

وجُمْلَةُ (﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾) مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾) وفائِدَةُ هَذا التَّأْكِيدِ تَحْقِيقُ اطِّرادِ هَذا الوَعْدِ وتَعْمِيمُهُ؛ لِأنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ.

ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن جَعَلَ اليُسْرَ في الجُمْلَةِ الأُولى يُسْرَ الدُّنْيا، وفي الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ يُسْرَ الآخِرَةِ، وأُسْلُوبُ الكَلامِ العَرَبِيِّ لا يُساعِدُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ مُتَمَحِّضٌ لِكَوْنِ الثّانِيَةِ تَأْكِيدًا.

هَذا وقَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ:“ «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» ”قَدِ ارْتَبَطَ لَفْظُهُ ومَعْناهُ بِهَذِهِ الآيَةِ. وصُرِّحَ في بَعْضِ رِواياتِهِ بِأنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ حِينَئِذٍ، وتَضافَرَ المُفَسِّرُونَ عَلى انْتِزاعِ ذَلِكَ مِنها فَوَجَبَ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ، وشاعَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ ذَلِكَ مُسْتَفادٌ مِن تَعْرِيفِ كَلِمَةِ العُسْرِ وإعادَتِها مُعَرَّفَةً ومِن تَنْكِيرِ كَلِمَةِ يُسْرٍ وإعادَتِها مُنَكَّرَةً، وقالُوا: إنَّ اللَّفْظَ النَّكِرَةَ إذا أُعِيدَ نَكِرَةً فالثّانِي غَيْرُ الأوَّلِ، وإذا أُعِيدَ اللَّفْظُ مَعْرِفَةً فالثّانِي عَيْنُ الأوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: (﴿كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [المزمل: ١٥] ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: ١٦]) .

وبِناءُ كَلامِهِمْ عَلى قاعِدَةِ إعادَةِ النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً خَطَأٌ؛ لِأنَّ تِلْكَ القاعِدَةَ في إعادَةِ النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً لا في إعادَةِ المَعْرِفَةِ مَعْرِفَةً، وهي خاصَّةٌ بِالتَّعْرِيفِ بِلامِ العَهْدِ دُونَ لامِ الجِنْسِ، وهي أيْضًا في إعادَةِ اللَّفْظِ في جُمْلَةٍ أُخْرى، والَّذِي في الآيَةِ لَيْسَ بِإعادَةِ لَفْظٍ في كَلامٍ ثانٍ، بَلْ هي تَكْرِيرٌ لِلْجُمْلَةِ الأُولى، فَلا يَنْبَغِي الِالتِفاتُ إلى هَذا المَأْخَذِ، وقَدْ أبْطَلَهُ مِن قَبْلُ أبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ الجُرْجانِيُّ في كِتابِ النَّظْمِ كَما في

صفحة ٤١٦

مَعالِمِ التَّنْزِيلِ. وأبْطَلَهُ صاحِبُ الكَشّافِ أيْضًا، وجَعَلَ ابْنُ هِشامٍ في مُغْنِي اللَّبِيبِ تِلْكَ القاعِدَةَ خَطَأً.

والَّذِي يَظْهَرُ في تَقْرِيرِ مَعْنى قَوْلِهِ“ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ”أنَّ جُمْلَةَ (﴿إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾) تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾) . ومِنَ المُقَرَّرِ أنَّ المَقْصُودَ مِن تَأْكِيدِ الجُمْلَةِ في مِثْلِهِ هو تَأْكِيدُ الحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الخَبَرُ. ولا شَكَّ أنَّ الحُكْمَ المُسْتَفادَ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ هو ثُبُوتُ التِحاقِ اليُسْرِ بِالعُسْرِ عِنْدَ حُصُولِهِ، فَكانَ التَّأْكِيدُ مُفِيدًا تَرْجِيحَ أثَرِ اليُسْرِ عَلى أثَرِ العُسْرِ، وذَلِكَ التَّرْجِيحُ عُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ في قَوْلِهِ“ يُسْرَيْنِ " فالتَّثْنِيَةُ هُنا كِنايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنِ التَّغَلُّبِ والرُّجْحانِ، فَإنَّ التَّثْنِيَةَ قَدْ يُكَنّى بِها عَنِ التَّكْرِيرِ المُرادِ مِنهُ التَّكْثِيرُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤]) أيِ: ارْجِعِ البَصَرَ كَثِيرًا؛ لِأنَّ البَصَرَ لا يَنْقَلِبُ حَسِيرًا مِن رَجْعَتَيْنِ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ العَرَبِ: لَبَّيْكَ، وسَعْدَيْكَ، ودَوالَيْكَ. والتَّكْرِيرُ يَسْتَلْزِمُ قُوَّةَ الشَّيْءِ المُكَرَّرِ، فَكانَتِ القُوَّةُ لازِمَ لازِمِ التَّثْنِيَةِ، وإذا تَعَدَّدَتِ اللَّوازِمُ كانَتِ الكِنايَةُ رَمْزِيَّةً.

ولَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَفادًا مِن تَعْرِيفِ العُسْرِ بِاللّامِ ولا مِن تَنْكِيرِ اليُسْرِ وإعادَتِهِ مُنَكَّرًا.